Skip to main content

Full text of "398 إشكالية الأنا والآخر Pdf كتاب S"

See other formats




اشكالية الانا والآخر 


(نماذج روائية عربية) 


تأليف: د . ماجدة حمود 





اک 
سلسلة كتب ثقافية شهرية يجدرها المجلس الوطن> لأنقافة والفنون والآداب - الكوية 
صدرت السلسلة في يناير 1978 
أسسها أحمد مشاري العدواني (1990-1923) ود.فؤاد زكريا (2010-1927) 
398 


إشكالية الأنا والآخر 


(نماذج روائية عربية) 


تأليف: د. ماجدة حمود 





سعرالنسخة 


الكويت ودول الخليج دينار كويتي 
الدول العريية ما يعادل دولارا أمريكيا 
خارج الوطن العريي أريعة دولارات أمريكية 
الاشتراكات 

ألا دولةالكويت 

للأفراد 5.ك 
للمؤسسات 5د .ك 
دول الخليج 
للأغراد 7.ك 
للمؤسسات 0.ك 
الدول العربية 

. للأفراد 5 دولارا أمريكيا 

للمؤسسيات 0 دولارا أمريكيا 
خارج الوطن العربي 
للأفراد 0 دولارا أمريكيا 
للمؤسسات 0 دولار أمريكي 


تسدد الاشتراكات مقدما بحوالة مصرفية باسم 
المجلس الوطني للثقافة والفتون والآداب وترسل 
على العنوان التالى: 
السيد الأمين العام 
للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 
ص. ب: 28613 - الصفاة 
الرمز البريدي 13147 
دولة الكويت 
تليفون: 22431704 (965) 
فاكس: 22431229 (965) 
www. kuwaitculture. org. kw‏ 


ISBN 978 - 99906 - 0 - 384 - 2‏ 
رقم الإيداع (2013/53) 








إشكالية الآنا والآخر 


(نماذج روائية عربية) 


تأليف: د. ماجدة حمود 


طبع من هذا الكتاب ثلاثة وأريعون ألف نسخة 


ربيع الآخر 1434 ه ‏ مارس 2013 











المواد المنشورة في هذه السلسلة تعبرعن رأي كاتبها 
ولا تعبربالضرورة عن رأي المجلس 





االمحتوى 


| ْ 0 0 ا 0 0 لك 51 





ا الثالت: 
الان الأفريقية والآخر فى رواية: حجول 


من شو ك» للروائية بثينة + خضرمكي ْ ٍ 0 ْ 1 


الفصل الرايغ: 
الأنا والآخرالصهيوني في رواية سحرخليفة 
ا ۰ 103 











ما مدى تأثير الرؤية المتعددة 
في ر سم شخصية ة روائية 
تحسد ان أو الآخروانعكاس 


ذلك على حيويتها؟» 


الؤلفة 





تركت أحداث سبتمبر 2001 بصمتها 
على الضمير العربيء مما أرق الفكر 
والإبداع» لذلك من الطبيعي أن يزداد طرح 
إشكالية «الأنا» و«الآخر» في الرواية العربية, 
فقد زاد حرص ائذات العريية على تأكيد 
هويتهاء والدفاع عنها في مواجهة تهمة 
الإرهاب. التي ألحقها الآخر الغربي بهاء 
بعد أن شاع لديه الرّهاب منها أي «الإسلام 
فوبيا» فاستمرٌ في اختزال «الأنا» العربية 
في صورة نمطية مشوهة., كانت قد بدأت 
بالظهور منذ بداية الاحتكاك بينهما في 
القرن الثامن عشر. 

من هنا تأتي أهمية دراسة صوت 
«الأنا» في مواجهة صوت «الآخر» في 
الرواية العربية في كتاب» وكي تتضح هذه 
الإشكالية اختيرت الفترة المعاصرة؛ أي 
في العقد الأول من الألفية الثالثة (2001 


7 





إشكالية الأنا والآخر 


- 2009). حيث صدرت فيها معظم الروايات المدروسة في هذا الكتابء 
ما عدا رواية «أرض السواد» لعبدالرحمن منيفء التي صدرت فبل ذلك 
بقليل في 1999. 

حاولت هذه النماذج من الرواية العربية» أن تجسّد الرغبة في فهم 
الآخر. الذي بدا في هيئة العدو (المستعمرء الصهيوني) مثلما تبدذى في هيئة 
الصديق والزوج والخادم! لذلك ستهتم الدراسة بكلا النموذجين؛ وستحاول 
الإجابة عن الأسئلة التالية: هل لجأت الرواية العربية إلى بناء جسور التفاهم 
بين «الأنا» و«الآخر»؟ وكيف5 وما مدى حضور لغة العنف فى تجسيد إشكالية 
«الأنا» والآخر؟ 1 

ولعل من إنجازات هذه الدراسة توسيع «مفهوم الآخر» في الرواية 
العربيية. إذ لم يعد مقتصرا على الغربي» فلفتت النظر إلى أن ثمة «آخر» 
تعاشره «الأنا العربية», خاصة الأفريقي والآسيويء ويشكل جزءا أساسيا من 
نسيجها الاجتماعي؛ فيبدو مؤثرا في صلب حياتها اليومية؛ ولكن السؤالء 
الذي سيتعين على الدراسة الإجابة عنه: من هو الآخر الأكثر حضورا في 
الروايات المدروسة؟ 1 

لا بد» هناء أن يطرح علينا السؤال التالي: لم اختارت الدراسة: من أجل 
تسليط الضوء على هذه الإشكالية الفن الروائي؟ 

إن هذا الفنء يمستطيع: عبر إمكاناته السردية والجماليةء أن يفضح 
أوهام الذات وانحرافاتها الفكرية والشعورية. خصوصا حين تسجن الآخرين 
في انتماءات ضيقة (مذهبية أو عرقية... إلخ)؛ مثلما يس تطيع التفلفل إلى 
أعماق الروح الإنسانيةء ليبرز قدرتها على تجاوز هذه الانتماءات» والدخول 
إلى عوالم رحبةء تحرّر الإنسان من إكراهات» تربُى عليهاء عندئذ يمكن 
المتلقي أن يعايش مكونات أصيلةء تجمع البشرء ويتبين؛ عبر هذا الفن, 
كيف يتحول الاختلاف إلى رحمة: فيؤسّس لثقافة: ينفتح فيها الإنسان على 
أخيه الإنسان: ويحترم ما يميزه. خصوصا حين يتم التعرّف على المختلف 
الذي يغني العقل البشريء ويبثٌ الحيوية في العلاقات الإنسانيةء كما يتبيّن 
كيف يتحول الاختلاف إلى نقمة. حين يكون الهدف إهانة الآخر المختلف» 
وإقصاءء. كي تؤكد الذات استعلاءهاء حيث ترسم في هيئة من يمتلك 
الحقيقة المطلقة. وبذلك يقرأ الآخر قراءة مغلقة على قول واحد. يرسم 
صورة مشوهة له. فتشيع ثقافة الكراهية؛ التي تنشر ظلمة العمى» حيث 


8 





تمهید 


يتيه فيها العقل؛ وتنفلت الغرائز من عقالهاء فتكون النتيجة تدمير الآخرء 
برأيي» مما يعني تدمير الذات! 

وهكذا فإن ذراسة هذه الإش كالية:؛ تتيح لنا فهم خصوصية «الأنا» التي 
تتشوه؛ حين تقوم على تعظيم الذات, وتنطلق م. من نظرة واحدة إقصائيةء تحتقر 
كل من يختلف معها. مثلما تتيح لنا فهم خصوصية الآخر المختلف. الذي 
يبدو ديموقراطيا في حياته الخاصة وفي إبداعه الروائي؛ لكنه في ممارسته 
السياسية يقهر المختلف عنه. خاصة العربي والمسلم ويصبّه في قالب واحد. 
(الإرهاب» الكسلء القذارةء اضطهاد المرأة...)! 

إن ما يسجل للرواية العربية؛ أنهاء منذ بداياتها الأولى: اهتمت بتسليط 
الضوء على إشكالية الهوية في مواجهة الآخرء كما في رواية خليل خوري «وي. 
إذن لست بإفرنجي» (العام 1859).: لذلك أرى أن اهتمام النقد بدراسة هذه 
الإشكالية هو انعكاس لاهتمام الرواية العربية بها. 

من هنا يحسن أن أشير إلى أن هذه الدراسة لا تدّعي الريادة في تناول 
الآخرضي الرواية العربية: فقد احتفى النقد العربي برصد روايات عُنيت 
ببدايات هذا اللقاء (كتبها رفاعة الطهطاوي» وتوفيق الحكيم... وغيرهما). 
كما في كتاب «المغامرة المعقدة» في العام 6 لحمد كامل الخطيبء و«شرق 
وغرب» العام 1977 لجورج طرابيشي» وقد وجدنا في هذين الكتابين دراسات 
لنصوص مشتركة («عصفور من الشرق» «الحي اللاتيني» «موسم الهجرة 
إلى الشمال» «الأشجار واغتيال مرزوق»...) سيتجنبها نبيل سليمان في كتابه 
«وعي الذات والعالم» (العام 1985): فقد درس نصوصا روائية ظهرت في 
فترة السبعينيات والثمانينيات: لم تدرس من قبل. 

أما كتاب «الأنا والآخر في الرواية العربية» (العام 1994) لمنصور قيسومة 
فقد اقتصر على دراسة ثلاث روايات. كان النقد. قد تناولها سابقا: «عصفور 
من الشرق» لتوفيق الحكيم, «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و«موسم الهجرة 
إلى الشمال» للطيب صالح. 

وفي فترة لاحقة ظهرت عدة كتب منها «الذات والمهماز: دراسة 
التقاطب وصراع روايات المواجهة الحضارية» (1998) لمحمد نجيب 
التلاويء و«صورة الغرب في الرواية العريية» لسالم المعوش (1998). ولو 
تأملنا الكتاب الأول للاحظنا أنه اهتم بدراسة الروايات التي صدرت في 
السبعينيات والثمانينيات: وقد اهتم بدراسة الذات العربية في علاقتها 


9 





إشكالية الأنا والآخر 
بالآخرء (المهمازء أي المحمّز). فكان تسليط الضوء على العلاقة المتوترة بين 
الذات والآخرء وإهمال العلاقة المتسامحة. يسجل لهذه الدراسة الاهتمام 
بالجانب الفني للعلاقة بين «الأنا والآخر» أكثر من الدراسات السابقةء فقد 
وجدناه يخصص فصلا خاصا لها بعنوان «الشكول الفنية لروايات المواجهة 
الحضارية» وإن كان يؤّخد عليها الفصل بين الشكل والمضمونء أي الفصل 
بين المقولة الفكرية والجماليةء مما يسيء إلى تفاع ل المتلقي؛ برأيي؛ مع 
النص الروائي المدروس. 

وبعد فترة ظهر كتاب «اليهودي في الرواية العربية» (2002) لحسين أبو 
النجاء سط فيه الضوء على الآخر الدينيء وقد درس هذا الكتاب روايات 
ظهرت بعد هذه الفترة» رواية سحر خليفة «ربيع حار» (2004) وكذلك رواية 
علي المقري «اليهودي الحالي» ظهرت في العام 09.. 

أما كتاب «العرب والفرب في الرواية العربية» (2004) تحسن عليان: فقد 
اهتم بانبهار «الأنا » بالغرب. وخسارة الذات» والأنا المتضخمة وعقدة التفوق, 
وصرع الحضارات» وقد خصّص نحو نصف الكتابء (أربعة فصول من 
تسعة). لتناول هموم المرأة العريية ومقارنتها بالمرأة الفربية! ويلاحظ المتأمل 
اهتمام المؤلف بالإضافة إلى روايات الرواد؛ بروايات ظهرت في الثمانينيات 
والتسعينيات. ويسجل لهذا الكتاب تفرّده عن تلك الكتب الأخرى بالاهتمام 
بالرواية الجزائريةء لدى الرواد من كثابهاء عرعار محمد العاليء الطاهر وطار 
من دون أن يدرس واسيني الأعرج» لذلك اهتمت هذه الدراسة بتناول إحدى 
رواياته «كتاب الأمير». 

وتحسن الإشارة إلى أن كتاب حسن عليان يشارك هذه الدراسة في تناول 
ثلاثية «أرض السواد» وإن كان المؤلف قد اهتم بتسليط الضوء على المواجهة 
والصراع مع الآخرء وتبيان عنجهيتهء ومحاولة قهره للحاكم (داوود باشا) في 
حين اهتمت هذه الدراسة بتحليل لغة الأنا (الجمعية والفردية) في مواجهة لغة 
الآخرا من دون أن تنسى ربط هذه اللغة بالمكونات الجمالية الأخرى (العنوان, 
الفضاء المكانيء التناص...). 

إن المتأمل يلاحظ أن معظم هذه الكتب» قد اهتمت بأسماء محددة 
(الطهطاويء توفيق الحكيم. سهيل إدريسس...) ولعل الاهتمام النقدي الأكبر 
نالتهء وماتزالء رواية سودانية؛ ظهرت في القرن العشرينء هي رواية «موسم 
الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح؛ فقد تكررت دراستها بصورة لافتة, ولم 


10 





تمهيده 

تهتم الكتب السابقة بدراسة رواية سودانية أخرى, لهذا لفتت الأنظار إلى 
رواية «حجول من شوك» للروائية بثينة خضر مكي 

إن ما يوّخذ على معظم هذه الدراسات اهتمامها بالآخر الغربي من 
جهة الصراع الحضاريء ومواجهة المستعمرء أي تسليط الضوء على العلاقة 
السلبية معه. وعدم رصد العلاقة الإيجابية: لهذا اهتمت هذه الدراسة بتتوّع 
العلاقة., كما اهتمت بتناول «الآخر» من خلال تشابكات علاقته ب«الأنا 5 
إذ إن صورة الآخر وتمثيلاتهاء لا يمكن أن تتضح بمعزل عن صورة «الأنا» 
وتمثيلاتهاء لعلها تلفت نظر الدراسات, التي بدأت تكشر حول الآخر في 
الرواية العربية؛ إلى ضرورة أن تدرس إشكالية علاقته بدالأنا» كي تتوضح 
ملامح «الأنا» والآخر معا . 

ولو تأملنا الفترة المدروسة في الدراسات السابقةء لوجدناها في القرن 
العشرين؛ في حين يلاحظ أن معظم الروايات: التي تناولها هذا الكتاب؛ كتبت 
إثر أحداث سبتمبر 2001 أي في الفترة التي زاد فيها تشوّه الذات العربية من 
قبل الآخر. وحشرها في خانة الإرهاب! 

وقد حاولتٌ في هذه الدراسة اختيار نماذج تمثل ثمانية بلدان عربية 
(الكويت؛ السعودية اليمن. سورية؛ فلسطين. مصرء السودانء الجزائر) فكان 
نصيب كل بلد رواية واحدة. 

إن اقتصار الدراسة على هذه الدول وهذه النماذج: لا يمكن أن يعني 
استهانة بأهمية إبداع الدول الأخرى؛ وبروائيين آخرين. بل يعني رغبة في 
دراسة نموذج واحد للكتابة؛ يمثل أحد البلاد العربية؛ ليبرز جهد الروائي في 
تقديم إشكالية «الأنا» و«الآخر» وبذلك يُعطى حقه من التعمّق والتحليلء لهذا 
أتمنى أن تسعفني الأيام امقبلةء فأتمكن من دراسة نماذج لبلاد عربية أخرى, 
لم أستطع تناول إبداعها الروائي في هذا الكتاب. 

لعل من إنجازات هذه الدراسة تنوّع اهتمامها بعدة بلدان عربية؛ وعدم 
تركيزها على بلدان؛ یری بعض الدارسين أنها مركزية فحاولت أن تلفت النظر 
إلى إبداع دول» كثيرا ما أهملها النقد العربي مثل اليمن والجزائر... 

ومما قد يعد إنجازاء في رأي البعض: أن يس لط الضوء على نماذج روائية 
نسوية: تعادل النماذج الذكورية (أربعة نماذج لكل جنس)» خاصة بعد أن لوحظ. 
مع بداية الألفية الثالثة, اهتمام الرواية النسوية العربية بتقديم إشكالية الهوية 
في مواجهة الآخر. 


11 





إشكالية الأنا والآخر 


ومما تحسن الإشارة إليهء هناء أن ثمة أمرا فاجأني ولم أتعمّده» هو تساوي 
عدد الروايات التاريخية التي تجسد إشكالية «الأنا» بالآخر («أرض السواد» 
«خارطة حب» «اليهودي الحالي» «كتاب الأمير»). مع الروايات الواقعية «بعيدا 
إلى هنا» «حجول من شوك» «ربيع حار» «سهرة تنكرية للموتى»). 

لعل من إنجازات هذا الكتاب الاستفادة من تقنية تعدد الأصوات ضي 
الرواية في دراسة إشكالية الأنا والآخرء فهيء في رأيي» من أنسب التقنيات, 
التي تستطيع تجسيد هذه الإشكاليةء لذلك عُنيتٌ بدراسة صوت «الأنا» 
ووجهة نظرهاء وميّزث بين «أنا الشخصية» و«أنا المؤلف» لنتبيّن مدى هيمنة 
الصوت الواحد؛ الذي هو صوت المؤلفء على الشخصية: لهذا حاولت الإجابة 
عن التساؤلات التالية: 

ما مدى انعكاس هيمنة الصوت الواحد على جماليات الشخصية؛ وتجسيد 
خصوصيتها؟ أي ما مدى حرمانها من سياقها التاريخي والثقاضي؟ 

مامدى تأثير الرؤية المتعددة في رسم شخصية روائية تجسّد «الأنا» 
أو «الآخر» وانعكاس ذلك على حيويتها؟ وهل اس تطاعت الرواية بفضل هذه 
الرؤية تسليط الضوء على علاقة «الأنا» بالآخر بطريقة موضوعية؟ 

لهذا حاولتٌ تتبّع صوت «الأنا» و «الآخر» عبر تحليل اللغة وما يتعلّق بها 
من مكونات سردية (العنوان» الفضاءء الاسم» الضميرء الحوار...) من دون 
أن يعني ذلك إهمال الاستفادة من المناهج النقدية الأخرى (المنهج النفسي»: 
المنهج الاجتماعي, المنهج الأسطوري...) التي قد تفرضها الرواية المدروسة, 
كما اهتممثٌ بالاستفادة من نظرية التلقي في تتبع إشكالية «الأنا» و«الآخر, 
لأن قلق الانتماء والهوية وأزمة اللقاء بالآخر. هي تحديات يواجهها المتلقي 
العربي اليومء وهو يحاول النهوض بذاتهء فيحاول أن يغني هويته بالتواصل مع 
هذا الآخر. ويحافظ في الوقت نفسه عليهاء فيتصدى لكل من يريد مسخها. 

أخيرا حاولت أن أبذل جهدي في تحليل هذه الإشكالية عبر لغة موضوعية, 
مثلما حاولت ذلك في طريقة العرضء لهذا رتبت فصول الكتاب وفق الترتيب 
الأبجدي لأسماء الروائيين. 

لا يمكن لهذه الدراسة أن تدّعي الكمال. فهي محاولة في تقديم 
إشكالية. كانت تؤرقناء ومازالت» آمل أن تفسح مجالا لدراسات أكثر نضجاء 


. وأكثر تنوعا‎ 
HF HF #H 


12 





أل 

«إن أجدادنا لم يشعروا 
بالخوف على هويتهم؛ حين 
انفتحوا على ثقافة الآخر, 
لأنهم كانوا أقوياء واثقين 
بأنفسهم حتى عصر النهضة» 


المؤلفة 


بدأ سؤال الهوية يؤرق الإنسان العربي 
نتيجة احتكاكه بالآخرء الذي سبقه 
حضارياء وبدأ يهدّد وجوده. حين زحف 
إلى الشرق مستعمرا. إذ إن المرء لا يدرك 
أهمية هويتهء إلا في لحظة مأزومةء يواجه 
فيها المختلف. عندئذ يرتد إلى مكوناته 
الأصليةء التي تمنحه الإحساس بوجوده 
أي بتميّزه واختلافه عن الآخرء فيحسٌ 
بضرورة الحفاظ على هذه المكونات: مهما 
كانت التحديات! إذ كلما احتدت المواجهة 
مع الغيرء زاد المرء تمسكا بمكونات هويته 
وخصوصيته . حتى تكاد تصبح «أناه» وهذه 
المكونات شيتا واحدا! 
ولكن ماذا تعني الهوية؟ هل هي مفهوم 
ثابت» ضيقء مغلق على ذاته؟ أم هي مفهوم 
منفتح على الآخر بقدر انفتاحه على ذاته؟ 
هل يمكن أن تتشكل هوية بمعزل عن 
13 





إشكالية الأنا والآخر 


الآخر؟ كيف تتكوّن الخصوصيةة؟ هل يهددها الانفتاح على الآخر أم يغنيها؟ 
ترى من المسؤول عن النظرة الضيقة للهوية؟ هل هو الأنا أم الآخر؟ أليس 
المسؤول عنها كل من يتمركز حول ذاتهء ويمسخ غيره في صور نمطية؛ 
تلغي إنسانيته؟ أليس كل من يدور حول جملة من الثوابت والأوهام. ويجعل 
الآخر نقيضا له5 ألا يعزز الفكر الاستعماريء ومايزالء المركزية الغربية؟ 
ويؤسس لهوية ضيقة الملامح» تعزز الصراع؛ وتقضي على بناء جسور 
التفاهم؟ لكن أليس من الخطأ وضع الآخر الغربي في سلة واحدة, ألا 
نجد بينه أصدقاء. مثلما نجد أعداء؟ ألا يولد الاستعلاء لدى الأنا استعلاء 
لدى الآخرة ترى آلا تتأثر هذه النظرة بالظروف التاريخية والاجتماعية 
والثقافية5 ألا تبرز النظرة الضيقة لدالأنا» أثناء الخطر الخارجيء فتكثر 
الصور التمطية للآخر, التي تصبه في قوالب جامدة ومشوهة5! 

لعل الرواية من أكثر الفنون قدرة على تجسيد إشكالية الأنا والآخرء إذ 
تتيح الفرصة لصوت «الأنا» للتعبير عما يضطرم في الأعماق من مخاوف 
وآلام وأفكارء فتنطلق في نقد الذات والآخر معاء وإن كنا نلاحظ أن هذا 
النوع من النقدء يمارسه عادة المثقف الغربي أكثر من العربي» لهذا يشكل 
أحد أعمدة النهضة الغربيسة؛ حتى إن تطور الفكر الغربي مدين للنقد 
الذاتي» الذي لا يتوقف المثقف (المفكرء الأديب...) عن ممارسته. 

وكي لا يبدو هذا القول نوعا من جلد الذات» يحسن أن نشير إلى أن 
النظرة الضيقةء يعانيها كل إنسان جاهل في أي زمان ومكان؛ فمن يفتقد 
الثقافة يفتقد سعة الصدرء أي روح التسامح» واحترام الرأي المختلف. 

وبما أن الرواية تعد من أقدر الفنون على تقديم تفاصيل الحياة بكل 
حقائقها وأوهامهاء مما يتيح لنا دراسة إشكالية العلاقة بين «الأنا» والآخر 
فيهاء إذ تستطيع أن تفتح أمام المتلقي طريق فهم الذات والآخر معاء فهي 
قادرة على نبش أعماقنا وتجسيد أفكارنا ومشاعرنا وأحلامناء وطرح ما 
يعترضنا من إشكالات تعانيها «الأنا» في مواجهة الآخر, كل ذلك يفمسح 
المجال لتقديم اضطراب رؤيتنا وقلقنا وإحباطناء فيعكس تطور نظرتنا إلى 
ذواتنا وإلى الآخرء مثلما يعكس أوهامنا وأفكارنا المسبقة التي كثيرا ما 
نجد أنفسنا أسرى لها. إذ تشكل أسس تصرفاتنا وعلاقاتنا مع الآخر. 


14 





مقدمة 


إذن يفسح اتساع الفضاء الروائي المجال أمامناء كي نتأمل هواجسنا 
ووجهات النظر المتعددة, التي نواجهها في الحياة, وتثير أسئلة حول 
«الأنا» وأزمات تعترض تش كيل الهويةء التي من بينها إشكالية العلاقة 
مع الآخر, فتبرز التشوّه الذي يحاصرناء مثلما يحاصر الآخرء وبذلك 
تتفلغل الرواية في الأعماق؛ لتناقش الإكراهات التي تعشش في 
اللاوعي. فتقتحم المخبوء في تصوّر الذات والآخرء ويذلك نتعرّف 
على تلك القيود والأوهام»ء التي قد تحاصر إنسانية الإنسانء وتسقطها 


تعريف الهوية ٠‏ 

حين يحس المرء بأن ثمة ما يهدد وجوده» يسرع إلى تأكيد ذاته 
باحثا عن شيء أصيل كامن في أعماقه. يركن إليه. كي يحس الثقة 
والأمان والقوة لمواجهة الخطرء وبذلك تتشكل الهوية في أدغال الذات: 
حيث تتجسد عبر انتماءات ومكونات تتعلق بالجنس والعمر والطبقة 
الاجتماعية والموروث الثقافي. الذي يشكل ركيزة أساسية فيهاء مما 
يجعل الآخر المعتديء يهتم بالقضاء عليهاء أي على كل الثوابت التي 
تشكل الروح والوعي» حينئذ يسهل القضاء على الخصوصية:. لذلك 
اعتتت بها الشعوب المتحررة حديثاء كما بين لنا د . زكي نجيب محمود, 
إذ إن الهوية الخاصة «لا تصان... إلا بأن يتمسك الشعب بثقافته التي 
ورثها عن أسلافه. أي في العقيدة وفي اللفة وفي الفنء وفي الأدب, 
وفي كثير من النظم الاجتماعية» (0. 

إن الهوية هي ما يصمد من الإنسان عبر الزمنء إذ تلازمه مكونة 
شخصیتهء ومحددة معالمه بشكل ثابت؛ مما يمنح إبداعه طابعا خاصاء 
فلا يكون مسخا للآخرينء لهذا تعد شرطا ملازما للفرد. يؤثر في 
الجماعة, ويمنحها سمة خاصة بهاء لذا لا نستطيع فصل «الأنا» 
عن «النحن» لأن الهوية تحقق شعورا غريزيا بالانتماء إلى الجماعة 
والتماهي بهاء فتتبادل معها الاعتراف. وبذلك لا يمكن اختزالها في 
تعريف صاف وبسيط. 


15 





إشكائية الأنا والآخر 


الهوية بين مفهومي الانغلاق والانفتاح 

إن المثقف لا يمكن أن يرى في الهوية تقوقعا على الذات,. كما أنه لا 
يمكن أن يرفض الانفتاح على الآخرء من أجل الحفاظ على مكوناتهاء لأن 
ذلك يعني الجمود والضعف والانحطاط؛ مما يناقض مفهوم الثقافة, الذي 
يقوم على التطور والاعتراف بكل معرفة جديدة. لذلك بدأ المثقف» سواء 
أكان مفكرا أم روائيا (الذي من المفروض أن يكون مفكرا) يرفض قمع إرادة 
التغيير وعرقلة أي محاولة لاختراق الحواجز العقائدية والعرقية التي تقيمها 
«الأنا». لأن الذات الخائفة من الامّحاءء تزداد تقوقعا على نفسهاء ورفضا 
للآخر, لكن المثقف الحقيقي يتجاوز هذه الرؤية المغلقةء ويبتعد عن التعامل 
مع مكونات هويته القومية بصفتها جوهرا ماورائيا أو عنصرا نقيا أو بنية 
ثابتة أو حقيقة متعالية أو شعارا مقدساء وبذلك يخرجها من إطارها الجامدء 
وينظر إليها بصفتها شرطا يمكن تغييره؛ أو معطى ينبغي صنعه وتحويله؛ لهذا 
يعد أكثر الناس وعيا بالهويةء وقدرة على تجاوز المألوف, والابتكار, فالمهم ألا 
يحول تعلقه بما يشكل رموزه وهويته من دون ازدهاره وتألقه؛ ومن دون تفرّده 
وإبداعهء فالخصوصية فرادة. تسمح للإنسان بأن يكون عالميا (©. 

من هنا نجد الروائي يرى هويته في إطار من التعدديةء كما قال الروائي 
أمين معلوف حين سئل عن هويته: هل هي فرنسية أم لبنانية؟ أجاب هذا 
وذاك! ليس بمعنى أن نصفه فرنسي ونصفه لبناني؛ لأن الهوية لا تتجزأ 
أبدا إلى أنصاف أو أثلاث؛ بل هي هوية واحدة تتشكل لدی كل شخص «من 
مجموعة من العناصر لا تقتصر بالطبع على تلك المدونة في السجلات 
الرسمية: وهناك بالتأكيد. لدى الأغلبية العظمى من الناس., الانتماء إلى 
تقليد ديني وإلى جنسيةء وأحيانا جنسيتين» وإلى مجموعة إثنية أو لغوية, 
وإلى أكثر اتساعا أو أقلء وإلى مهنة ومؤسسة ووسط اجتماعي... (3. 

إن هذه العناصر المكونة لهوية الشخصية أشبه بالموزثات. لكنها ليست 
فطرية؛ بل هي أقرب إلى المفهوم الاجتماعي» لذلك حين يتهدّد خطر خارجي 
أحد عناصر الهوية (الدين؛ اللغة...) فإنها تختزل في هذا العنصرء لكن في 
الأحوال العادية. لا يمكن لجماعة أو فرد أن يكون حبيس هوية ذات بعد 
واحد» فهي تتميز بطابعها المتقلّب» الذي يمكن أن يخضع لتأملات مختلفة 


16 





مقدمة 


واستخدامات عدة (4) تتأثر بالبيئة الاجتماعية والثقافية, التي بزغت فيهاء 


الهوية بين الأنا وإشكالية الآخر ٠‏ 

إن الآخر هو المختلف في الجنس أو الانتماء الديني أو الفكري أو العرقي» 
وتتضح إشكالية الأنا (العربية: الإسلامية) والآخر الغربي بسبب سوء التفاهم 
والمواجهة السياسية والعسكرية: أما علاقة الذات به من الناحية الثقافية 
والاقتصادية والتقنية» فقد بدت ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. 

وهكذا لا تتضح ملامح الهوية من دون لقاء مع الآخرء إذ إن العزلة 
عنهء تجعلها ذات بعد واحد. فيس رع إليها العطب والجمود» في حين نجد 
اللقاء معهء يمنحها أبعادا مركبةء تنفتح على أكثر من عالم» ولكن هل 
تشكلت هوية «الأنا» في الخطاب العربي عبر لقاء الآخر أم عبر مواجهته؟ 
آم الاثنين معا؟! أليس هذا الآخر هو الغرب المتفوق المسيطر؟ ترى هل 
نستطيع أن ننأى بأنفسنا عنه؟ ألا نعيش أجواء حداثته؛ فنقطف ثمارهاء 
على الرغم من توتر علاقتا معهة! 

إن هذه الإشكالية هي أحد وجوه أزمتنا الذاتية, التي لا حل لها سوى 
تجاوز النظرة الضيقة التي ترى الحداثة الفريية من خلال ثائية الأنا 
والآخر المعتدي؛ فعلينا أن نمارس هويتنا واختلافنا بشكل» نعيد فيه ترتيب 
العلاقة مع ذواتنا ومع الآخر, أي أن نغيّر موقفنا منهما معاء فإذا كنا ننعم 
بإنجازات الغرب منذ زمن. وندخل بفضله اليوم عالم الفضاءء بعد أن 
سيطر عليهء لهذا نجد أنفسنا ملزمين بالتعامل معه على هذا الأساس» 
من دون أن يعني ذلك تقليده والخضوع له (5). 

وقد وجدنا من يدعو إلى نفي الغرب من حياتناء ويرى الهوية العربية 
نقيضا للآخر! وبذلك يبدو خائفا متحصّنا بهاء خاصة حين يواجهه خطر 
خارجي؛ فتضيق نظرته؛ ويلجأ دفاعا عن هويته إلى وضع الآخر في صورة 
نمطيةء فغالبا ما تصب «الأنا» العربية الآخر الغرييء سواء أكان منتميا إلى 
الحكومة أم للشعب» في قالب العدوء الذي يعمل على مسخ هوية الذات, 
واقتلاع خصوصيتها. 


17 





إشكالية الأنا والآخر 


إن مثل هذه الصورة النمطيةء لم تتكون بتأثير العدوان الذي 
تعرضت له «الأنا» اليوم» بل بتأثير حروب الماضي أيضاء مما أنتج 
سوء تفاهم» يكاد يكون موروثاء لذلك مازالت آثاره تتغص العلاقة بيننا 
ويين الآخر. 

إذن شوهت صورة الأنا والآخرء بتأثير الحروب» وبتأثير وسائل الإعلام 
التي يتحكم في أغلبها الآخر الصهيوني (بفضل ال مال الذي يستثمره في 
هذا المجال) لهذا من الطبيعي أن تكثر فيه الصور النمطية المشوهة للأنا 
العربية والمسلمة. 

تبرز خطورة هذه النظرة الضيقةء التي نجدها تدى العرب والغرييين 
معاء في كونها قد تحؤّل الهوية إلى نوع من التحزب والتعصّب. أي إلى 
انفلاق على الذات ورفض الآخر, حتى إننا وجدنا بين العرب من يرقض 
استخدام للناهج العلمية للغرييين بدعوى الحفاظ على الخصوصية. 
كما وجدنا من ينبهر بإنجازات الآخر فيقلّدها إلى درجة فقدان هويته 
الخاصة ومسخها! 

هنا نتساءل: هل هناك من يستطيع: في هذا العصر الذي أصبح قرية 
كبيرةء أن يعزل نفسه في هوية مغلقة؟ لكن الأهم من ذلك الإجابة عن 
السؤال التالي: هل يمكن الانفتاح على الآخر والحفاظ على الهوية في 
الوقت نفسه؟ 

إن العرب حين ينغلقون على ذواتهم بدعوى الهويةء يغلقون أبواب الحياة 
الحديثةء التي تعتمد العلم والمناهج الحديثةء فيعيث ون زمانا غير زمانهم, 
ويبقون عالة على الآخرينء وكي يكونوا أبناء عصرهم فاعلين فيه؛ عليهم 
أن ينفتحوا على الآخر. ويتمثلوا معارفه. من دون مسخ هويتهم: وذلك لن 
يكون إلا بالإبداع» الذي يحقق تحررا حقيقيا من الآخر. سواء أكان غربيا 
أم تراثيا! 

وهكذا فإن أي تطوير للذات في حاجة إلى لقاء مع آخر مختلف. يمكن 
الاستفادة من معارفه. وحتى حين نواجهه. نتعرف على نقاط ضعفناء 
فنندفع إلى تغييرهاء مثلما نتمسك بمزاياناء ويذلك يتبين لنا أن معرفة 
الذات على حقيقتهاء لن تكون إلا عبر الاحتكاك بالآخر. 


18 





مقدمة 


وعلى هذا الأساس إننا لن نستطيع السير في طريق الحداثةء إلا حين 
نستفيد من الاحتكاك بالآخر من دون خوف على هويتناء فنتعلّم المناهج 
التي أوصلته إلى تحقيق إنجازاته العلمية: كما تعلّم هذا الآخر منا في 
الماضيء إذ سعى في الحروب الصليبية» كما يحدثنا أسامة بن منقذ في 
كتابه «الاعتبار»» إلى التعلّم منا فنون الحرب والطعام والعلاج» من دون أن 
يشكل هذا التعلّم خطرا على هويته. 

إذن حين نثق بأنفسناء ونمتلك الوعي بذواتنا والاعتزاز بحضارتتاء 
نستطيع أن نشرّع أبواب الاختيار على أسس معرفية وجماليةء ونبتعد 
عن كل ما يغلق الفكر ويحاصر الوعي» مما يسهم في امتلاك (أنا) 
مبدعة: تواجه أي محاولة لممهخها أو القضاء على خصوصيتهاء وهذا 
مافعله العرب حين كانوا أقوياء «فتحوا ثفورهم جميعا لكل ثقافة تأتي 
من خارج حدودهم أيا ما كان مصدرهاء وهي إن لم تأتهم من تلقاء 
نفسهاء أتوا بها عامدينء جاءتهم «ثقافة» وأرسلوا رسلهم ليجيئوا إليهم 
بثقافةء ولم يخطر لأحد منهم - إلا نادرا - أن يقول إنه «غزو ثقافي» 
وذلك لأنهم كانوا أصحاء أشداء. لا يخشون على أنفسهم لفحة البرد أو 
ضريات الصقيع. 

ولماذا نطوي القرون القهقرى أكثر من ألف عام بحثا عن مثال لما قد 
كان عليه الأسلافء إنه لتكفينا بضع عشرات من السنين؛ لنرسل أبصارنا 
إلى ساحة الرجالء فهذا هو الشيخ محمد عبده يقرأ ما كتب «هانوتو» ليرد 
عليه. ثم سافر إلى إنجلتراء ليلتقي وجها لوجه مع شيخ فلاسفة بريطانيا 
في ذلك العهدء (وهو هربرت سبتنسر)..., (6). 

إن أجدادنا لم يشعروا بالخوف على هويتهم» حين انفتحوا على ثقافة 
الآآخرء لأنهم كانوا أقوياء واثقين بأنفسهمء حتى في عصر النهضة (في 
القرن التاسع عشر) كانوا أكثر ثقة وجرأة في حماية هويتهم؟ ألم نجدهم 
أكشر انفتاحا على الآخرء مما نحن عليه اليوم؟! ألم يكونوا أكثر إيمانا 
بما يشكل ثوابت أمتنا؟ لهذا لم يهب أجدادنا من الحوار» على الرغم من 
اعتزازهم بخصوصيتهم! آلا يكمن العيب في ذواتنا اليوم؛ قبل أن يكمن 
في غيرنا؟! 


19 





[شكالية الأنا والآخر 


الآخروالنظرة الضيقة 

يتضح للمتأمل سوء فهم الآخر للهوية العربية الإسلاميةء حين يضعها ضمن 
إطار ثابت يشمل الحاضر والماضي معاء لذلك افتقد كثير من المستشرقين 
الموضوعيةء حين وظف بعضهم دراساته لخدمة الفكر الاستعماري. فبدأ يعمل 
على إضعاف أهم روابط الهوية في الشرق (اللغة والدين). ألم نجد من يبذل 
جهده في هيمنة لغته على العربية5 ألم نجد من يحصر الدين الإسلامي 
في جدران الفكر الإرهابي واضطهاد المرأة وطفيان الاس تبدادة لهذا انتقد 
إدوارد سعيد افتقاد الباحث الغربيء في أثناء دراسته ثقافة الآخر. شرطين من 
شروط المعرفة العلميةء الأول: هو الإحساس بالمسؤولية تجاه الثقافة أو الشعب 
موضوع الدراسة, والثاني: الموضوعية؛ فهو يتأثر بما هو غير علمي كالعواطف 
والعادات والتقاليد والقيم» التي تربّى عليهاء لهذا لا يمكنه أن يقارب دراسته 
للشرق أو للإسلام إلا من موقع الهيمنة والإقصاءء فيسهم من دون وعي منه 
في تعزيز ثقافة الكراهيةء وينسى واجبه العلمي والأخلاقي في الحيادية. 
ولكن أين هذا الدارس الحياديء الذي يعيش بعيدا عن العواطف القومية كحب 
الوطن والعواطف الخاصة كاليأس؟ لذلك أكد سعيد ضرورة أن يسعى الدارس 
إلى توظيف عقله ومعلوماته» التي حصل عليهاء كي يخترق الحواجز القائمة 
بينه وبين عصر النصء وهي حواجز ثقافية تبعده عن الرؤية الموضوعية: مثلما 
تبعده عن معرفة المجتمعات والثقافضات الأخرىء فلا يتمكن مثلا من التعرّف 
على الإسلام بوصفه خبرة حيوية واقعية؛ يحياها المسلمون» وبذلك تعد المعرفة 
والمعايشة خير وسيلة لفهم الخصوصية 77 بعيدا عن الأوهام المسبّقة. 

إن هيمنة القوة التي تشعر بها «الأنا» تمنحها سلطة الهيمنة على ثقافة 
الآخر وهويته! وبذلك تنتمي المعرفة والفهمء لتفسح المجال إلى فرض 
أحكام مسبقة عليه؛ وهي كما وضحها إدوارد سعيد: 


1[ - الاختزال 

يكاد يختزل الآخر الغربي الصفات الاجتماعية المتعلقة بالأنا «العربية 
الإسلامية» بصفة «الاستبداد» وقد حاولت الدراسات الاستشراقية جعل 
الشرق يعيش ضمن قدر لا فكاك منهء لهذا حاصوته في ثااثة ألو الهوية 


20 





مقدمة 


(التي تختلط فيها القبيلة بالدين والعرق والموقع الجغرافي). ثم ثقافة 
الممانعة لمختلف أنواع العقلانية أو بصورة أوضح للمنطق الغربي الكونيء 
وأخيرا نظامه السياسي القائم على استلاب الحرية. 


2 - الجنسنة 

يغزو الخطاب الغربي الشرق عبر ذكوريةء ترمز إلى العلاقة العادية 
القائمة بين الرجل وا مرأة, فالغرب قوي مهيمن, والشرق صامت واهن؛ سلبيء 
والأهم... ساحرء يتلقى المبادرة الآتية من الغرب» ويقبل الاختراق؛ ومن جهة 
أخرى قد نجد بعض المستشرقين. يصف الشخصية الشرقية بالشهوانية 
المفرطة, ويلحق بالعرب الممارسات الجنسية الشاذة (وفق فلوبير). 


3 - الزمن ا مفوت 

لا يعيش كل من الغالب «اللآخره» والمغلوب «الأنا» الزمن الحاضرء بل 
اشتباك الماضي والمستقبل؛ لأن الغالب لا يكتفي بمصادرة تاريخ المغلوب 
والتكلم باسمه. بل يذهب إلى ما وراء التاريخء في حين لا يجد المغلوب 
طريقة يذود بها عن نفسه سوى اللجوء إلى وهم الماضي وأمجاده. 

ليس هناك شرق معاصر في الخطاب الاستشراقي» بل خطف لذاكرة 
المغلوبء أو على الأقل طمس لمعالمها المفيدة... بحيث يبقى المغلوب دائم 
الثبات على شفير الهاوية... حيث لا وجود لمن يحتج على الهيمنة بسبب 
فقدان الذاكرة (8). 

حين يطغى إحساس «الأنا» بظلم الآخر وهيمنته؛ تبادر إلى الدفاع عن 
نفسها خشية الذوبانء فتقوي انتماءها إلى الجماعة:؛ وتتماهى بها من 
أجل الحصول على الاعتراف ومواجهة الإقصاء. أو المسخ. الذي هو الموت, 
لذلك تبحث عن الهويةء التي تتميّز بها عن الآخر المختلف. وتجمعها بمن 
يأتلف معهاء كي يزداد إحساسها بكينونتها . 

لقد انطلق بعض الغربيينء الذين تبنوا الفكر الاستعماري» من جملة من 
الثوابت. التي تجعل المختلف نقيضا لهم. وبذلك تعززت, ولاتزالء المركزية 
الغربية: التي تعلن هوية ضيقة الملامح. تفرّغ الحوار مع المختلف من معناهء 


21 





إشكالية الأنا والآخر 


وتختزله في معنى الاستيلاءء الذي يحل محل التفاعل المطلوب» مما جعل 
حركة الآخر في أفق مرسوم., تبعا لتصوراته ومصالحه: وهذا التعبير 
الواضح عن التمركز أشاعته المؤسسات والمناهج وطرز الحياة وتعميم 
النماذج بالقوة... وبذلك اختزل الحوار بين الغربي والشرقي إلى إمكانية 
وحيدة هي التبعية 9) فضاع المعنى الحقيقي لهء الذي يعتمد لغة الانفتاح 
أي الأخن والعطاء بعيدا عن فة الهيمنة والإلغاء. 

إن الانفتاح على الحضارات الأخرى والحوار معها يبث الحيوية في 
مكونات الهوية. فتنأى عن السجال: ويحل التفاعل الخصب محل الانغلاق. 
والتأثر الشفاف والتفهم محل الكراهيةء لكن بعض الغرييين: تمركزوا حول 
ذواتهمء وهذا ليس مس تفريا من فكرء يستند على فلسفة يونانيةء أسشّست 
للنظرية العنصرية؛ إذ كانت «أول من وضع التقسيم الطبقي (فالناس 
أسياد وعبيد وأجانب) في المنظور الفكري الإنساني ذلك الوقت» من دون 
إغفال أن هذا التقسيم البشري اللاأخلاقي كان موجودا في الحضارات 
القديمة أيضاء لكن الفكر اليوناني هو أول فكر ينظر لهذه العلاقة (10, 
مثلما أسس للفكر الديموقراطي. 

ثمة مكون آخر للهوية الغرييةء بالإضافة إلى التقسيم العنصري؛ هو 
فكرة العدوء ويبدو أن الشرق هو أكثر الأعداء حضورا في وعي الغرب 
في الماضي والحاضرء لهذا مسخت صورته إلى مجموعة من الثوابت 
التي تناقض الثقافة الحديثةء مما يعلي شأن الأنا الغربية على حساب 
الآخر (الشرقي) الذي لا يملك سوى ثوب التهديد والإرهاب» فهو ضئيل 
المواهب قياسا للفاتح الخارجي المتحضّرء الذي لم يقدَّم كما يرى إدوارد 
سعيد» سوى البديلين التاليين «فلتخدم أو فلتدمّر» لهذا كانت أسوأ هبات 
الإمبريالية: في نظره؛ أنها دفعت الناس إلى الاعتقاد بأنهم بيض؛ أو 
سودء أو غرييون أو شرقيون فقطء ولكن كما أن البشر يصنعون تاريخهم 
الخاص. فإنهم يصنعون ثقافتهم وهوياتهم العرقية؛ وليس بوسع أحد 
أن ينكر الاستمرار الملح للتراث العريق واللفات القوميةء والجغرافيات 
الثقافية, لكن الخوف يتجلى حين يحس المرء أن هناك ما يهدده بالانفصال 
عن موروثه؛ فيبالغ في تعصّبه لهء كأن ذلك يتهدّد كل ما تدور عليه حیاتهء 


22 





مقدمة 


لذلك يرى إدوارد سعيد أن الأفضل ألا نفكر في أنفسنا فقط؛ بل أيضا في 
الآخرين فنتعاطف معهم» ونبتعد عن تصنيفهم وطق تراتبيات» مما يعني أن 
الأهم ألا نكر باستمرار أن ثقافتنا أو بلادنا هي الأولى (11). 

لقد وقع في آفة التعميم كثير من الباحثينء بغض النظر عن انتمائهم 
الديني والعرقي والفكري والجنسيء حين درسوا الآخر. فسقطوا في 
مزالق فكرية؛ تتبنى فكرا إقصائياء يعلي شأن الذات ويحتقر الآخر. عندئذ 
تحاصرهم جدران التعصب. التي تنفي «الأنا» قدر ما تنفي «الآخر». 

يلاحظ أن النظرة الغربية الضيقة للشرقيء بدأت تخت حدتها 
في عصر العولةء إذ باتت وسائل المعرفة متاحة للجميع» بفضل سهولة 
الاتصال بين أرجاء العالم: حتى وجدنا اليوم كثيرا من الش باب الغربي 
يغامر بالسفر إلى الشرق. ليعيش ثقافته وتفاصيل حياته اليوميةء بعيدا 
عن النظرة الوهمية الغرائبية التي شدت آباءه وأجداده» فيتعرّف من كثب 
على بعض حقائقهء بعيدا عن أوهام تربّى عليهاء مما يسهم في إزالة سوء 
التفاهم وثقافة الكراهية بين الشرق والغرب» كما فعلت ماري روز في رواية 
«سهرة تنكرية للموتى» لغادة السمان. 


إشكائية «الأناء ورالآخرء والنقد الذاتي 

إننا نستطيع حل إشكالية «الأنا» و«الآخر» حين نرتقي بإنسانية 
الإنسان. فنتبنى قيما حضارية أنجزتها الأمم جميعاء مما يؤسس لد 
جسور التفاهم بين البشر بعيدا عن الهويات القاتلةء إذ يحدث الانفتاح 
على العالم الخارجي حيث يمكن أن نلتقي «الآخر» مثلما يحدث الانفتاح 
على العالم الداخلي ذ «الأنا» بفضل قيم إنسانية خالدة مثل الخير والحب 
والعدالة... إلخء والتي تنبض في كل قلب» فتزيل كل الشوائب, التي تمق 
العلاقات الإنسانية وتنشر الكراهية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا 
يمارس بعض الناس هذه القيمء فيعيش ون الانفتاح والحب في حياتهم؟ 
ولماذا ينأى بعضهم عتهاء ويعيش التعصّب والكراهية للآخرة أليس الجهل 
بالآخر أبرز أس باب رفضه؟ ألا يعد صبّه في قالب س لبي نمطي» تعشش 
فيه الأفكار المسبّقة والوهمية؛ من أبرز كراهية الآخرة أليس الإنسان 


23 





إشكالية الأنا والآخر 


مسؤولا عن الارتقاء بروحهء حين يعيش هذه القيم؟ مثلما هو المسؤول 
عن الترديء حين يعزل روحه عنها؟ ألا يدمر الابتعاد عن هذه القيم الفرد 
والمجتمع معا؟ أليس الأدب العظيم حاميا لتلك القيم؛ التي تجمع الإنسان 
بأخيه الإنسان؟ ألا يؤدي افتقاد النقد الذاتي لدى المثقف العربي إلى 
العيش في مستنقع التخلف والكراهية؟ 

إننا بذلك لن نستطيع فصل الأس باب المعرفية عن الإنسانيةء إذ إن 
الانفتاح المعرفي يفضي إلى انفتاح إنساني؛ لهذا كان الجهل قرين التعصب 
والكراهية؛ فحين يفقد العالم إنسانيته. يسخّر معارفه للاستيلاء على 
مقدرات الآخر ونفيه, أي يسخرها لدمار البشرية؛ وكي نوقف مثل هذا 
الخلل؛ لا بد من ممارسة النقد الذاتي» عندئذ نستطيع تأسيس ثقافة 
الانفتاح عبر الوعي المعرفي والإنسانيء فلا نتسامح مع أنقستاء ونظلم 
الآخرء بل نتحدث عن أخطائناء مثلما نتحدث عن أخطائهء عندئذ نفسح 
المجال لانتعاش المشاعر الإنسانية الإيجابيةء التي تسهم في رسم صورة 
متوازنة للآخرء مثلما نحاول رسمها لذواتناء مما يساعد في نمو فكر 
منفتح على التعددية. لا يضع من يخالقنا الرأي أو العقيدة أو العرق في 
قالب واحد» ينتزع إنسانيتهء ويمحو تنوع أفراده: ليطابق صورة مسبقة 
عنه» وبذلك لا يتم النظر إلى الآخر بصفته كائنا موحدا ضد الذات 
العربية؛ إذ «ليس الغرب عالما مغلقا لا انقسام فيه ولا هو جبهة متراصة 
ضد الإسلام؛ ثمة وعي نقدي مضاد للذات يبرز لدى العديد من المفكرين 
من جاك دريداء الذي انشغل بتفكيك المركزية الأوروبيةء إلى إدغار موران 
الذي يعترف بتخلف الغرب على المستوى الخلقي وببدائية وعيه على 
الصعيد البيئي والكواكبي...» (12. 

وقد أكد دريدا ضرورة احترام ثقافة الاختلاف. ودراسة المهمشين 
والأقليات:؛ فقد لاحظ أن الفكر الغربي يقوم على الاهتمام بالمماثلة: 
وإقصاء المختلف. وكل ما يبتعد عن العقلء وحين حفر في ظروف نشأة 
التمركز العقلي وطبيعته, وجد أن الأمر قد تم بناء على تمركز آخر هو 
اللفة, أي الصوت والكلام, لذلك دعا إلى خطاب لا تمركز فيهء يؤأسس 
للغة تبتعد عن الانغلاق. 


24 





مقدمة 


قد بين لنا إدوارد سعيد» أن ثمة فريقين من الباحثين: الأول منغلق على 
ذاته» والثاني منفتح على الآخرء يؤمن بالتعددية الثقافيةء أكثر أعضائه 
في أمريكا من السود والنساء والأمريكيين من أصل هندي, لهذا رأى في 
الفريق الأول تهديدا بربريا للحضارة الغربية؛ كما بيّن أنه قد تكون ظاهرة 
الانفتاح أكثر رسوخا في أوروياء في حين تبدو أمريكاء مازالت تعاني من 
قازع عدة تيارات في هذا المجال. 

إن المتأمل المحايد يلاحظ تميز الغربي عن «الأنا» الشرقية في كونه 
أكثر ممارسة للنقد الذاتيء لذلك استطاع تطوير فكره النقدي ونظرته 
للمختلفء إذ فضح رؤيته المركزية التي انطلق منهاء وأدت إلى انحراف 
نظرته لذاته وغیره» مما نسج سوء تفاهم بينه وبين كل من يختلف عنه 
عرقيا أو دينيا أو فكريا... إلخ. 

من هنا يمكن القول إن النقد الذاتي الذي يمارسه المثقف الغربي أحد 
عوامل نهضته. واتساع أفقه وتطورهء ومثل هذا النقد لن يكون مؤثراء لو 
لم يعتمد على احترام التعددية الفكريةء التي تشكل وعيهء وإحدى دعائم 
حضارته؛ فتم التأسيس لفكر متسامح يتسم به المبدع الغربي, وعلى نقيض 
ذلك بدا خطاب المثقف العربي المدافع عن هويته وتحديث مجتمعه عقيماً. 
كما يقول علي حرب» فأنتج كل ما هو سالب للقوة معطل للنشاط الخلاق. 
وذلك بسبب افتقاده للنقد الذاتي. 

لكننا وجدنا استشاء لذلك لدى بعض المثقفين المرب فمثلا منذر 
الكيلاني يحمّل الشرقيين مسؤولية المشاركة في تشويه صورتهم: حين 
يعيش ون في قالب جامد, لا يسعون إلى تطويره» بل يتواطأون مع الآخر. 
ويرض ون بقولبتهم؛ وحصارهم في جدران الس لبية؛ مما أدى إلى نشوء 
«هذا الضرب من اغتراب الهوية» (1. لذلك وجدنا من ينتقد ظاهرة 
انكماش الثقافة العربية أمام الخطر الخارجيء التي أفرزت صورا نمطية 
عن العالم وعن الآخرء فظهر فيها التشدّد تجاه المختلف. وعانت من ضيق 
صدر بصورة لم نعهدها من قبل. 

أما زكي نجيب محمود فلعله من أوائل المفكرين العرب الذين مارسوا 
النقد الذاتي على أنفس هم. حين بين أنه كان يتَّبع أفكار الآخرين, ويتلوّن 


25 





إشكالية الأنا والآخر 


بها كالحرياءء على حدّ قولهء وكذلك مارس هذا النقد على مجتمعه. فقد 
انتقد الذات العريية بسبب إيثارها اللامعقول» والسكنى في عالم اللفظ 
وعدم الاهتمام بمعالجة الأفكار بعمق. بسبب الفتتة باللغة ذاتهاء التي 
تصرفنا عن كل ما عداهاء وهو يود الاحتفاظ بهذا الحس الجمالي مع 
الانفتاح على عالم الطبيعة 4!) ومنجزات المعرفة. 

وقد آلمه أننا أمة تركن إلى وجدانها من دون عقلهاء فيبيّن ميزة من يركن 
إلى عقله» إذ يعرف أن أحكامه معرضة للخطأء فلا يكت عن مراجعتها 
بنفسه. كما لا يغضبه» أن ينتقده الآخرون وينبهوه إلى موضع الخطأ في 
أحكامه» أما من يعتمد الوجدان. فنراه ينره نفسه عن الخطأء ويصم أذنيه 
عن النقد الذي يوجه إليه؛ لذلك يقرتزكي نجيب محمود بأن العرب يعطون 
الصدارة لعواطفهم التي أضلتهم ومع ذلك يفاخرون بهاء وهم لا يتعلمون 
من أخطائهم. لذلك يتركون عقولهم في أزمتها تنتظر البعث الجديد. 

لهذا كله لن نستغرب حالة التخلف الفكري التي تحاصرهم.: فهم 
يعيشون عالة على الآخرء سواء أكان تراثيا آم غربياء وقد انقسم المفكرون 
العرب» في رأيهء إلى قسمين: إما ناقل لفكر غربيء وإما ناشر لفكر عربي 
قديم» وهذا لن يصنع فكرا عربيا مبدعاء لأننا نفقد عنصر المعاصرة 
والابتكارء لذلك يجب علينا أن نستوحي من الغربيين لنحلّق عبر المكان, 
كما نستوحي من أجدادنا العرب لنحلق عبر الزمان, كي نحقق إبداعا 
ينطق بهويتناء ونتمكن من تجاوز صورتنا السلبية بأنفسنا أولاء فلا نلقي 
أعباءها على الآخرء بل نحمّل أنفسنا مسؤولية علاج تشوهنا وضعفنا . 


نشوء الرواية وإشكالية «الأناء و«الآخر, 

حضر«الآخر» الغربي بصفته مؤثرا أدبيا وفكريا منذ بزوغ الرواية 
العرييةء فقد أسهم الاحتكاك به في نش وثهاء لكن بعض الباحثين العرب 
أثار إشكالية تدور حول الأسبقية في ابتداع هذا الفن: إذ يرى بعض 
المتحمسين منهم» أنهم سبقوا «الآخر» في معرفته. فقد شكلت «ألف 
ليلة وليلة» وكتب السيرة والتاريخ جزءا من موروثنا السرديء استفاد منه 
الفرييون؛ كما استفادوا من العلوم والفتون: التي أبدعها العرب. 


26 





مقدمة 


هنا يحسن أن نشسير إلى أن الثقافة العربية قد عرفت فن الرواية بمعناه 
الحكائي البسيطء حتى وجدنا بعض النقاد التقليديين ودعاة التربية الصالحة 
يرفضون «ألف ليلة وليلة» ويبعدونها عن ناصية الأدب» لذلك لم تتضح معالم 
مصطلح «الرواية» إلا بعد معايشة الآخر الغربي والاط لاع على إبداعه عن 
طريق التلقي المباشر عبر لغته أو عبر وساطة الترجمة, وقد اختلط في البداية 
بمصطلح «المسرح» حتى لدى أولئك الذين سافروا إلى الغرب للدراسة من أمثال 
توضيق الحكيم الذي رأيناه في مقدمة مسرحيته «بغماليون» يدعوها بدالرواية». 

يلاحظ المتلقي أن الرواية العربية في بداياتها استفادت في اكتساب 
ملامحها الفنية من إنجازات الآخرء لهذا لم يتأسس هذا الفن في البلاد 
العربية إلا بعد أن زاد الاحتكاك بالآخر سواء عن طريق السقر والدراسة 
(رواية «أديب» لطه حسين. «قنديل آم هاشم» ليحيى حقي...) آم عن طريق 
اتساع حركة الترجمة (أحمد حسن الزيات مثلا ترجم «آلام فرتر» وقصص 
موباسان) 1 ولم يلتفت العرب إلى موروثهم السردي خاصة كتاب «ألف 
ليلة وليلة» إلا بعد أن سبقهم الغرب إليه. وتعرّفوا إلى جمالياته عن طريقه. 

وقد أسهم في نشأة الرواية الغربية تعقد الحياة الحديثة, بعد أن 
بدأت تغادر بساطتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسيةء ويهيمن عليها 
تشابك المصالح وصراع العقائد والأفكارء لهذا استطاع هذا القن أن يكون 
أبن المدينة الغربيةء حيث بزغت فيها طبقة وسطى تعنى بالتعليم والثقافة, 
وتملك القدرة المادية على شراء الكتب» كما تملك وقت فراغ يتيح لها 
القراءةء في حين نشأت الرواية العربية على يد الطبقة الأرستقراطية, 
التي أتيح لها الاحتكاك بالغرب عن طريق السفر والدراسة:؛ فعادت إلى 
بلادها يراودها حلم النهضة في مجتمع متخلف. 

من الملاحظ أن هذه الطبقة أرسلت أبناءها الذكور إلى الغرب؛ ولم 
تفكر في إرسال بناتها إلا بعد فترة طويلة من الزمن: من هنا قد يصح 
القول بأن الرجل العربي عانىء» قبل المرأةء صدمة اللقاء بالآخرء التي هي 
صدمة الحداثة, فانفمس فيها مبهوراء لذلك حين عاد إلى بلده بدأ في 
البحث عن سبل الخروج من مستتقع الانحطاطء إذ فتح عينيه على عالم 
مختلف. يزخر بأنماط جديدة للحياة. مما يحفزه لمحاكاتها. 


27 





إشكالية الأنا والآخر 


لهذا لن نستغرب أن تكون الريادة في هذا الفن لروائيين عاشوا فترة 
من الزمن في الغرب» كالمصري محمد حسين هيكل في روايته «زينب» 
(1914) أما في سورية فقد وجدنا الرائد شكيب الجابري الذي ولد 
في حلب لأسرة أرستقراطيةء يذهب إلى ألمانيا للدراسةء ويحصّل شهادة 
الدكتوراه في الكيمياء من جامعة برلين (26,. 

إذن يلاحظ المتلقي أن نشوء الرواية قد تزامن مع الاحتكاك بالآخر 
والانبهار به. مما أدى إلى التأثير السلبي على جمالياتهاء خاصة أننا افتقدنا 
عدم التفرّغ لهذا الفن: إذ لهث بعض الروائيين وراء مناصب سياسية؛ وأهملوا 
تطوير ذواتهم» ولم ينتبهوا إلى المتطلبات القاسية له إذ من المعروف أنه 
يحتاج إلى الفنون الأخرى, كما يحتاج إلى العلوم الإنسانية والخبرة الحياتية, 
والمغامرة التخييليةء أي يحتاج إلى اتساع الأفق الإنساني والثقافي معا. 

هنا سؤاليطرح نفسه: هل كانت بمنأى عن الاستلاب الثقافي الغربيء 
بما أن الرواية العريية مدينة في نشوئها للآخرة هل استطاع الروائي 
استيراد الشكل الفني الجديد بمعزل عن السياقات الفكرية والاجتماعية 
التي أسهمت في نشوئه؟ 

إننا لا نستطيع أن نفصل البناء الروائي عن سياقاته التي أوجدته. 
لهذا كثيرا ما تم استيراد الشكل بهمومه الفكرية, فعايشنا في البدايات 
قضايا عانى منها المجتمع الغربي. وبدت غريبة عن هموم مجتمعناء فقي 
الخمسينيات وبداية الستينيات وجدنا بعض الكثاب العرب يرفض المصانع؛ 
ويركز على أهمية الكسل والعبثيةء أسوة برواتيين غربيين انتموا إلى الوجوديةء 
إثر الحرب العالمية الثانية! مع أن العرب في تلك الفترة لم يملكوا إلا القليل 
من هذه المصانع؛ لذلك نكاد نفتقد مبدعين مستقلين فكرياء يرفضون التبعية 
للآخر وتقليده: وإن كنا لا نستطيع أن نذّعي أن هذه التبعية أعاقت تصوير 
الرواية للمجتمع العربيء أو محاولة البحث عن بوصلة تصلنا بالحداثة. 


إشكالية دالأثاء» ودالآخر» وتعدد الأصوات 
لعل حضور صوت الآخر المخالف لدأتا» الروائی إحدى أبرز جمالیات 
الرواية التي أسسها الغرب. إذ يتم رسم الشخصية الروائية عبر روّى 


28 





مخدمة 


مختلفة. فيعايش المتلقي تعدد أصواتهاء أي وجهات نظرهاء مما يضفي 
عليها حيوية وجمالا ويحقق انسجاما بين الشكل والرؤى والأفكار فيهاء 
وبذلك يجذبه تتوع الشخصيات في آرائها وأهوائهاء مثلما يمكن أن تجذبه 
أعماق شخصية روائية واحدة مضطرمة الأفكار والمشاعرء تتعدد رؤاها 
وتتغير بتغير الحالة النفسية والعمرية والثقافية... إلخ فيتفاعل مع نقاط 
ضعفهاء وما تعانيه من صراعات بين الخير والشرء والجمال والقبح, 
والإيمان والإلحادء والحب والكراهية... لهذا فإن جمال الشخصية يما 
يصطرع في داخلها من أفكار متناقضة ومشاعر متباينة. يضفي إيقاع 
الحياة ونبضها على الفضاء الروائي. 

من هنا تتطلب الرواية قدرات خاصةء تس تطيع نقل الواقعي إلى 
الجماليء بما يعنيه من قدرات تخييليةء وربما كانت معاناتها تكمن في 
ذلك القلق بين مصداقية الواقع وجمالية تحويله إلى فنء وبالتالي يختزل 
الروائي عبر شخصيته عدة شخصيات. أي عدة أصوات. ويذلك يكف 
الفن الرؤى والأحلامء مثلما ينتقي لملامح ش خصياته ما هو مؤ: ثر ودرامي. 
لذلك يحتاج إلى ميدع ماهرء يس تطيع نسج خيوطه المتشكلة من فضاءات 
متعددة (لغويةء وفكرية, وبيئية...) ويفسح المجال للرؤى المتعددة التي تعني 
امتلاك وعي منفتح على كل الاتجاهات الفكرية: التي ابتكرتها الإنسانية, 
كي يستطيع تقديم وجهات نظر متعددةء توحي بسعة أفق الروائيء ورفضه 
للتسلط والهيمنة على الآخر. وهذا لن يكون إلا حين يفسح المجال لوجهة 
النظر المخالفة له فيقدّمها كأنها وجهة نظره الخاصة به؛ وبذلك نسمع 
صوته بعيدا عن التعصب لفكره.ء والانفلاق حول وجهة نظره في الحياة, 
فيحاول ألا يقصي وجهات النظر المناقضة له. 

إن مثل هذا الانفتاح الفكري لا يملكه إلا مبدع يتسم بانفتاح إنساني, 
يتيح له أن يستمع بقلبه إلى الخاطئين والمجرمين: كما يستمع للأبطال 
الخيرين؛ فيتيح لوجهي الحياة فرصة التعبيرء وتقديم ما يضطرب في 
أعماق البشر من مشاعر ورؤى. عندئذ تتجسد لنا الشخصية ببعدها 
الجمالي والإنساني والفكريء فنعايش جوانبها السلبية والإيجابية, 
وعندثذ يستطيع الروائي أيضا أن ينزع القداسة عن البطل؛ ويحؤله إلى 


29 





إشكالية الأنا والآخر 


إنسان عادي: حتى لو كان يجسد وجهة نظره في الحياة. لكن ذلك لن 
يستطيعه إلا مؤلف يمتلك قدرة غيريةء تمكنه من تجاوز ذاته والسماح 
للآخر بالتعبير عن نفسه بحريةء فنسمع الشخصية عبر لفتها الخاصةء 
التي هي وليدة ظروفه ا وثقافتهاء ويذلك تتعدد اللغات التي من المفترض 
أن يكون من بينها ما يناقض وجهة النظر التي يتبنّاها المؤلف. 

وقد أبدعت الرواية الغربية بفضل هذه التعددية شخصيات لا 
تنسىء مما حفّز ناقدا مثل باختين إلى دراستهاء خاصة لدى الروائي 
دوستويفس كي الذي أسمعنا صوت ال مؤمن والمتشكك» كما أسمعنا صوت 
القديس والسكيرء والجاهل والفيلسوف. فَقدّم في روايته «اللغة المزدوجة 
الصوت والمتعددة الاتجاهات فضلا عن كونها كلمة أشبعت داخليا بقيمة 
حواريةء وكلمة غيرية: الجدل الخفي» الاعتراف المزين بالجدل؛ والحوار 
الخفي» وضي.الوقت نفسه ليست لديه كلمات موضوعية» 177) تبدو غريبة 
عن ذات الشخصية وسماتها النفسية والاجتماعية والثقافيةء أي تبتعد عن 
ذاتها ونبض معاناتها الفكرية والوجدانية. 

أما الرواية العربيةء فقد كانت على النقيض. إذ ألفت صوت الآخرء في 
أغلب الأحيان» فافتقدنا اللغة المتعددة (الغيرية) مما أفسح المجال لهيمنة 
صوت واحد هو «أنا» المؤلف» الذي اعتنى بالشخصية الرئيسيةء التي تمثل 
وجهة نظره في الحياة. وأهمل وجهة النظر الأخرىء التي تناقضه؛ أو في 
أحسن الأحوال قدَّمها بطريقة ميتسرة؛ ومشؤهةء فبدت مقموعة:؛ تعاني 
استبداد مؤلفهاء وهيمنة صوته عليهاء وإقصائه لفرادتهاء مع أن الشخصية 
التي لا تحمل بصمتها الخاصة, والتي توحي باستقلاليتهاء تبدو هزيلة على 
الممستوى الفنيء تعاني استلابا جمالياء وقد عانت الرواية العربية مثل هذا 
الاستلاب. الذي يعكس استلابا فكرياء هيمن على كثير من الروائيين العرب» 
الذين كانوا منبهرين بإنجازات الآخر الإبداعية والفكرية: لكنهم لم ينتبهوا 
إلى أهم خصيصة لديه» وهي الاحتفاء بالتعددية: التي هي قرينة احترام 
حرية الإنسان في اختيار ما يشاءء لذلك لن نستغرب سيطرة الصوت الواحد 
في الرواية العربية ومحاولة قمع الأصوات الأخرى؛ التي تحمل رؤى مخالفة 
ما يتبناه المؤلف» الذي ظلّ أسير مرحلة البدايات بكل ما تعنيه من انبهار 


30 





مقدمة 


بالآخر المتفوقء وإلغاء للذاتء والرضا بالتبعية؛ التي ترى الغرب نموذجا يُتّبع 
لتجاوز مظاهر التخلف في المجتمع العربي. ومثل هذه التبعية دليل على عدم 
ممارسة النقد.الذاتي» الذي يفسح المجال لصراع داخلي بين رؤى متعددة 
مثلما يفسح المجال لتطور الشخصية وحيويتها . 

إن تقنية تعدد الأصوات لن يستطيع امتلاكها أي كاتب يتبنى رؤية شمولية. 
يجھل ماء عداهاء أو يحتقر من يخالفهاء فينطق شخصياته لغة واحدة, يؤمن 
بهاء ويقمع أي لغة نقيضة لهاء وبذلك يسيطر على روايته صوت واحد» يدفعه 
إلى ممارسة الإرهاب الفكري على كل ما عداهء إذ يقتل حرية التفكير لدى 
شخصياتهء وبالتالي قد يقتل إمكانية بنائها جمالياء بعد أن يحرمها من نبض 
الحياة, الذي يقوم على التنوع:.ويضفي حيوية وجمالا خاصا على الفضاء 
الروائيء كما يحرمها من اللغة الإيحائية؛ ليفرض عليها لغة التلقين: وهذا ما 
فعله حنا مينة حين جعل أبطاله «أشبه بمقولات ذهنية أو بتوسطات أيديولوجية 
ناجزةء تجسدت في ملامح بشريةء وحالت دون رؤية الملامح البشرية الحقيقية 
في الواقع نفسه (18, وبذلك انتزع المؤلف إنسانية الشخصية, وأدخلها في 
عوالم الجمال المطاق والقوة الكلية والنقاء التام أو أدخلها عوالم الشر والقبح 
المطلق. فخلخل صورتها الإنسانية. وأقصى الرؤى المتعددة والمتناقضة التي 
تضطرم في أعماق الإنسان, وتشگل ملامحه الإنسانية. 

إذن قلما تتيح الرواية العربية الفرصة للش خصية للتعبير عن صوت 
أعماقهاء والانطلاق بحرية لتقديم اعترافاتهاء التي ترتكزء غالباء على 
مواجهة الذات ونقد تهورها واستسلامها لنقاط ضعفهاء والدوران حول 
أنانيتهاء فيشتد لوم الذات لنفسهاء حين تعجز عن تجسيد طموحها للمثل 
العليا في ممارستها الحياتيةء ومن اللافت أن قلة من الروائيين العرب, 
مارسوا النقد الذاتي عبر إبداعهم؛ فهم مأخوذون, في أغلب الأحيان: 
بتقديس البطلء الذي يمثل ذواتهم؛ أي صوتهم ورؤاهم, وإن كان معظم 
هؤلاء الروائيين قد تجرّأ على ممارسة نقد المجتمع الذي ينتمون إليه. 

إن عدم ممارسة النقد الداتي» لدی معظمهم»؛ انعكس على إشكالية «الأنا» 
و«الآخر» إذ لم يسمحوا لمن يخالفهم الرأي بالتعبير عن وجهة نظره. خاصة 
أنهم تماهوا مع الشخصية الرئيسيةء وجعلوها الناطق باسمهم» حتى بدت 


31 





إشعالية الأنا والآخر 


الرواية جزءا من سيرتهم الذاتيةء يجدون فيها فرصة لتلميع رؤاهم الخاصة, 
معتمدين في ذلك على راو كلي المعرفةء يفرض رؤية واحدةء يسبغها على 
اليطل المتماهي ب«أنا» المؤلف. التي لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من 
خلفها! لهذا وجدنا حيدر حيدر ينتصر في روايته التي ظهرت في الثمانينيات 
(1983) «وليمة لأعشاب البحر» !19 لرؤيته الماركسية؛ ويمنحها للبطل مهدي 
جواد في حين تبنت وجهة نظر الآخر المخالف. الذي منحه اسما شديد 
الإيحاء بوجهة نظره الإسلامية؛ الحاج محمد وبذلك مارس الكاتب على 
الشخصية التي تخالفه الرأي قمعا فكرياء إذ لم يتح لها فرصة التعبير عن 
رؤيتها الخاصة:؛ مثلما يمارس عليها القمع الجماليء حين يرس مها بطريقة 
بشهة وساخرة. كي ينفر المتلقي منهاء مادامت لا تؤمن بوجهة نظر المؤلف, 
لذلك نجد «الحاج محمد مليئًا كرشه ينور الله وتقواه». 

إن فرض رؤية المؤلف حيدر حيدر تجلت عبر فرض لغته على أبطاله. حتى 
إننا لاحظنا متيطرة اللغة الشعرية على جميع الشخصيات: فأنطق طالبة 
صغيرة في مدرسة ثانوية لغة أستاذها المثقف. وبذلك سيطر صوت واحدء 
وقمعت كل الأصوات المخالفة لصوت المؤلف. 

أما عن ممارسة نقد الآخر (الغربي؛ الهامشيء العرقي). فقد حاولت بعض 
الروايات العريية طرح إشكالية اللقاء بهذا الآخرء من دون أن تهتم بممارسة 
النقد الذاتي على تعاملها معه أو في رسم صورته؛ فحدث. أحياناء تشويه 
له ينبن عن تشويه الذات أيضاء لهذا يبدو من المهم «أن يعي كل منا واقع أن 
طروحاته ليست بريئةء وتساهم في أحكام مسبّقة. اتضح على مر التاريخ أنها 
منحرفة متقاتلة. إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيقء 
في أغلب الأحيانء ونظرتنا هي القادرة على تحريرهم أيضا». 


32 





ا 

«تنسج المشاعر الإنسانية 
قرابة بين الأنا والآخضر 
الأسيوي, خصوصا بين 
المعذبين فى السجن. إذ 
توحد المعاناة البشر» 


المؤلغة 


الأنا والآخرالآسيوي 
في رواية إسماعيل 
فهد إسماعيل «بعيدا 
إلى هناء 


الرواية العربية اليوم تتناول الممسكوت 
عنه. وتجسد هموما كثيرا ما تجاهلتهاء 
تتصل بالآخر الآسيوي» مع أن هذا الآخر 
يعيش بينناء ويتفلفل في نبض حياتنا 
اليوميةء حتى باتت كثير من الأسر العربية 
لا تستطيع العيش من دون خدماته. 

لعل الروائي الكويتي إسماعيل فهد 
إسماعيل من أوائل الروائيين العرب الذين 
استطاعوا أن يسلطوا الضوء على صورة 
الآخر الآسيوي. فأطلعنا في روايته «بعيدا 
إلى هنا» على أعماق كوماري الخادمة 
السيريلانكية لدى أسرة كويتية. فاستطاع 


33 





إشكالية الأنا والآخر 


المتلقي أن يعايش معاناة الانتماء إلى عالم مهمش حياتيا وإبداعياء على 
الرغم مما يمارسه من دور مؤثر. خصوصا على الصعيد الاجتماعيء إذ 
تتربى أجيال عربية كثيرة بين أحضانه. 


حضورال ةآخرضي العنوان «بعيدا إلى هناء 

يبدو لنا الروائي منذ الرسالة الأولى (العنوان) التي أرسلها متعاطفا 
مع الآخرء الذي يعيش مهمشا في بلادنا العريية: إذ قدم هذه الرسالة عبر 
منظور كوماري الخادمةء ليجسد رؤيتها الموزعة في مكانين نقيضين «بعيدا» 
و«هنا»» اللذين يختزلان مأساتهاء فهي ممزقة بين الوطن (سيريلانكا: 
المكان البعيد) والمنفى (الكويت: المكان القريب هنا) فنعايش في المكان 
الأولء الذي أصبح بعيداء تألق روحها وأحلامها وذكرياتها في مدينتها 
(كولومبو) وأفراحها في قريتها (نوريليا)» حيث مزرعة جدها للشاي. أما 
المكان الثاني في المنفى فنعايش فيه انطفاء الحلم» حيث تحكم قبضة 
البؤس الخناق حول حياتهاء فقد دفعها الفقر وإحساسها بالواجب إلى 
السفر والعمل من أجل تأمين نفقات علاج والدها. 


الآخروجمائيات الفضاء ال مكاني 

يعايش المتلقي - عبر صوت كوماري - جمال وطنهاء فيجده معادلا 
للحرية: لكنها اضطرت إلى التضحية بها من أجل قيمة عليا (بر الوالد 
ومعالجته). لهذا لن تعرف في غريتها سوى البيت والسجنء أي الأمكنة 
كلمة «بعيدا» في العنوان بصيغة النكرة: لتوحي بإطلاق البعد إلى أقصى 
مدى ممكن؛ وما ترتب على هذا البعد من قهر نفسي يسبب اتهامها 
بالسرقة مما يدفعها إلى الانتحارء والتخلص من حياة الغرية, التي تثقل 
كاهلها بالهموم» من دون أن تمنحها حتى القليل من الفرح. 

وهكذا بدت الغرية موطنا للموتء في حين بدا الوطن مكانا أصلياء 
يضم بين جوانبه الحياة وأفراح الطفوئة وبدايات الشباب., لهذا يلتحم 
بروح كوماري على الرغم من البعد» فهو حاضر أبدا في ذاكرتهاء وضي 


34 





الأنا والآخر الآسيوى في... 


وجدانهاء أما المكان الثانوي (المنفى) فلم يحضر في ذاكرتها إلا مصاحبا 
للوطن. لذلك وصفت الكويت قائلة: «أرضهم... امتدادات لمساحات 
مسطحة. حيث لا أنهار, لا غابات. لا جبال؛ بل معالم محددة... حين 
إزماعك المجيء هناء سمعت أن بلدهم على محدوديته مزروع بآلاف آبار 
البترول... منذ وصولك لم تري بكرا واحدة؛ ولا سواقي النفط الخام. 
كل الذي رأيته... طائراتهم وهي تجنح كي تهبط... شعلات متواترة 
لنيران متوهجة صفراءء هم يحرقون الغاز الفائض لنفطهم» (. 

تهجس مخيلة كوماري بملامح وطنها عبر جملة «بلدهم على محدوديته 
مزروع بآلاف آبار البترول» فهي ابنة القريةء لذلك استبدل لا وعيها مزارع 
جديدة (آبار النفط) بمزارع الشاي؛ التي عرفتها في بلدهاء والتي شكلت 
مصدر رزق لأصحابها. 

وهي لم ترء منذ هبوط الطائرةء ما يشكل مصدر الثروة (آبار البترول) 
لكنها رأت» ما ينتج عنه من جحيم (نيران متوهجة بسبب الفغاز الفائض 
المحروق)ء وبذلك تبدو لديها مزارع الشاي معادلا للجنةء في حين تبدو 
«آبار النفط» في المنفى معادلا للجحيم! لعل هذا نذير شوم واستباق لما 


سينتظرها من مصائب. 
إن لكان السذي بهيمن على ذاكرة كوماري ليلة السجن. هو مكان 


بعض الأحزان, لكن معاناتها الكبرى برزت في كان بعید» حيث نفاها 
الفقر إليه؛ وعلى الرغم من أنها لم تكن تشكو سوء المعاملة فيهء فإنها كانت 
تفتقد إنسانيتهاء لهذا بحثت عن عزاء لهاء فلم تجد أمامها سوى طفل 
الأسرة (خالد) الذي ستعاقب بانتزاعه منها عنوةء حين تتهمها سيدتها 
بأنها سرقت عقدها. 

إن هذه التهمة التي هوجمت بها على حين غرة. ستمحو أي ذكرى طيبة 
لها في المنفى! إذ تصاحبها الآلام في مكان مغلق على البؤس (السجن). 
حيث وضعت فيه ظلماء مما أغلق أبواب الدنيا في وجهها. فعادت ذاكرتها 
نحتمي بفضاء الطفولةء حيث يعشش الجمال والفرح: لعلها تتأى بروحها 
عن فضاء الواقع؛ الذي يحاصرها ببؤس سجنه. عندئن يعيش المتلقي معها 


35 





إشكائية الأنا واغآخر 


جماليات الفضاء بكل تناقضاته؛ فالفرق كبير بين فضاء الماضي (الوطن) 
وفضاء الحاضر (المنفى والسجن). 

حاول المؤلف أن يفتح كوة نور في هذا المكان المظلمء وإن بدت باهتة 
غير مؤثرةء فقد ألمح فيها إلى دفء العلاقات الإنسانية في المسجن, 
وانفتاحها بعيدا عن الانتماءات القاتلة (الطبقية والعرقية...) التي 
تضق أفق الحياة وتقتل إنسانية الإنسان؛ لهذا وجدنا رفيقة سجنهاء 
تحس بأرقها ووحدتهاء فتنصحها قائلة: «يجب أن تنامي... ستحتاجين 
قواك... أنت لا تعرفين ما الذي يجيء به الغد!». أبديت عرفانك إزاء 
اهتمامها بإيماءة موافقة من رأسهاء (2. 

تتنسج المشاعر الإنسانية قرابة بين «الأنا» و«الآخر» الآسيوي» 
خصوصا بين المعذبين في السجن, إذ توحد المعاناة البشرء وتبني 
جسر التواصل بينهه.: وقد ألمح إليه الروائي؛ لكنه لم يطوره؛ فقد 
بتر بسبب انتحار كوماري» وبذلك ضاعت ملامح التواصل الإنساني 
بين زميلتي السجن. بعيدا عن الانتماءات القاتلة؛ إذ قدمت المرأة 
الكويتية لزمياتها السيريلانكية ما تحتاج إليه من نصائح في محنتهاء 
أي قدمت لها ما تختزله من خبرة في حياتها المظلمة؛ وتلفت نظرها 
إلى أهمية النوم والراحة: إذ ينتظرها في الفد بؤس كثير, فكأن 
هذه النصائح سلاح: تزودها به. كي تستطيع مواجهة الظلمء الذي 
تعرضت له. ويذلك تتمكن من تحطيم فسوة جدران السجن» وتخفف 
من ظلمته» لكن للأسف. لن تفلح في إنقاذ حياتها. لعل السبب في 
ذلك أن الروائي لم يستطع تطوير هذه العلاقة الإنسانية التي نشآت 
بين «الأنا» و«الآخر». 


صورة الخادمة السيريلاتكية 

أتاحت الرواية للمتلقي أن يطلع على عوالم مس كوت عنها ضفي 
المجتمع العربي» حين عرت عادات سيئة فيهء يمارسها بعض العرب 
ضد الآخر الآسيوي» فقد بين الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ال معاملة 
غير الإنسانية التي تتلقاها الخادمةء منذ أن تطأ قدماها أرض المطارء 


36 





الأنا والآخر الآضيوى في... 


وتأتي الأسرة لتسلمهاء وقد وصف هذا المشهد بلغة ناقدة. ترقض 
حيادية الرؤيةء إذ رسم تلك اللحظة بريشة مبدع» آلمه بؤس الآخر 
المنفي والهامشييء فالتحم صوته بصوت بطله (سعود رب الأسرة التي 
استقدمتها). فنجد عين الكاميرا تتابع «قطيع فتيات... يقترين نحو 
حشد المنتظرين: خطواتهن المتواترة تشي بترددهنء في حين أفصحت 
عيونهن عن خوف من مجهول... لفت هزالهن الشديد انتباههء ولفت 
انتباهه أكثر وجود ورقة بيضاء بحجم «فولس كاب» مثبتة عند صدر 
كل منهنء كتب بخط أحمر عريض رديء الرسم اسم إحداهن. داخله 
إحساس طارئ بأن شيئًا تجري إهانته... لم يفته أن يقرأ اسمه لحظة 
ارتفع صوت زوجته ينادي الفتاة القادمة بما يفيد التبعية» ©. 

لوتأملنا هذا المشهد للمسنا فيه لغة متوترة (القطيع؛ الحشد, التردد 
في الخطوةء الخوف في العينينء الهزال الشديد) توحي يمدى ضعف 
الفتيات جس ديا ومعنوياء إذ بدت لغة الراوي درامية قلقة حائرة بين 
التعاطف الإنساني والخضوع للمألوفء الذي يقتل الإحساس بالآخر 
لذلك كان الوصف مستفزا لمشاعر المتلقي. يوحي برفض الطريقة, 
التي تستقبل بها العائلات العربية الفتيات الآسيويات» فقد شبه سعود 
طريقة عرضهن بعرض «قطيع» من الحيوانات! كما حاول أن يزيد 
الصورة استفزازاء خاصة حين أضاف إلى المشهد تفصيلاء وهو ورقة 
(تحمل أسماءهن) معلقة على صدورهنء مما يشي بتحولهن إلى سلعة 
للعرضء لهذا يعرب سعود عن اعتراضه على هذا الأسلوب المستفز في 
التعامل مع الآخر. فقد أحس بأن شيئا تجري إهانتهء وقد أفصحت 
كلمة «شيئا» المتعارضة مع الإهانةء عن قلق في المشاعر. وغضب ينتاب 
صوت الشخصية. التي تجسد صوت الروائي ووجهة نظره. فكأنه أراد 
أن ينقل اعتراضه إلى المتلقيء ليشاركه هذه الأزمة الأخلاقيةء فيعيش 
معه التغارض بين «الشيء» الذي يعرف عنه الجمود و«الإهانة» التي 
تجرح مشاعر الإنسان» كما وجدنا هذه الشخصية تنتقد «الأنا» في 
تعاملها غير الإنساني مع الآخرء حين تلوم لغة الزوجة منذ اللحظة 
الأولى. التي رأت فيها الخادمة! إذ لم تفت (الزوج: البطل الراوي) 


37 





إشكالية الأنا والآخر 


نبرتها الاستعلائية. التي اس تخدمتها في ندائها «ارتفع صوت زوجته 
ينادي الفتاة القادمة بما يفيد التبعية»! وبذلك يلمس المتلقي احتجاج 
الراوي البطلء الذي يجسد صوت المؤلف» على المعاملة اللاإنسانيةء 
التي واجهت الفتاة من قبل المجتمع بشكل عام وزوجته بشكل خاص. 

وهكذا استطاع الروائي أن يجسد لنا هذا المشهد بلغة حساسةء 
مما أتاح للمتلقي أن يعايش نبرة الشخصية الراويةء وهي تعلو منتقدة 
بؤس مشهد يتكرر في المطارات العربيةء وبذلك سلط الضوء على فئة 
مهمشةء تنتمي للآخرء وتتلقى معاملة لا تليق بإنسانيتها . وبذلك يمارس 
نوعا من النقد الذاتي» حين يسلط الضوء على تشوه «الأنا» في تعاملها 
الآلي مع الآخر. 

تنتقل «عين الكاميرا» من مشهد عام: تجتمع فيه مجموعة فتيات 
(سيريلانكيات) إلى مشهد خاصء يساط الأضواء فيه على وجه فتاة 
واحدة منهن؛ كي يتمعن المتلقيء عبر صوت الراوي» ملامح بؤسها «نظرة 
قريبة إلى وجه كوماري أوحت له. كما لو أنها جاوزت الثلاثين. زيادة عشر 
سنوات عما أفاد به جواز سفرها... لعله بروز عظام الوجه» 4. 

نجد وصفا متعاطفا مع فتاة أجبرتها ظروف القهر والجوع على ترك 
أهلها وبيئتهاء فسلبتها زهرة شبابهاء ورسمت خطوط المعاناة على وجههاء 
لهذا تبدو أكبر من عمرها بعشر سنوات. 

يسجل للروائي أنه أتاح للآخر فرصة التعبير عن ذاته» فنسمع 
صوته مستقلا عن هيمنة «الأنا» العربيةء فينطق بأحلامه وانكساراته: 
حتى أنه يتفوق على «الذات العربية» في الممسافة الزمنية والمكانيةء 
التي خصصت له» إذ نسمع صوت الخادمة السيريلانكية (كوماري) 
وهي تبوح ببؤس حياتها في الماضي والحاضرء فقد اضطرت إلى ترك 
دراستهاء من أجل أن تعملء كي تدفع آجرة البيت» قبل أن تطرد مع أبيها 
السكير إلى الشارع.؛ ثم اضطرت إلى ترك بلدهاء لتؤمن علاج أبيها 
من مرض السرطان. وبذلك تكسب هذه الشخصية تعاطف المتلقي. 
وتصبح مثار إعجابه لإحساسها العالي بالمسؤولية تجاه والدهاء الذي 
أضاع وظيفته من أجل الخمرء مثلما أضاع ثمن الأرض التي ورثتها 


38 





الأنا والآهر الآسيوى في... 


عن جدهاء فتسمع صوتهاء وهي تحدث نفسها «لم يعد له سواي» 
عندئذ يحس المتلقي العربي بقرابة تجمعه بهاء فهي تشاركه المرجعية 
الأخلاقية والاجتماعية (وأكاد أقول المرجعية الدينية). أي تشاركه 
منظومة القيم العلياء التي تحكم حياته, وتعيش النسق الوجداني نفسه: 
خاصة أن بر الوالدين يعد من القيم العلياء التي يتشارك فيها «الأنا» 
العربي و«الآخر» الآسيوي. 

لم تعان كوماري في بداية عملها عند عائلة سعودء لكن بعد سجتها 
بتهمة السرقة: نسمع صوت أعماقهاء وهي تحدث نفسها «تدرين أن 
صروف الحياة... تجيء محتشدة: ويؤلمك - في الصميم - أن يصادفك 
التخليء من حيث لا تحتس بين من موئل الخلاص المرتقب والوحيد. 
حيث ارتكاب الثقة لأيام مقبلة... طوال وجودك في الكويت كنت ترددين 
«أنا محظوظة»» كنت تغبطين حالك.. عملك خادمة أو مريية» (5. 

لعل أهم ما يميزهذه الروايةء هناء تجاوز الآخر دوره الهامشي 
المرسوم له عادةء فلم يعد منفيا على صعيد اللغة الروائية أو تأسره لغة 
العنفه فقد ظهر صوته عبر خطاب حميميء وتم تجريد ذات كوماري 
لتصبح آخر تحاورهء عندئذ تتحول صيغة المتكلم «الأنا» إلى صيغة 
«الأنت». لتعود ثانية إلى صيغة المتكلم الصريحة «أنا محظوظة»» ويذلك 
نصغي إلى صوت الآخر. وقد تحول إلى «أنا» فيحصل تبادل للأدوار 
لم نألفه في الرواية العربية من قبل فقد أتاح الروائي إسماعيل فهد 
إسماعيل الفرصة للهامشي أن يصبح مركزياء فيحتل موقع «الأنا» 
العريية. على مستوى لغوي وجماليء ليكسب تعاطف المتلقي لهذا الآخر 
الهامشي على حساب الذات العربيةء ولن ندرك أهمية ما فعله الروائيء 
إلا حين نعرف أنه تجاوز الصورة المشوهة والنمطية للآخر (الخادم) 
التي شاعت في الخليج العربي (6. 

إننا حين نتأمل لغة بوح الخادمةء نلاحظ أن ال «أنا» لم تكن تعاني 
توترا مع الآخر العربيء قبل اتهامها بالسرقةء إذ تجسدت العلاقة 
بينهما عبر دلالات إيجابية الإيحاء. قبدت الكويت فضاء» يستحق أن 
يكون «موكل الخلاص المرتقب والوحيد, وارتكاب الثقة». مثلما هي 


39 





إشكالية اكأنا والآخر 


دلالات إيجابية التصريح, إذ تستخدم صيغة المتكلم (أنا محظوظة) 
تارة. وصيغة الخطاب (تغبطين حالك...) تارة أخرىء وإن كنا قد تحظنا 
بعض القلق في عبارة «ارتكاب الثقة» مما يوحي بأن الثقة؛ في حياتها 
في المنفىء حدث طارئ؛ تخلخل نسق المشاعر المتوترة والمستفزة. التي 
اعتادها الهامشي.ء لهذا صف حضور هذه الثقة الاستشائي بما يشبه 


ملامح شخصية الآخر 

صحيح أن لغة الرواية تجاوزت, أحياناء المواضعات المتعارف 
عليها لدى الأسياد في تعاملهم مع الخدم» والتي تتسم بلغة الاستعلاء 
والإقصاء. والعنف» فتحاصر الخادمة بدلالاتها السلبية. لكن هذه 
اللغةء لم تفلح في تجاوز النسق الاجتماعي المهيمن:؛ أو الإسهام في 
تطوير العلاقة بين «الأنا والآخر» لتتجه نحو الثقة التامةء بعيدا عن 
الإحساس بأن هذه الثقة أمر طارئ؛ بل أشبه بارتكاب معصية. وبذلك 
تنقلب دلالات اللغة في الرواية» إلى نقيضهاء نتيجة تشوه العلاقات 
الاجتماعية. إذ افتقدنا تلك اللغة الندية بين كوماري وعائلة سعودء 
لهذا بدت شخصية الآخر (الخادمة) مسلوبة الإرادة. حتى في أدق 
الخصوصيات الشخصية:, التي تتعلق بالمظهر كقص الشعر أو إطالتهء 
والتي من المفروض ألا يهتم بها أحد سواهاء لكن سيدة المنزل (دلال) 
تدخلت في هذه الخصوصيات منذ اللحظة الأولى» التي باشرت فيها 
الخادمة عملهاء وفرضت عليها أن تقصر شعرها بما يغطي أذنيها 
طقل (7) لأسباب «صحية». 

إن تدخل هذه السيدة: فيما يمس الهيئة الخارجية للخادمةء يدل على 
إلغاء حرية الشخصية واستلاب إرادتهاء وقهر إنسانيتهاء لذلك يفضح 
هذا العبث بالخصوصية نظرة استعلائية تمارس ضد الآخرء إذ ترسم 
صورة مسبقة لهء تفترض فيها قذارتهء لهذا يأتي «قص شعر الخادمة» 
بصفته علاجاء يقي الأسرة من حشرات» قد استوطنت رأس الخادمة! 
مثلما استوطنت مخيلة سيدتهاء وبذلك يتم إلغاء الآخرء حين تتصرف 


40 





الأنا وا خر الأسبوى فى. .. 


الأسرة وفق أوهام رسمتها عنهء من دون أن تكلف نفسها عناء السؤال أو 
التحقق من القذارة أو عدمها! 

وخير دليل على هذا الإقصاء للآخر التصريح بأن الأسباب الدافعة 
لهذا التصرف هي «صحية» فيتم: هناء إلغاء صوته. مثلما يتم إلغاء إرادته. 
أي حريته! ا 

وهكذا أتاح الروائي إسماعيل فهد إسماعيل للمتلقي معايشة القهر, 
الذي تعرضت له فتاة آأسيويةء أجبرتها الظروف على خدمة «الأنا» 
العربية! وقد حاول في البدأية ألا تكون العلاقة مذلة لهاء فقد عاشت لدى 
الأسرة العربية حياة يومية هادئة, سرعان ما تكتشف أن ذلك وهم» بعد 
أن فقدت السيدة عقدهاء فلا تجد أمامها متهما جاهزا سوى كوماريء 
عندئذ يحاصرها الصراخ والضياع! فتشعر بعبوديتها حين تأمرها سيدتها 
دلال بالذهاب فورا مع زوجها سعود من دون أن تخبرها بالوجهة التي 
ستذهب إليها! وبذلك يصل الإقصاء إلى ذروته؛ حين تنتزع إنسانيتها 
بانتزاع أهليتها القانونيةء التي تليق بكينونتها البشرية (المتهم بريء حتى 
تثبت إدانته)؛ لهذا لن تسمع كوماري في البيت سؤالاء أو اتهاماء أو شكا 
حول قيامها بفعل السرقةء بل ستصفعها هذه التهمة في مخفر الشرطة! 
وسينهار أملها حين لا يصغي أحد إلى ظلامتها! فتدخل السجن مباشرة, 
وزيادة في القهر يؤجل التحقيق ليوم تال! فتسجن مع المنحرفات من النساء! 

يلاحظ المتلقي خضوع الخادمة: هناء لاعتبارات تقليديةء تسود المجتمع 
العربي» لهذا لم تكن تتعامل مع سيدها مباشرةء إذ ليس من شأن الرجل 
التعامل مع فتاة غريبة: مما أطلق الغنان لظلم زوجته (دلال) للخادمة: لهذا 
حين تتبدل هذه الاعتبارات» تحس أن ثمة خطبا جللاء بدأ يحاصرهاء 
خاصة أن السيدة لم تهتم بتبيان أسباب هذا التبدلء كل ما تفعله هو 
إصدار أمر «الذهاب مع زوجها» وعليها أن تطيع! من دون مراعاة لأي 
قيمة إنسانية! 

عانت كوماري من التهميش على يد المرأة (سيدة البيت) والرجلء الذي 
أمرها بركوب السيارة: كأنها شيءء من دون أن يهتم بأن يعرفها السببء 
لهذا حين يأمرها بالنزول أمام المخقرء تتصاع له. فهي لا تمتلك خيارا 


41 





إشكالية الأنا والآخر 


آخرء بعد أن انتزعت إنسانيتهاء أي إرادتهاء وتم تشييئها في غريتهاء ولم 
يعد يحق لها أن ترفض الانصياع لأوامر السادةء الذين يملكون مصيرهاء 
كما لا يحق لها أن تركض بعيداء هارية من هذا البؤسء فتردد حقيقة 
أنها تعيش في «بلدهم» وأنها غريبة. يحاصرها الضياع والخوف, لهذا 
عجزت عن الحركة والنطق بأي سؤال؛ على الرغم من قلقها وخوفها على 
مصيرهاء وبذلك ظهرت كوماري في صورة الأمةء إذ لم تفعل شيئًا سوى 
الاستسلام المطلق لإرادة الآخرينء فقد سلخت من كينونتها الإنسانية. 
لتقبع في إطار العبودية. بعد أن فقدت التحكم في مصيرهاء وحاصرها 
الآخرون بسوء ظنهم. 


الصورة الإيجابية للآخر 

ثمة رغبة لدى الروائي في عدم تشويه صورة «الأنا»» إذ لم تيد 
الأسرة العريية في صورة المستغل المادي لجهد الآخرء فقد زادت مرتب 
الخادمة, حين أضيفت إلى أعباتها العناية بالطفل (خالد) منذ لحظة 
ولادته» فأعطته من الحب والرعاية ما عجزت عنه أمه! التي تلهت 
عنه بالحفلات ولقاء الصديقات» لهذا نالت كوماري مكافأتها المعنوية 
من الطفلء الذي أحبهاء وكان اسمها (كوما) أول اسم ينطق بهء وبذلك 
شكل مصدر سعادتها وملاذ أمومتهاء لهذا كانت صور الطفل هي 
الشيء الوحيد, الذي فكرت في سرقته من بيت الأسرة. فقد وجدتها 
(دلال) حين كانت تبحث عن عقدها بين أشياء الخادمةء فكأن هذه 
الصور معادل للعقدء حتى باتت الكنز الوحيد الذي تملكه (كوماري). 
وبذلك عايش المتلقي» عبر هذه التفاصيل الموحيةء مدى حميمية 
علاقتها بالطفل! 

وكي يعزز الروائي صورة الآخر الإيجابية نجده ينسج مشهدا مؤثراء 
تبدو فيه السيدة العربية في منتهى القسوة. وهي تنتزع الطفل من يد 
الخادمة بحركة عنيفةء من دون أن تهتم بعويلهء في حين نتابع حركة 
كوماري اللاشعورية ومشاعرها (مدت يديها لاستعادته. غمرها أذى 
كبير...)» وحين أبعدته سيدتها عنهاء وأخذت إلى المخفرء كان الطفل 


42 





الأنا والآهر الأسبوى فى... 


يصرخ باسمها معولاء يرفض أن تضمه أمه إلى صدرهاء فهي غريبة عنهء 
لهذا كان لا يمل من نداء المربية الأم (كوما). 

يطرح هذا المشهد أزمة الأنا (الأم البيولوجية للطفل) والآخر (الأم 
الحقيقية: التي ربته) إذ ينشأ صراع بينهماء يكون ضحيته الطفل 
(يسقط مريضا)؛ فقد اعتاد على كوماري وبات لا يعرف سواها 
أماء بعد أن تخلت أمه الحقيقية عن مهمتها التربويةء وأسندتها إلى 
خادمتها! مما يوحي هذا التنازل عن الأمومة بأزمة تربوية: إذ ينشا 
الطفل على لغة «الآخر» وقيمهء مما ينعكس سلبا على نفسية الطفل؛ 
إذ يسمع لغة غريبة عن مجتمعهء ويربى على قيم قد تكون بعيدة عنه! 
وقد ألمحت الرواية إلى هذه المشكلة: وحملت المرأة العريية وزر هذه 
الأزمةء في حين بدت كوماري في إطار إنسانيء تمارس أمومتهاء التي 
حرمت منهاء فشكلت علاقتها بالطفل نوعا من العزاء لهاء ومما يلمت 
النظر أننا نعايش ملامح علاقة استثنائية بين الطفل وكوماري: فقد 
مرض نتيجة ابتعاده عنهاء قي حين وجدناها تقلق عليه مما يضاعف 
محنتها في الس جن:؛ فقد كان كوة الفرح الوحيدة في غربتهاء لهذا 
بدا انشغالها به لذيذاء نسمعها في سجنهاء تستحضر هذه المشاعر 
بلفة «الترهين». فيعيش المتلقي الماضي كأنه ينبض بحيوية الحاضر: 
«أنتما معا - هو وأنت - يناغيكء يلتم على صدرك خفقان جسده» 
ومشاعرك باستجابتها السحرية شيء كما توأمة الروح» أصابعه 
الطرية تتحسس وجهك» (18. 

يلفت نظر المتلقي ضمير «أنتما» الذي تخاطب به كوماري نقفسهاء مما 
يفصح عن مسدى التوحد بين الطفل ومربيته؛ فهي تخاطبه كما تخاطب 
ذاتهاء وقد تجلت» هناء حميمية الخطاب, التي ترقى إلى مستوى مخاطبة 
أم ابنهاء في استخدام هذا الضمير. واستخدام التوكيد (معا) الذي عززته 
بتشبيه يوحد جسدها ب «خفقان جسده» الذي التم على صدرهاء وأصبح 
يخفق كقلبها! كما تعززه بتشبيه آخر. يوحد روحها بروحه. حين تشبهه ب 
«توأمة الروح» ثم تضيف إلى هاتين الصورتين:؛ اللتين تختزلان الإنسان 
جسدا وروحاء صورة حركية تفيض شفافيةء فتعزز روعة العلاقة بينهماء 


43 





إشكائية الأنا والآخر 


إذ عايش المتلقي حركته المحبية بأصابعه الطرية, التي تتلمس وجههاء 
لتجسد حضوره اللطيف في وجدانها! 


الآخروالدين 

تجرأت هذه الرواية. وقدمت جانبا مس كوتا عنه في الرواية العربيةء 
إذ نجدها كثيرا ما تهمل الجانب الروحي للآخرء لتعلي من شأن معتقدات 
«الأنا» ملغية كل ما يمنح الآخر رقيا أخلاقياء لكن رواية «بعيدا إلى هنا» 
نأت بنفسها عن ذلك. فقد أتاحت للمتلقي عن طريق صوت كوماري فرصة 
معايشة الديانة البوذيةء وعرفته على فيمها الرفيعة؛ التي تنير طريق حياة 
هذه الشخصية, فتنسج على هديها علاقاتها مع الآخرين: خاصة حين 
تقول: «في عطلتك تلك توطدت علاقتك بجدك أكثر» ولست تدرين أيا 
منكما أوحن للآخر أنه امتداد له. حرص أن يخصك بفائض وقته كله, 
علمك أن الديانة البوذية تؤمن بتناسخ الأرواح» وأن الدين سلوك بالدرجة 
الأولى» ومن يسلك صالحا من دون أن يحيد عن جادة الحق» يبعثه الرب 
- من بعد موته - روجا صالحة تنعم بالطمأنينة والسلام» أما من يسلك 
مسلك غرائزه الدنياء يعيث فساداء فإن الرب كفيل بمسخه - بعد موته - 
طريدا منبوذاء لا يعرف فرحا أو سكينة, (9. 

وبذلك يعزز الروائي الصورة الإيجابية للآخرء لدى المتلقي العربي. 
ويبني جسور التفاهم معه. فيحس بأخوته له. إذ يشاركه في القيم 
الأخلاقية نفسهاء التي يحض عليها دينه: أي يشاركه كل ما يعزز السلوك 
الراقي لدى أتباع البوذية والأديان السماويةء إذ يوحد هؤلاء مقولة أن 
الدين معاملةء لهذا يتجلى في الدعوة إلى الخير والعمل الصالحء مثلما 
يوحدهم الإحساس بأن ثمة ثوابا وعقابا ينتظرانهم بعد الموت» بغض النظر 
عن التفاصيلء وبذلك لا يبدو «الآخر الآسيوي» نقيضا ل «الأنا» على 
الصعيد الروحي. ونعل التركيز على مثل هذه المشتركات يسهم في تأسيس 
علاقة سليمة بيننا وبينهء تقوم على الشعور الندي والمساواة في الإنسانية, 
فالناس صنفان» كما يقول الإمام علي بن آبي طالب (كرم الله وجهه) «إما 
أخ لك في الدين؛ وإما نظير لك في الخلق» (010. 


44 





الأنا والآهر الأسبوى في... 


لعل أهم رسالة قدمتها الرواية للمتلقي هي تعريفه بأعماق الآخر 
الآسيويء ليس فقط همومه وأحزانه. بل مكونات وجدانه. فتركز 
على المشتركات التي تؤكد أنه نظير لنا في الإنسانية؛ لتمحو أي 
فكرة استعلائيةء قد تنتهك أعماقناء لتشوه إنسائنيتنا مثلما تشوه 
هذا الآخر. 


صورة الأنا العربية من منظور الآخر الآسيوي 

مثلما قدمت الرواية «بعيدا إلى هنا» الآخر الآسيوي في منظور 
«الأنا» العرييةء قدمت «الأنا» من منظور هذا الآخرء فأتاحت له فرصة 
تبادل الأدوارء أي فرصة التعبير عن ذاته وإسماع صوتهء وهو يقدم 
رؤيته للذات العربية؛ فكوماري حين تنظر إلى العرب يدهش ها تشابه 
سحناتهم, مثلما يدهش المتلقي العربي تشابه الآسيويينء وإن كان 
يلفت نظرها أكثر اعتدادهم الواثق... وبذلك تنطق الفتاة الآسيوية 
بمفردة ذات دلالة إيجابية في وصف الكويتيين «الاعتداد», فهي برغم 
معاناتها بسيب اتهامهم لها بالسرقة, لم تستخدم مفردة ذات دلالة 
سليية مثل «العجرفة أو التكبر» أو لغة عنيفةء مما ينسجم ومحنتها 
في السجن! 

هنا نتساءل: هل تدخل وعي الروائي الكويتي في إنطاق الشخصية 
بهذه اللغةء التي تغاير السياق النفسي الذي يحاصر كوماري في 
السجن؟ آم لعلها نطقت بها عبر تدفق ذكرياتها قبل حادثة اتهامها 
بالسرقة. فقد عاش رت العائلة فترة من الزمن. والست بنفسها 
معاملتها الإنسانية؟! 

يلاحظ في الرواية أن الصورة المشوهة للعربء احتلت مخيلة الآخر 
(الفتاة السيريلانكية) قبل أن تصل إلى الكويت» فنسجت مخيلتها صورة 
مسيقة نتيجة روايات سمعتها ممن عمل في البلاد العربية. فقد التقث 
كوماري في الطائرة زميلة سبقتها للعمل فيهاء نصحتها بألا تتخدع بمظاهر 
الضيافة والاحترام والكرم لدى المضيفات في الطائرة العربية! إذ إن هذا 
القناع سرعان ما يسقط في بلدهم؛ ويظهر ما يضمرونه في أعماقهم من 


45 





إشكالية الأنا والآخر 


عنف واحتقار تجاه الآخرء لهذا تؤكد لزميلتها قائلة: «ستسمعينهم ينادونك 
بلغتهم «تعائي يا حمارة» ينهرونك وهم يأمرونك «اذهبي يا كلبة!»... 
استعداد من داخلك لمواجهة الأكثر سوءا «الأجر.. المشقة في المقابل.. لم 
تصادفي يا حمارة». أنا محظوظة». 

نعايش عبر جملة «أنا محظوظة» اعتراف الذات الآسيوية بعدم 
معاناتها في غريتها من هده اللغة العنيفةء التي تساوي بينها وبين 
الحيوان: وأن «الذات العربية» التي أصبحت «آخر» كانت مؤطرة بأوهام 
مسبقةء أصبحت ضحية لها . لكن فقدان المرأة (دلال) للعقد. واتهامها 
كوماري بالسرقة أحيا هذه الأوهام ومنحها مصداقية. وبذلك ترسخت 
الصورة السلبية للعرب في ذهن الآخر الآسيويء لأن الحقيقة التي 
تتكشف للسيدة (حين تتذكر أنها أعارت العقد لصديقتها) لم تصل 
كوماري لتنصف على أساسها! مثلما لم تصلها محاس بة دلال لنفسها 
بسبب إساءتها الظن بخادمتهاء وإقصاء إنسانيتهاء حين دارت حول 
فكرة ثابتة هي «أن أحدا لم يدخل البيت» لهذا تعزز الرواية. هناء سوء 
التفاهم بين «الأنا والآخر». خاصة بعد أن تكتشف المرأة العريية أنها 
ظلمت السيريلانكيةء إذ نفتقد التواصل بينهماء فلم تصلها العبارة التي 
نطقتهاء وهي تحاسب نفسهاء لأنها جعلت خادمتها «كبش الفدا ..». 
ولم تنتبه إلى «مشاعر الآخر» و«مدى استعداده كي يغفر». بل تصل 
المحاسبة إلى أقصى مدىء حين تلوم نفسها بأنها ارتكبت «قسوة لم 
تعهدها ...» 1 في نفسها! 

هنا نتساءل: لم تنتحر الخادمة قبل أن تسمع هذا الاعتراف والمحاسبة 
للذات من فم سيدتها؟! فتطفو على السطح الصورة السليية ل «الأنا» 
العربية من منظور الآخر. 

لعل الروائي يريد أن يلفت النظر إلى مدى القهرء الذي يتعرض له 
الآسيوي» حين تحيطه «الأنا» العربية بسوء الظن» فيتهم بجرم لم يرتكبه. 
مما يضاعف تعاطف المتلقي العربي معهء فينفرء مما يمارسه من قهر 
ضد الآسيوي. 


46 





الأنا والآخر الأسيبوى في... 


من ا مسؤول عن سوء التفاهم مع الآخرة 

يلاحظ أن الروائي جعل السيدة (التي أعارت العقد لصديقتهاء 
ونسيت» بسبب.إرهاق السهرة) هي موضع إدانة من قبل المتلقي أكثر من 
الرجلء بسبب تجنيها على الخادمة (كوماري). وبذلك فإن الأذى الكبير 
نال الخادمة على يدهاء وإن بدا الرجل مشاركا فيه حين انساق مع اتهام 
زوجته لها من دون نقاش» حتى أنه أخذها إلى مخفر الشرطة. 

يلاحظ تكرار هذا الأذىء على يد المرأة في رواية أخرى لإسماعيل فهد 
إسماعيل بعنوان «مسسك» إذ تغير الزوجة اسم خادمتها «ميري» فتعريه. 
ليصبح «مريم». بل نجدها تمعن في إقصائهاء حين تمنعها من دخول 
غرفتهاء وتشترط عليها الإسلام من أجل ذلك! (12), 

هنا نتساءل: ترى هل تتوتر العلاقة بين المرأة وخادمتها بسبب احتكاكها 
اليومي معها داخل البيست؛ في حين ينأى الرجل عن الاحتكاك» بسبب 
التقاليد الاجتماعيةء أم أن ثمة نظرة ذكورية تحكم الروائي. فينزه الرجل 
عن تهمة تشويه الآخر, ليلحقها بالمرأة. وبذلك يجسدها في صورة سلبيةء 
تضطهد الآخر. وتؤسس لسوء التفاهم معه؟! في حين تبدو صورة الرجل 
أقرب إلى التعاطف أو الحياد مع هذا الآخرا وهو حين يؤذيه؛ يبدو 
مضطراء يؤمر من قبل المرأة فلا يستطيع الرفض. 


الآخروجماليات الخاتمة 

وكي يكون التعاطف مع الآخر الآسيوي مؤثرا في وجدان المتلقي معه 
ينهي إسماعيل فهد إسماعيل روايته «بعيدا إلى هنا» بصوت الخادمة 
في السجن:ء إذ يوحد بذلك بين خاتمة روايته ونهاية حياة كوماري التي 
قطعت شرايين معصمها بسكين صغيرة؛ فنسمع صوت أعماقهاء وهي 
تطلق أنفاسها الأخيرة مرددة صدى ذكرياتها على أرض وطنهاء فنجدها 
تختزله بصورة قريتها (نوريليا) وصورة الحبيب, «أطيقت جفنيك؛, 
حضرتك صورتكما - سونيل وأنت - تتسكعان في أحد شوارع كولوميو... 
فتحت عينيك. الضوء الحاد يحز ما عداه. «مسافة قرار» تذكرت نوريليا. 
المزرعة. كلمات جدك: 


47 





إشكالية الأنا والآخر 


- متوسط عمر شجرة الشاي لا يتجاوز.. أنت لم تبلغي الخامسة 
والعشرين بعد. «الوقت مسافته» فجأة تنبهت حواسك باتجاه باب 
معتقلك. كانت الأنحاء تتجاوب بنداء أذانهم: «الله أكبر». 

أطبقت جفنيك ثانية. رأيتك في نوريليا الجبل المزرعة. غبش الفجر. 
سحابة بيضاء تتدافع بين شجيرات الشاي تتخللها. 

كان نداء أذانهم يتواصل مترددا في خلفية ذاكرتك» وكنت تواصلين 
وتركضين كي تدركي سحابتك البيضاءء (13. 

نلاحظ تماهيا بين السكين التي «تحز» بها شرايين معصمها والزمن, 
الذي يحز عمرها مع «ضوء الفجر». وبذلك يشمل هذا الفغل بدلالته 
السلبية الكونء فيقطع صلتها بالحياة, مثلما يقطع المسافة؛ التي 
تفصلها عن وطنهاء حيث الأمان والحب. لتعيش غريتها حيث ينتظرها 
الموت. لهذا كان المشهد الأخيرء الذي تجلى لوعيهاء هو أجمل قضاء 
عاش ته في حياتهاء حيث مزارع الشايء في قريتها الجبليةء لذلك كان 
آخر صوت,. يتردد في وجدانهاء هو صوت جدها يحدثها عن شجرة 
الشاي (التي تعيش خمسا وعشرين سنة). فيحس المتلقي؛ الذي يعايش 
لحظات كوماري الأخيرة؛ بتوحد الشخصية مع النبتة. حتى أنها تشاركها 
مصيرهاء فتموت مثلها في سن مبكرة, لهذا تنطلق روحها (سحابة 
بيضاء) بين شجيرات الشاي. 

اختار الروائي فضاء زمنياء يناقض أفق توقع المتلقيء فقد دفع الخادمة 
إلى إنهاء حياتها مع بزوغ يوم جديد, أي مخالفة المألوف من إيحاء «الفجر» 
الذي يوحي ببداية الحياة وتجدد الأمل! حيث بات يوحي بمأساوية اللحظة 
والحدث, فقد بدت لحظة النهاية هي البداية (الموت) لدى كوماريء حيث 
تتخلص من قهرهاء مما يفاقم شعور المتلقي بمأساوية الحياة التي عاشتهاء 
والمصيرء الذي اختارته. 

وقد بدا تكرار «أذانهم» مرتين في حوارها الداخلي أشبه بإعلان عن 
غريتهاء ليس عن الوطن فقط؛ بل عن القيم الدينية؛ كي لا يستهجن المتلقي 
العربي المتدين انتحارها . فرغم أن الأمكنة المجاورة للسجن. كانت تتجاوب 
مع هذا الأذان, لكن المعاملة القاسيةء جعلت كوماري بعيدة عن التأثر بهذأ 


48 





الأنا والآشر الأشيوى في... 


النداءء لهذا كان بعيداء يختبئ في خلفية ذاكرتهاء فلا يشغل حيزا من 
وجدانهاء الذي انشغل بحلم» تطير فيه روحها كسحابة نحو قريتهاء التي 
اختارتها موطنا لروحها الراحلة. 

وقد وجدنا شخصية فيليب الهندي في رواية إسماعيل فهد إسماعيل 
«يحدث أمس» ينتظرها الموت في الغربة مثل كوماري التي يمكننا أن نعدها 
امتدادا لهاء خاصة في ملامحها الإيجابية (الإخلاص للعملء والتفكير 
في إسعاد الآخرين...) فهو شاب» ينتمي مثلها إلى الآخر الآسيويء يعمل 
موظفا في البصرة أثناء الاحتلال البريطاني للعراقء تحوطه الصفات 
الإيجابية «نشطء خفيف الحركة؛ لا تغنيه ساعات الدوام... من وإلى... 
ولا حجم العمل إن كان كبيرا أو لاء بقدر ما يعنيه أن يؤديه بالشكل الأمثل, 
يجيد الإنجليزية بطلاقة... إضافة إلى كونه يحفظ كلمات عربية محددة 
تكفيه في تداوله اليومي... تطوع لتعليم صديقه العربي الإنجليزية. كما 
يشارك كوماري في إحساسها بالغرية والرغبة في العودة إلى الوطن, 
وقد فشل مثلها في تحقيق هذه الرغبةء لهذا يشكل الحزن ملامح وجهه. 
فهو لم ير أهله منذ زمن طويل: قضى حياته في العملء وبذلك شاركها 
مصيرها المأساوي (الموت في الغربة)؛ لهذا نسمع الراوي يبين أنه فقد 
حياته في الغربة من دون دفء الأسرةء ولكن «من يعوض من؟» (14). وبذلك 
يموت الآسيوي من دون أن يجد تعويضا عن سني عمره. التي قضاها 
في الغرية. والتي أجهضت أحلامه؛ وقتلت أفراحه مثل كوماري في رواية 
«بعيدا... إلى هنا». 

استطاع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل أن يسلط الضوء على 
معاناة الآخر الآسيوي» عبر لغة حساسة: تشع بالتعاطف الإنساني» مما 
يؤكد أن المبدع الحقيقي يقف إلى جانب الإنسان الهامشي الضعيف. 
سواء أكان من أبناء وطنهء أم لم يكنء وبذلك يتجاوز الروائي الأفكار 
والأوهام المسبقة التي تشوه صورة الآخرء مثلما تشوه (الأنا)» فيفضح 
أولئك الذين يس تعلون على الآخر ويقصونه؛ وبذلك مارس عبر إبداعه 
الروائي نوعا من النقد الذاتيء لنبذ الكراهية ويناء جسور التفاهم 
والمحبة بين الأنا والآخر. 


49 





إشكالية الأنا والآخر 


الكاميرا تكتفي بنقل صورة ما أو وصفهاء بل هي منحى لأن تصبح حاملا 
درامیاء تشتبك من داخله بعلاقات جدلية ناميةء فتمثل عالما حياء يحتوي 
الشخوص والأزمنة والأمكنة والأحداث بحضور كثيف» (15), 

من هنا نستطيع أن نقول إن إسماعيل فهد إسماعيل قدم صورة الآخر 
الهامشي عبر لغة تتغلغل في أعماقه؛ لتفصح عن صراعاته النفسية, 
وجوده وإنسائيته . وبذلك يفضح «الأنا» في تجاوزاتها واستعلائها على 


الآخرء ويعزز اللغة الدرامية في الرواية. فيكسب احترام المتلقي في إبداع 
لا يفصل الجمال عن القيم النبيلة. 


50 





اا 

«قد تكون النظرة الاستعمارية 
الاستعلائية طاغيسة علسى 
النظرة المتفهمة. لكن الكاتبة 
الروائىء: مثلما أفسحته 
للعلاقات الإنسانية» 


المؤلفة 


أهداف سويف تبني 


جسورا بین «الأنا 6 


ورالآخر في رواية 
رخارطة حب» 


تعيش الكاتبة المصرية أهداف سويف 
بعيدة عن وطنها (في إنجلترا)ء لكنها 
حملت همومه في شفاف إبداعها . وأبرز 
هذه الهموم علاقة «الأنا» بالآخرء لهذا 
كتبت «خارطة حب باللغة الإنجليزية لعلها 
تتشي حوارا بين الذات العريية والآخر 
الغربي؛ إذ عمدت إلى رصد علاقة الشرق 
بالغرب بكل مظاهرها المشرقة والمظلمة: 
وأرخت عبر الإبداع الروائي لبداية 
الاحتكاك بالآخر (المستعمر والصديق) 
رابطة الماضي بالحاضر عبر لعبة فنية: 
لتنسج زمنين متوازيين: زمن الجدة (آنا) 


51 





إشكالية الأنا والآخر 


وحين تسأله أمه عن السبب الذي جعله يقدم على الطلاق ولم تمض 
على زواجه سنة؛ فيجيبها: 

«الحرب» 

«الحرب؟ الحرب تدفع رجلا ليطلق زوجته؟» 

«اكتشفنا نحن الاثنين أنني عربي»! (2) 

نلاحظ أن «عمر» يستخدم ضمير الجماعةء فيبتعد عن لغة إقصاء 
الآخر. مما يعني تحمله هو وزوجته معا مسؤولية الفشل في زواجه الأول 
فكلا الطرفين (العربي والغربي) مسؤولء لهذا نجده يكرر التجربة مرة 
أخرى» فيتزوج من أمريكية. لكن يبدو أن الزوجة الأولى: لم تتفهم القضايا 
العريية: التي يؤمن بهاء لهذا حدث الطلاق بعد الحرب» وبذلك انعكس التوتر 
بين الغرب والعدو الإسرائيلي على حياتهما اليومية! ويذلك تلمح الكاتبة إلى 
أن علاقة الزواج لن يكتب لها النجاح إلا بتفهم الآخر الغربي لقضاياناء لهذا 
نجحت تجربة زواج الجدة (آنا بشريف) فقد انعكس هذا التفهم عبر سلوك 
راق من قبل الطرفينء فنجد مثلا «آنا» قد اعتذرت لزوجها إثر حادثة دنشواي 
أوائل القرن العشرين (1906) قائلة: «كم أشعر بالخجل!» فأجابها زوجها: 
«لا تسمحي لهذه المشاعر أن تقلقك؟» ثم يذكرها بحقيقة إنسانية: «ليس 
كل المصريين سواء» إذ نجد بينهم من هو خائن ومن هو مخلصء وكذلك 
الإنجليز بينهم من يتوحش على المصريينء وبينهم من يساندهم (كأصدقاء 
آنا) الذين عملوا على إطلاق سراح السجناء المصريين لدى المستعمر. 

وبذلك عملت الكاتبة «أهداف سويف» في روايتها ”خار طة حب“ 
على نسج خيوط علاقة مدهشة بين الأنا والآخرء فرص دت لنا زواجا 
ناجحاء يلتقي فيه الشرق بالغرب» ليس في زمن مضى فقط» بل في الزمن 
الحاضر أيضا. 

لكن ذلك لم يمنعها من تسليط الضوء على بداية الاحتكاك بالآخر 
الإنجليزي (المستعمر والإنسان) فتقدم وثيقة إنسانيةء تبين نجاح العلاقات 
الإنسانية (الزواج) وفشل العلاقات الوحشية (الاحتلال)! فتؤسس عبر 
الفن الروائي لصور تؤكد لغة اللقاءء وتنفر من الاستعمارء الذي يتجلى 
عبر لغة صدامية , 


56 





أهد اف مويق تبني جسورا ... 


استمرت رابطة الزواج المشترك لدى الأحفادء وإن لم يكتب له النجاح 
دائماء لكن الطلاق كان انفصالاء ينأى عن مشاعر الكراهيةء ويتسم بموافقة 
الطرفين. إذ يتم تحكيم العقل والتفاهم؛ بعيدا عن لغة العداء والإقصاء. 
ومن ثم يتسم بسمات حضارية؛ قلما نجدها في الشرقء وبذلك يتم التأثر 
بمعطيات ثقافية واجتماعية غربيةء تدفع العلاقات الإنسانية إلى الأفضل. 

وقد بذلت الكاتبة جهدها في ربط الماضي بالحاضرء عبر الراوية 
البطلة (أمل) التي هي حفيدة «آنا الإنجليزية وشريف المصري» 
أي حفيدة زواج الشرق بالفرب. هنا نلاحظ الدلالة الإيجابية لاسم 
الشخصية (أمل) التي تعزز إمكانية استمرار العلاقات الودية بين الأنا 
والآآخر في الحاضر والمستقبل. ۰ 

وقد بدت لنا الكاتبة معنية بتسليط الضوء على الزواج الناجح الذي 
حدث في الماضي أكثر من ذاك الزواج الفاشلء لهذا سمعنا صوت المرأة 
«آنا» حرا عبر المذكرات والرسائل؛ في حين بدا صوت حفيدها «عمر» عبر 
لغة السرد أقل حضورا في فضاء الروايةء إذ قلما أتاحت الكاتبة له فرصة 
التعبير عن وجهة نظره» في حين أمعنت في منح هذه الفرصة ل «آنا» مما 
يوحي برغبة الكاتبة اللاشعورية في تعزيز لقاء «الأنا» و«الآخر». 

هنا نتساءل: هل عولجت العلاقة بين الأنا والآخر لدى «أهداف 
سويف» في إطار «التجنيس الحضاري». أي تحويل علاقة الشرق بالغرب 
إلى علاقة الذكورة بالأنوثة, كما يرى جورج طرابيشي ٩‏ إذ لم نجد 
الرجل الشرقي يعوض انهزامه الحضاري بانتصاراته الجنسية في الغرب, 
مثلما فعل بطل «الطيب صالح» في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» بل 
وجدنا علاقة متوازنة صحية تريط الرجل بالمرأة (آنا وشريف البارودي) 
كما وجدنا في المقابل امرأة شرقية (أمل) تتزوج رجلا غربيا. وبالتالي لم 
تعد صفة الذكورة مقتصرة على الشرقء. فقد منحتها الكاتبة للغرب أيضاء 
ومن ثم لم تكن «خارطة حب» أسيرة مقولات جاهزة وجامدةء كما لم تكن 
أسيرة أنماط شاعت في الرواية العريية. فلم نجد الرجل العربي يغزو 
بفحولته أوروبا. وبذلك أفسحت هذه الرواية المجال لعلاقة ندية بين الأنا 
والآخرء بعيدة عن قهر الأنوثة وجبروت الذكورة بكل إيحاءاتها المجازية. 


57 





إشكالية الأنا والآخر 


انفتاح «آناء على الشرق 

كانت «آنا» - مثل كثير من الفنانين الغربيين - مولعة بالشرقء فقد 
وجدناهاء منذ تفتح وعيهاء ترتاد المتاحف في إنجلتراء لتتأمل اللوحات 
التي تجسده. وقد كبر هذا الاهتمام بعد زواجها من «إدوارد» الضابط 
في الجيش الإنجليزي في السودان: ثم تقترب بعد وفاته من الشرق أكثرء 
إذ تقوم بجولة سياحية في مصرء تتعرف فيها على رجل مصري (شريف 
البارودي) وتتزوجه. 

تدهشنا هذه الشخصية بحيويتها وحبها للمعرفةء فهي تأتي إلى مصر 
بهدف استكشاف حقيقة الشرق بنفسهاء من دون أن تصغي إلى ما يشيعه 
أبناء وطنها من أقاويل تشوه صورة المصريين: فتقرر المغامرة باقتحام 
عالم غريب عنهاء لم يتعود خروج المرأة بمفردها من دون رجلء ومن دون 
حجاب. لهذا.نجدها تارة متخفية بزي امرأة محجبة:؛ وتارة أخرى بزي 
شاب عربي يرتدي الكوفية والعقالء مما يكسب ملامحها جاذبيةء تقربها 
من شخصيات ألف ليلة وليلة. 

اعتتت الكاتبة برسم هذه الشخصية؛ فأتاحت لنا سماع صوت 
أعماقها عبر مذكراتها ورسائلهاء ولعل أكير دليل على هذه العناية 
توحدها بصوت الراوية (الحفيدة) حتى إنها حاولت أن تنشئ علاقة 
خفية بينها وبين الراوية (أمل)؛ علافة تتجاوز الروابط الدموية التقليدية 
إلى روابط روحية توحد حياة الشخصيتين. لذلك حين يجفو النوم «آنا» 
تعيش الراوية هذه المعاناة نفسهاء وبذلك ننتقل عبر هذه الصلة من زمن 
إلى آخر. مما يوحي لنا ليس بتوحد هاتين الشخصيتين فقطء بل بتوحد 
الأجيال بشكل فني مقنع. 

وقد التحمت الشخصية الغريية بالإنسان الشرقي» وتوحدت به عبر 
الزواج وتعمدت الكاتبة أن تجعله مثمراء لتؤكد إمكانية استمراره؛ لهذا 
كانت ثمرة هذا الزواج ابنة. هي والدة الراوية (أمل) والتي حملت اسما 
شديد الإيحاء هو «نور الحياة» كأن الكاتبة توصل لنا عبره رسالة: هي 
أن نور الحياة: الذي ينجب الأمل (اسم الابنة) لن يكون إلا بلقاء الشرق 
مع الغرب. 


58 





أهداف سويف تبني جسورا ... 


امتزج حب «آنا» للمكان بحبها للإنسان,ء ولم يقتصر حبها على 
الأماكنء التي تركت بصمات حضارية أدهشت العالم كلهء بل تعدى ذلك 
إلى الصحراءء التي تحمل دلالة سلبية لدى البعضء لذلك عايشنا تأثر 
«آنا» يجمال سيناء؛ وعلمتنا كيف يغني سحر المكان الروح» ويرفرف بها إلى 
سر الخليقة وعوالم الجمال الذي سينقن العالم؛ كما يرى دستويفسكي» 
إذ يؤسس لعائم المثل؛ فتسوده المحبة والتسامح: لذلك تقول: «ما أنسب 
أن اختارها الله ليحدث فيها موسىء فهناء حيث يضطر الإنسان كي 
يعيش أن يحيا لصق الطبيعةء وبفضلها أحس أنني أقرب ما أكون إلى 
سر الخليقة كاملا ...». 

تقدم لنا الكاتبة عبر «آنا» روعة الفضاء المكاني وغناه الروحيء لعلها تريد 
أن تثبت في ذهن المتلقي أن الشرقء بفضل هذه الطبيعة الفريدة استحق 
أن يكون مهد الأديان السماوية: لهذا تتمنى «آنا» لو تبقى ملازمة للمكان 
الساحر, الذي يوحي لها بمعجزة الخلق؛ والذي أتاح لها فرصة أن تعيش حياة 
روحية استشائية. فتردد أعماقها صلاة هي ابنة اللحظة الاستثنائية التي 
تعيشها: «أصبحت كلما توقف الرجال للصلاة أهدي صلواتي الخاصة في 
كلمات بسيطة: أحمده سبحانه الذي شكل كل هذاء كي أشهد معجزة خلقه: 
وأدعوه أن ينزل رحمته على روح إدوارد المسكينء فقد خطر لي من وقت لآخر 
أنه لو جاء إلى هذه البلاد حاجا بدلا من ذهابه إلى السودان محارياء ريما 
كان اليوم على قيد الحياة وفي سكينة» 4). 

تشارك «آنا» المسلمين الصلاةء أي الإحساس بضرورة تقديم الشكر لله 
تعالى. ستتخذ صلاتها طابعا خاصاء إنها أشبه بتأمل للجمالء الذي يحيي 
الروح» ويهز القلب تأثرا بجلال الكونء واتساع آفاقهء فتتجه إلى التعبد في 
محرابهء لهذا انطلق لسانها بالشكر إلى الله تعالى: مما يعكس رحابة الرؤية 
لدى النفوس الحساسة: إذ تستطيع تلمس روعة الحياةء التي تستحق أن تعاش 
على الرغم من آلامهاء في تلك اللحظة تذكرت زوجها (إدوارد) الذي عايش 
درامية الحياةء إذ أغرقته مرارتهاء ونأت عنه روعتهاء خاصة بعد أن أعمت 
قسوة الحياة العسكرية بصيرته؛ وحجبت عنه هذا الجمالء وبذلك تشير 
الكاتبةء عبر اللغةء إلى عالمين متناقضين. فتختار لفظتين موحيتين ببشاعة 


59 





إشكانية الأنا والآخر 


الحياة (المحارب) وجمالها (الحاج)؛ فأدت بشاعة الاستعمار إلى وفاة «إدوارد» 
وغيره ممن يخدمون في صفوف جيشه» وبذلك تقتل الحرب الإنسان معنوياء 
قبل أن تقتله جسدياء فلا يرى سوى عالم القبح! وينأى عن عالم الجمال الذي 
عاشته «آنا» بفضل التحامها الروحي بالطبيعة والإنسان في الشرق, وابتغادهها 
عن علاقة القهر والإقصاء التي تتجلى لدى أبناء السلطة العسكرية. 

عمدت الكاتبة إلى تركيز الأضواء على الصراع الداخلي» الذي احتدم 
بين الوحش والإنسان في أعماق «إدوارد» مما أنهك روحه» وأدخله في 
ظلمة الكآبة: فانغلق على ذاته. يجتر هزائمه النفسية وحيدا معزولا على 
الرغم من رعاية زوجته وأبيه» حتى قتله الاكتئاب. 

تلفت نظرنا «آنا» إلى أن ثمة علاقة حساسة بين المكان الشرقي 
والإنسان الغربي» إنها أش به بعلاقة حبء تزدهر فيها الروح» حين يعامل 
المكان باحترام وود كما حصل مع الرسامة «آنا» العاشقة للمكان والإنسان؛ 
لهذا منحها الشرق أجمل ما لديهء فازدادت تألقا وقدرة على الانفتاح 
والعطاءء أما حين يتعامل الغربي معه بوحشية؛ كما حصل مع «العسكري 
ادؤارد» فلن یری جماله» بل يمنحه أسوأ ما لديهء من هنا لن نستفرب 
أن تظلم روح هذا الغربيء ويعيش بقية أيامهء يقتات بؤسه» حتى يقتله 
الإحساس بالذنب وفقدان الأمان. أما بالنسبة إلى «آنا» ققد انعكس حبها 
للشرق على علاقتها بأبنائه؛ لهذا لن نستغرب نجاح زواجها من مصري» 
فقد عاشت منفتحة على عالم. أحبته وأحبهاء ووجدت فيه مكانا لها بين 
أطرادهء مثلما وجدت قضية تبنتهاء ل«تمنحها معنى لحياتها!. 

وبذلك تنعكس العلاقة الإنسانية الخاصة (الزواج) على علاقتها بالمكان 
(مصر) فتتبنى قضيته؛ وتقف ضد محتليه من أبناء وطتها الممستعمرين؛ 
من دون أن يعني هذا القول إن زواج «آنا» من مصري هو سبب انفتاحها 
على الشرقء فقد امتلكت - قبل أن تتعرف على «شريف» وتتزوجه - 
رهافة حس تتبدى في احترامها لتقاليد البلد في تصرفاتها وفي ملابسهاء 
فنجدها «تختار لحفلة تضم عربا وغرييين ثوبا يستر كتفيها وذراعيهاء أي 
يتتاسب مع مجتمع مسلم» فلا يثير امتعاضا لدى أهل البلد؛ وهي تبين 
السبب حين تردد : «لمننا إلا ضيوفا قي بلدهم...». 


60 





أهداف مويق تبني هضور ... 


وقد سعت الكاتبة إلى إبراز احتفال القاهرة بأسرها بزواج «آنا» إذ 
حضره أشهر الشيوخ والأدباء والصحافيين: وبذلك قوبل حب «آنا» للقاهرة 
بالمثل» وعلى هذا الأساس بنت حياتها الجديدة, التي تستند إلى الثقافة 
العربية؛ فقد أحبت الموسيقى العربيةء وفتحت قلبها لكل ما هو جديد 
عليهاء لهذا وصفتها ليلى (أخت زوجها) قائلة: «لقد خلت تماما من ذلك 
التكبر والبرود الذي اعتدت تصوره في مواطنيهاء حتى كدنا نتنسى أنها 
إنجليزيةء لولا أنها كانت تستغرب أشياء. وتعجب بأشياء اعتدناهاء حتى 
لم نعد نراها أو نفكر فيهاء (5. 

استطاعت «آنا» بفضل انفتاحها على المصريين واحترامها لتقاليدهم 
أن تلفي الصورة المشوهة التي ,رس مها المصريون عن الآخر (الإنجليزي) 
فقد اعتادوا أن يروه مغترا بقوتهء أنانياء باردا في عواطفه. لا يهتم إلا 
بنفسهء فقد بدت هذه الشخصية نقيضة للصورة النمطية عن الآخر, 
بفضل انفتاحها وحرارة عواطفهاء حتى كأنها ابنة الشرق. لكن ما 
يكشف انتماءها للغرب هو حالة الدهشةء التي تتلبسهاء فتستغرب ما 
ألفه الشرقيون عادةء لذلك تنبه المشاعرء وتفتح العيون على جمال أغفله 
العرب لشدة ألفتهم له. 

حاولت «آنا» أن تكون جزءا من هذا المجتمع الشرقي في احترامها 
لتقاليده» ووفقا لرأي صديقتها «ليلى» أن ما قريها من قلوب المصريين. 
أنها كانت على طبيعتها في كلامها وسلوكهاء وبذلك لم تعد غريبة عمن 
يحيط بها . 

على الرغم من ذلك ستعاني «آنا» في حياتها الجديدة ليس من 
المصريين: بل من أبتاء مجتمعها الإنجليزيء فقد تجاهلتها النساء 
الإنجليزيات, عندما التقين بها عند بائع المجوهرات. وأسرعن بالخروج, 
مما أثر عميقا في نفسهاء وباتت على اقتناع تام بضرورة التخلي عن 
أي أمل في استئناف علاقة عادية مع أهل بلدها . وبذلك تبدو الكاتبة 
العريية متعاطفة مع أبناء بلدهاء الذين يرحبون بالآخر بينهم: في حين 
ترسم ملامح هذا الآخر بطريقة مشوهةء يرفض كل من يخرج عن سياقه 
الاجتماعي والثقافي. 


61 





شكالية ادا والآخر 


ومما يسجل للكاتبة أنها لم تقدم لنا علاقة الزواج بين الشرق والغرب 
بطريقة مثالية من دون منغصات, فآنا «لا تتحدث لغتها ولا تلتقي آهل 
بلدهاء وهم من جانبهم لا يس تطيعون: بل يرفضون لقاءها. هل يلقي هذا 
بظلال من الشك على هذه الحياة؟ فلعلها مؤقتة. مرهونة بظروفهاء وهل 
يفسر هذا حماسها لقضية مصرء ودفاعها عنها بلا هوادة5» (6. 

تعاني «آنا» في مجتمعها الشرقي الجديد من أبناء وطنهاء أي من 
أولكك الإنجليز المنغفلقين على أنفسهم, الذين يعاقبون بالتبذ كل من 
حاول الاقتراب من الآخر الشرقي. ومثل هذه المعاناة ستدفع «آنا» إلى 
الالتحام أكثر بالمصريين: حتى إنها ترى معنى حياتها في تبني قضيتهم 
ضد المستعمرين (أي أبناء بلدها)! يحاول الزوج (شريف) تخفيف غريتها 
بكل ما يستطيع: ففي عيد الميلاد مثلا يفاجئها «بصليب مطعم بالياقوت». 

أعتقد أن هذه الهدية (الصليب) رسالة يعبر فيها الزوج عن احترامه 
لمعتقدات زوجته؛ فقد بحث عما يفرحها من رموزء على الرغم من أنها 
تخالف ما يؤمن به. لذلك يدت الهدية هنا أشبه برسالة ود تؤلف بين 
القلوب. وتعزز خصوصية (الآخر) من دون أن تذيب خصوصية «الأنا» 
أي المعتقد الديني؛ وبذلك تقوم العلاقة الصحية على الاحترام المتبادلء 
وتبتعد عن الإلغاء والقهر والاستعلاء. 

تدهشنا رقة الزوج الذي يبذل ما بوسعه لإسعاد زوجته؛ حتى إنه يصر 
على أن تحدث ابنتها باللغة الإنجليزيةء التي هي جزء من هويتهاء لعله 
بذلك يخفف عنها عناء غربتها اللفوية. وبذلك يفسح لها المجال للتعبير 
عن ذاتهاء من دون أن يحس بالقلق على لغته وهويته العريية. ومثل هذا 
الموقف لا بد أن يثير العجب» فيتساءل المتلقي: أيمكن أن يصل تسامح 
الرجل إلى درجة الرضى بإلغاء مقومات هويته؟ أم أن هذا يعني ثقة 
بالذات. فتعلم اللغة الإنجليزية لن يلغي الهوية العربية: بل يجعل «آنا» 
حريصة على نشوء ابنتها على الثقافتين معا فالانفتاح على «الآخر» لا بد 
أن يجر انفتاحا على «الأنا». 

على الرغم من الحب والتفاهم بين الزوجين حدث بعض التوتر في 
العلاقة بينهماء وذلك بسبب الخلاف الكبير بين عادات الشرق والغرب» 


62 





أهداف سويف تبني جسور! ... 


ضفي الشرق تعد الزوجة مستقلة مالياء وفي الوقت نفسه يعد الزوج مسؤولا 
عن مصروفها. لهذا حين سحبت «آنا» من البنك بعض مالهاء شعر زوجها 
بالإهانةء وحدثت بينهما مشادة. لكن حين عرفت «آنا» خطأهاء أعطته 
ا مبلغ كي يرس له إلى جمعية خيريةء فعاد الصفاء يرفرف على حياتهماء 
عندئذ يقول لها زوجها: «الفرق بين طرقنا وعاداتنا كبير! فليصبر كل منا 
على الآخر». 

لا تبدو الكاتبة غافلة عن الهوة الاجتماعية والثقافيةء التي تفصل 
«الأنا» عن «الآخر»» لهذا سلطت الضوء على بعض الصعوبات» التي 
تعترض الحياة المشتركة بين رجل شرقي وامرأة غرييةء لكنها لن تؤدي 
إلى تدمير لقاء «الأنا» بالآاخرء أي العلاقة الزوجية, لذلك نجاح العلاقة 
يحمل مسؤوليته كلاهماء «فليصبر كل منا على الآخر». فاستخدم ضمير 
الجماعة (نا) الذي يجمع الأنا بالآخرء ويساوي بينهما في المسؤولية. 

سلكت «آنا» إلى جانب طريق الصبر طريق العمل الدؤوب من أجل 
التأقلم في حياتها الجديدة. حتى وجدناها تتعلم حرفة تزاولها النساء 
المصريات في ذلك الوقت (الغزل على النول)ء وحين تتقن هذه الحرفة 
يكون أول ما تنسجه «رسسم أوزوريس» فكأنها بذلك تعلن انتماءها إلى 
الحضارة الفرعونيةء مثلما انتمت إلى الحضارة العربية. حين أتقنت لفتها. 

ترسم الكاتبة أحيانا ملامح شخصية «آنا» بطريقة أقرب إلى المثالية. 
إلى درجة أنها حين خطفها المصريون إلى بيت «البارودي» وفي ظنهم أنها 
رجل إنجليزيء يبادلون به مصريا معتقلا لدى السلطة المستعمرة. وهو 
زوج «ليلى» أخت «شريف». التي كانت سجانتهاء بعد أن انكشف أمرهاء 
أدهشت المتلقي ردود فعلها المطمئنةء إذ تقول «آنا»: «انتابني شعور غريب 
أني أجلس هنا وكأنني في لوحة من اللوحات المحببة إلى نفسيء أو حكاية 
من حكايات ألف ليلة وليلة... وجدت متعة في التعامل مع سجانتي الرقيقة 
تعادل استمتاعي بتلك الحكايات...» (7. 

تجد المخطوفة (الإنجليزية) نفسها في بيئة غريية عنها تماماء ومع 
ذلك لا تقلق!! بل تحس أنها في عالم سحريء هو عالم الفنء الذي تعشقهء 
حتى إنها أحست بأنها تعيش تارة في لوحة تشكيلية تحبهاء أو كأنها إحدى 


63 





إشكالية ادا والأخر 


بطلات «ألف ليلة وليلة» والمدهش أن السجينة تستمتع بالجديث مع سجانتها 
قدر استمتاعها بالعوالم السجرية لقصص ليالي «ألف ليلة»! وبذلك تنقلنا 
الكاتبة لشدة حماستها لبناء جسور التفاهم مع الآخر إلى عالم مثاليء 
تنجاز فيه للخيالي على جساب الواقمي. وبالتالي تنقلنا من مشاعر الخوف 
والقلق, التي يعيشها المرء عادة في السجن, إلى عالم المتمة والبهجة؛ فتنسى 
أثنا أمام معاناة امرآة في مجتمع غريب» تعيش فيه سجينة . 

عنيت الكاتبة بتقديم مرجلة تاريجية مديدة تمتد منذ بداية القرن 
المشرين إلى نهايته تقريباء لذلك بعد مائة عام من تجرية «آنا» الإنجليزية. 
سنجد الأمريكية «إيزابيل» صديقة جفيدة «آنا» في عام 1997 يستولي 
عليها الخوفء وتهجس بالخطف. فور تعطل السيارة: التي تقلهما إلى 
الصعيدء لذلك جين يأتي أحد المارة وينجدهماء تعبر عن قلقها بسؤال 
صديقتها «أمل»: «هل أنث مطمئنة إلى هذ!5».. «ماذا تقصدين5».. «أليس 
هناك خطرة».. «لكن هل أمان أن نذهب معه؟... طبها لا تخافي» (5. 

إن لقاء شاب مصري في الطريق إلى الصعيد, يعرض خدماتهء يعد 
أن تعطلت السيارةء يوحي تصرفه للغريبة بالقلقء بل بقدوم خطر يهددهاء 
لهذا نجدها تكرر سؤالها القلق أريع مراتء مثلما تكرر مفردات» توحي 
بافتقادها الأمان. حين التقته وشعورها ب «الخطر» فتلتمس من صديقتها 
ما يطمئنها. ش 

إذن لن نستغرب هذا القلقء الذي يساور الفريبة, وهذا مفهوم في زمن 
تشويه صورة المسلم» وزمن العداء المستفجل ضد أمريكاء لكن ما يُستغرب 
هو إجساس «آنا» بالأمان في زمن يجتل آهل بلدها مصر. 


الآخرالمستعمر 

يجس المتلقي في كثير من الأحيان أن صوت البطلة «آنا» يتماهى مع 
صوت المؤلفةء خاصة جين يتم تحديد سببين لانجذاب الغربيين للشرق: 
الأول استعماريء حيث يكون الدافع اقتصادياء فأوروبا تحتاج إلى مواد 
خام لصناعتهاء وإلى أسواق لمنتجاتهاء وإلى فرص العمل لرجالهاء وقد 
وجدت ذلك كله في بلاد العرب. 


64 








أما المسبب الثاني فرومانسي» حيث نجد الفرييين ينجذبون دينيا 
وتاريخيا لأرض الكتاب المقدس. بلأد القدماء والأساطيرء يبدا هذا 
النسخر ويولد هذا الانجذاب في نفس الأوروبي وهو مازال ضي وطنه, 
وغندما ياتي إلى الشرق المنشودء يكتشف في البلاد سكانا لا ينهمهم: 
وريما لا يرتساح إليهم: فنجده أمام عدة خيارات: إما أن يتجاهل أهل 
البسلاد؛ أو يخاول تغييرهم وتغيير عاداتهسم» أو يفادر البلادء أو يحاول 
همهم (©. ) 

لن تتتعسي «آنا» للآخر المسدت 4 تتفم ولا للآخر الروماتسي: فهي 
تنتقد كتا النظرتين. فإذا كانت النظرة الأولى واضحة في سلبيتها 
وانتهساك حقوق الشسرقيين ونهب ثروتهمء فإن النظرة الروماضسية 
تخفي سسلبيتها وراء مبالفات وأوهام» تنأى عن الحقيقة: وثوحي إلينا 
بنفي الآخر الشرقيء وذلك غن طريق تجاهل الصورة الحقيفية له 
والهروب بعيدا عنه! كمسا توحي إلينا بالاسستعلاء إذ تحاول قولبة 
الشسرقي وتغييره وفق نموذج متخيل: يرضي رغبات «الآخر» وأوهامه 
عن «الأنا» الشرقية: 

نجد قلة من هؤلاء الرومانسسيين من يحاول فهم الآخر الشرقي» 
والاقتراب من واقعه: ليؤسس علاقة متوازنة معه؛ ومثل هذا لن يكون 
إلا ماحترامةء وعدم الاستعلاء عليه. وتفهم مشساكلة: وقد كانت «آنا» 
إحدى هؤلاء الرومانسيين. حين قررت الزواج بشرقي. 

قد تكون النظرة الاس تممارية الاس تعلائية طاغية على النظرة 
المتفهمة, لكن الكاتبة لم تفسح لها فضاءها الروائيء مثلما أفسحته 
للعلاقات الإنسسانية؛ التي نشأت بين شسرقيين وغربيين» فأهملت 
تلك العلاقات التي تنشا بين عسسكريين أو سياسيين: واختارت 
شخصيات تهتم بالفن (الزسم, التصويرء الموسيقى...) وكي ندرف 
الهوة بان هؤلاء وببن السياسيين نجد الكاتية قى أثيتت خطاب أخد 
رؤساء أمريكا (روزظلت) في الجامعة. حين تحداث عن المصريين» 
فقال:«إن أمامهم أجيالا قبل أن يتعلموا حكم أنفسهم» وأنّيهم 
بتهمة التعصب الديني. 


65 








إشكالية الأنا والأخر 


فيرد عليه لطفي السيد: «إن مصر نضجت وبلغت سن الرشد منذ 
آلاف السنين. وقبل أن تظهر أمريكا في الوجود! والأمر مؤسف إذ يسبب 
خيبة أمل جديدة للمصريين: ويثبت ما أصبحنا نعرفه من أن الناس في 
الغرب يعتنقون منظومة من القيم عزيزة عليهم» وينكرونها على أشقائهم 
فى الشرق» (10),„ 

يرسم الرئيس الأمريكي صورة مشوهة للشعب المصريء تنب عن نظرة 
استعلائيةء إذ يراه لايزال قاصرا عن حكم نفسه بنفسه» تتحكم في تصرفاته 
أهواء التعصب الديني, لهذا لا يستحق منه سوى الزجر والاحتقار. 

يرد عليه تطفي السيد؛ أحد رواد النهضة المصرية: بنبرة تعليمية حادةء 
يعرض فيها بتاريخ أمريكا الهمجي؛ الذي قام على إبادة الهنود الحمر, 
حين لم تظهر بلده إلى الوجود إلا منذ فترة قصيرة! 
من أن الخطاب موجه للرد على روزفلت في زمن مضىء» فإنه لايزال يصلح 
الآخر المستعمر في الماضيء مثلما تنطق بمعاناتنا منه اليوم. 

ويذلك تفضح الرواية الغرب (أمريكا وأورويا) مبرزة الحالة المصامية 
التي يعيشهاء فهو يعاني ازدواجا في الشخصية؛ يصل إلى درجة يبيح 
فيها لنفسه التمتع بالديموقراطية ويضن بها على الشعوب الشرقية: التي 
يضعها في خانة البدائيةء كي يبرر عدم أهليتها للديموقراطية. 

قدمت الكاتبية هذه الازدواجية عبر مشاهد تاريخية؛ آخذتها من 
يراعون حقوق الإنسان في بلادهم؛ أما في المستعمرات فيعاملون الأهالي 
بوحشية:؛ كما حصل في حادثة دنشواي» التي وثقتها الكاتبةء «فقد كان 
منظرا بربريا وحشياء المشائق منصوبة في القريةء والعروسة (مكان الجلد) 
بجوارهاء حشد الناس كالأغنام ليشهدوا تنفيذ حكم الإعدام. يشنقون 
رجلا ويتركونه معلقا أمام أسرته وأهله. ويريطون غيره في العروسةء 
ويجلدونه» ويعيدون الكرة مرات ومرات ويدعون أنهم متحضرون» (11). 


66 





أهداف سويف تبني جسور! ... 


يتمامى صوت الكاتبة مع صوت الراوية المشاركة (ليلى) حين ينتقد 
الممارسة الوحشية للمستعمرء لتفضح ادعاءاتهم الحضارية: ولترسخ 
الصورة السلبية للمستعمر لدى المتلقي. 

وبذلك تسقط الكاتبة وعيها على صوت المرأة (ليلى) بصفتها الحلقة 
الأضعف في الشرق. خاصة في أوائل القرن التاسع عشرء لعلها توحي لنا 
بأن المعاناة تولد وعياء خاصة حين يمتلك الإنسان سلاح العلم. 

ثمة رغبة لدى الكاتبة «أهداف سويف» عبر هذا الإسقاط؛ في إلغاء 
تلك الصورة التقليدية للمرأة الشرقية الجاهلةء فنجدها تبين كيف تميزت 
نظرة «ليلى» بالوعي» الذي قد يتجاوز السياق التاريخي» الذي تعيشه 
المرأةه وكذلك السياق الاجتماعي والثقافي في بدايات القرن العشرين, 
لهذا أعتقد أن حماسة الكاتبة لتقديم صورة مشرقة للمرأة دفعتها إلى 
هذا الإسقاط, فتماهى صوتها مع صوت «ليلى» التي تتساءل: «هل كان 
من الممكن أن نعيش حياتنا دون سياسةء سلطات الاحتلال تقرر ما يزرعه 
الفلاح من محاصيل» وتقف في وجه أي مشروع صناعيء منعتنا من إنشاء 
مؤسساتنا المالية. عطلت تحقيق رغباتنا في التعليم؛ أخضعت كل ما ننشره 
للرقابة. حرمتنا من صوت يتحدث باسمنا في البرلمان العثمانيء تفرض ما 
يحق لرجالنا أن يقوموا به من أعمالء وتعطل تحرير نسائناء تضعنا جميعا 
تحت الوصايةء وتحرم علينا أن نكبرء ونبلغ سن الرشد» (02. 

نعايش هنا صوت الكاتية لا صوت الشخصية »كي تعسزز الصورة 
السلبية للمستعمر بتفاصيلء ثم جمعها في فترة لاحقة باعتقادنا . فقد 
تعددت مظاهر وحشيته؛ ولم تقتصر على الجانب العسكري فقطء بل 
امتدت يده لتدمر كل مظاهر الحياة الحضارية بجميع جوانبها: فقي 
الزراعة تأمر سلطة الاستعمار الفلاحين بزراعة أصناف ترتبط بازدهار 
صناعته ا واقتصادها كالقطن. من دون أن تهتم بتأمين حاجات البلاد 
الأساسية كالقمح, وبذلك تحتل معدته. كي تؤس سس لاحتلال إرادته. أما 
في الصناعة فقد حاربت المشاريع: التي تنمض باليلد» وخنقت إمكانية 
بناء مؤسسات مالية تدعم الاقتصاد. ولم تألّ جهدا في منع بناء شخصية 
الإنسان الشرقيء إذ حاربت التعليم ومنعت حرية الصحافة؛ حرمت انتعاش 


67 





إشكائية الأنا والآخر 


الديموقراطية»ء فافتقد الشعب ممثلين عنه في البرلمان» باختصار حرمت 
المصريين من كل ما يتمتع به شعبها في إنجلتراء لكي يبقى الشرق على 
جهله. وبذلك سعت إلى اغتيال أي إمكانية لنهوضه! 

أعتقد أن مثل هذه الرؤية العميقة والمتعددة الجوانب للاستعمار لا 
يمكن أن تصدرء في بداية القرن العشرينء عن امرأة شابة تعيش عالما 
لايزال مغلقاء تحاصرها فيه جدران بيتها. 

لكن يسجل للكاتبة محاولتها الابتعاد عن رسم صورة قاتمة للآخر؛ 
تطفى عليها الانفعالية: فنجدها تعرفنا على شخصيات إنجليزية ذات 
ملامح إيجابيةء تلتقي مع «آنا» في انتقاد وحشية الاستعمارء وتكاد تتوافق 
مع ذلك النقد الذي وجهته المصرية «ليلى» فقد وصفت كارولين (صديقة 
آنا) وحشية الإنجليز حين قضى رجال «كتشنر» على المهديء ومثلوا بجنتهء 
فقطع «بيلي» رأسه كي يستخدمها محبرة مع أن الناس في السودان 
يقولون عنه إنه من رجال الرب! (13). 

لم تستطع الكاتبة أن تحافظ على اللفة الموضوعية في تقديم صورة 
المستعمرء لذلك نجدها تختار رواية درامية لنهاية المهدي» كي تبرز وحشية 
الممستهمرء لكنها تتعمد سردها على لسان الراوية الإنجليزيةء كي تمنح 
روايتها طابعا موضوعيا ومصداقيةء خاصة أن كتب التاريخ ذكرت نهاية 
أخرى للمهديء إذ أصيب (1885) بحمى خبيئة من نوع الالتهاب السحائي 
الشوكي أودت بحياته وهو في أوج قوته 14. 

ومما يسجل للكاتبة عدم قولبة الآخر في قالب تمطي واحدء لذلك 
حاولت التمييز بين الإنجليزء فهناك من يتبنى السياسة الاستعمارية. 
وهناك من يرفض وحشية المستعمرء وبذلك تقدم صورة متوازنة للآخر. 
تجمع بين الصورة السلبية والإيجابيةء فقد ركزت الضوء على موقف 
أخت الجنرال «جوردون» التي رفضت الحملة على السودان من أجل الثأر 
لأخيهاء الذي قتل على يد أتباع المهدي» فوجدناها تبين أنها «متأكدة أنه 
هو نفسه ما كان يرغب في ذلك» تقول إنها تعلم أن المهدي لم يكن يريد 
أبدا أن يقتل الجنرال غوردون: بل كان يريده حيا حتى يقايض به لإطلاق 
سراح عرابي باشا المنفي» (15). 


68 





أهداف سويف تبني جسورا ... 

تثبت لنا كتب التاريخ صورة مشرقة للمهديء وقد بذلت الكاتبة 
جهدها لترسخ من خلال روايتها التاريخية تلك الصورة في الأذهان, 
التي تعزز تسامحهء وعدم ميله إلى القتالء ليس عن جينء بل رغبة في 
حل أمور المسلمين بالوفاق» فهو يمثل الرجل المتصوف, الذي يمبعى إلى 
حقن الدماء بغض النظر عن انتماتها الديني أو العرقيء لهذا كان يرسل 
الرسائل ل«غوردن» كي يستسلم من دون قتالء لكنه لم يصغ إلى رسائله 
واندفع إلى قتال المهديء الذي كان يود الإبقاء على حياة «غوردن» 
والاحتفاظ به أسيراء ليفتديه بعرابي 16. 

تبدو لنا الكاتبة معنية بتقديم رؤية موضوعية للذات وللآخر, 
فكما قدمت صورة مشرقة للمهديء. نجدها تحاول تقديم وجه إيجابي 
ل(غوردن) كي لا تسيطر على المتلقي الصورة السلبية؛ التي لمحناها قبل 
قليل. لذلك أتاحت لنا الكاتبة سماع صوت أخته. التي تبين لنا أن هذا 
القائد» كان من أوائل المتبرعينء عندما فتح «مستر بلانت» ياب التبرع 
للإسهام في نفقات الدفاع عن عرابي أثناء محاكمته. 

اهتمت الكاتبة برسم صورة الآخر (الإنجليزي) بطريقة حيوية؛ تبعده 
عن الصورة النمطيةء لذلك جسدته لنا وهو يمارس النقد الذاتيء فمثلا 
نجد «مسز بوتشر» تنتقد الممارسة الوحشية للاستعمار الإنجليزي في 
مصرء فقد تظاهر بالاهتمام بالأمور المادية للمصريينء وتجاهل حياتهم 
الروحيةء أما «مستر ولكوكس» فينعي قلة ما تقوم به الإدارة الإنجليزية 
«لتطوير التعليم» ويقول إنه لا يعتقد أننا ننوي أن نخرج من مصر بعد 
أن يتم إصلاحهاء وإلا كنا اهتممنا بالتعليم حتى يتمكن المصريون من 
تسلم مقاليد حكم أنفسهم» (17), 

هنا تسلط الكاتبة الضوء على المسكوت عنه» عبر صوت شخصية 
إنجليزيةء تفضح كيف مارس المستعمر القتل المعنوي للشعب المصريء 
وذلك حين عمل على حرمانه من التعليم» مما يبقيه رازحا تحت نير 
الجهلء فيبدو عاجزا عن حكم بلاده: وهذا ما يفسح المجال أمام 
المستعمر للإمساك بزمام الأمور في مصر. 





إشعائية انا والآخر 


تضع «آنا» يدها على المشكلة الأساسية لدى كثير من الغربيينء فترى 
أن الحالة الفصامية: التي يعيش ونهاء لا تتجلى فقط عبر ازدواجية 
القيم. التي تسمح لهم باحتكار الديموقراطية وخنق حرية الآخرين, 
بل تتجلى أيضا في التفريق بين الأرضء التي تنتمي إلى الشرق الجميل 
(عالم «ألف ليلة وليلة») وبين ساكنها العربي» الذي يعد عدوا تاريخيا 
للغربي» فهم «يحبون هذه البلاد بقدر ما يبغضون أهلهاء وفي عقولهم 
فصل تام بين الاثنين». 

إن المتأمل في رواية «خارطة حب» يلاحظ أن أكثر المعترضين على 
سياسة المستعمر الوحشية هم من النساء الإتجليزيات. من دون أن 
يعني هذا القول أن الكاتبة متحيزة لبنات جنسهاء إذ عايش المتلقي 
إحساس الذنب» الذي يملأ ذوي الضمائر الحية من الجنسين» حتى 
أننا وجدناها تورد قول «وليام بتلر» ل«الجنرال كتشنر» «إن لم تتزل 
اللعنة على الإمبراطورية البريطانية بسبب ما فعلت» فليس هناك حق 
في ديننا» (18), 

وبذلك قدمت لنا الرواية أزمة ضمير يعيشها الإنسان الحساسء لهذا 
يستفظع «بتلر» الوحشية التي وسمت تصرفات المستعمر في إمبراطوريتهء 
ويرى أنها تستدعي العقاب الإلهي لبشاعتها. وبذلك يلوذ بالخطاب 
الدينيء الذي يمكنه أن ينتقم من أولئك الذين ارتكبوا الفظائع في حق 
البشرية: فالعقاب الإلهي لدى بتلر ينصف الضعفاءء ويقهر الظالمينء وهو 
إن لم يحصل فسيراوده الشك في إيمانه! ش 


الأتا العربية: 
عانت «الأنا» العريية من الصورة المشوهة., التي رسمها لها الغربيونء 
وقدآلم الكاتبة أن تسود مخيلة الآخرء لذلك حاولت عرضهاء ثم أتت 
بمشاهد حياتيةء تثبت خطأها. لعلها تعدل ملامح هذه الصورة المشوهة 
في أذهان الغربيين» ويذلك ترد بشكل عملي على هذه الصورة المشوهة. 
تستعين الكاتبة في أحد المشاهد بالتناص من أجل رسم ملامح هذه 
الصورة» إذ أطلعتنا «آنا» على دليل «توماس كوك» الذي يبين أن الصحراء 


70 





أهداف سويف تبني جسور! ... 
ليست مكانا أثيرا إلا في أذهان الرومانسيين. فهي خيالات صبيانية: إذ إن 
الواقع يثبت عكسها «فالبدو - على الأقل أولئك الذين يعيشون بين مصر 
وفلسطين - جنس تافه. وقح» جاهل. كسولء طماعء وليس فيهم أي صفات 
جذابة... والعربي العادي يفتقر إلى الكياسة وإلى القوة... قوم يتمتعون 
بالرضا والقناعة. يشبهون زنوج أمريكا كثيرا في بساطتهم وطيشهم 
ومرحهم» وهم جميعا يفهمون كلمة بقشيش فهي أول كلمة يتعلمها الصغار 
وآخر كلمة يتلفظها المسنون...» (19). 

يبين لنا هذا التناص المأخوذ من الدليلء الذي يقدم للغربي. كيف 
ينظر إلى العربي بعيون معادية. وترسم ملامحه بلغة عنصريةء فتعري 
المكان (الصحراء) من كل جمالء وترى أنه وهم ينجذب إليه الحالمون» لكن 
الكاتبة ترد عبر تجربة حية عاشتها «آنا» في صحراء سيناءء فبدت نابضة 
بالسحر والإلهام» ورأت في شفافيتها قدرة على أن تغسل الروح البشرية, 
وتعيد إليها براءتها الأولى وإيمانها بالله! لهذا كانت أهلا لتلقي رسالة 
السماء إلى البشر. 

لم يكتف الدليل بتشويه المكان بل عمد إلى تشويه صورة الإنسان 
العربيء إذ يلحق به كل الصور الس لبية التي تدمر إنسانية الإنسان 
(التفاهة, الوقاحةء الجهل؛ الكسلء الطمع...). فيبدو العربي كائنا حقيراء 
لا يهمه في الحياة سوى الحصول على امال الذليل (البقشيش). 

تحاول الكاتبة أن ترد على ذلك عبر مشهد واقعيء يبرز نزاهة العربي 
وكرمه» فقد رفض شريف أن تنفق زوجته (آنا) على نفسها من مالها 
الخاصء كما يفعل الغربيون: حتى أننا وجدنا أن أبرز مظاهر سوء التفاهم 
بين العربي وزوجته الغربيةء كانت بسبب رفضه» أن تستعين بمالها الخاص 
في شؤونها الشخصية! لهذا حين يصف «سيلون» الرجال المصريين بآنهم 
جميعا أوغاد. وأنهم جميعا يشتهون أن ينالوا من شرف امرأة أوروبية من 
الطبقة الراقية. خاصة إذا كانت إنجليزيةء تتعمد الكاتبة: هناء أن تجعل 
الرد على لسان امرأة إنجليزية (آنا) عاشرت العرب. فاستطاعت أن تفضح 
ادعاءاته: إذ إنه يتحدث عن العرب. من دون أن يعرف اللغة العرييةء ومن 
دون أن يكون قد تعرف على أي مصريء فهو ينطلق من نظرة استعلائية 


71 





إشكالية الأنا والآخر 


مسبقةء ترفض معرفة الآخر عبر المعايشة اليوميةء أي اللقاء الحميمي. 
لهذا من السهل عليه أن يضغ العريي ضمن قوالب جامدة تسيء إلى 
صورته الحقيقية. 

كان رد «آنا» مؤثراء لكونه صدر عبر صوت أعماقهاء ينطق بعفوية 
الصدقء فنلمس لديها نبرة موضوعية يؤسسها الحب. عندئذ تتسع آفاق 
الروحء فتطرد النبرة التعصبية لدى ابن بلدها «سسيلون» وقد ساعدتها 
تجريتها الحية مع رجال عرب» سافرت معهم إلى الصحراءء فتبوح لنقسهاء 
مثلما تبوح للمتلقي؛ بأنها تتمنى «لو حظيت بمثل تلك المعاملة الكريمة في 
ضيغة في الريف الإنجليزي» (20) , 

وبذلك تغير الكاتبة الصورة النمطية السلبية التي رسمها سيلون 
للعرب» إذ تقدم البطلة خلاصة تجاربها معهم» فتعنى بالممارسة الحياتية 
الراقية التي عوملت بها آنا كي تمحو لقب «الأوغاد» الذي ألحقه بهم 
الدليل! وبذلك تعمد الكاتبة إلى استخدام الوقائع الحياتية التي عايشتها 
هي وبطلتهاء كي تمحو الأثر السلبي لكلام نظري مغرض: لا أساس له 
من الصحة. 

تحاول أهداف سويف أن ترسم لنا ملامح الصورة الإيجابية للعربي 
غير مقيدة بزمن معين. فالكرم العربي الذي عايشته الجدة آنا في 
بداية الألفية الثانية» قد عايشته أيضا حفيدتها آمل مع بداية الألفية 
الثالثةء فحين تعطلت سيارتها (أثقاء سفرها إلى قريتها في الصعيد) 
وهي برفقة صديقتها الأمريكية إيزابيل ينجدها شاب مر مصادفة في 
طريقهماء فيسحب سيارتهما إلى مكانء يمكن إصلاحها فيهء وقد رفض 
أخن أجرته قائلا: «ماذا تظن السيدة الأجنبية». فتستفرب إيزابيل عزة 
نفسه. على الرغم من أنها لاحظت فقره؛ فقد كانت سيارته قديمة على 
شفا الغطب. 

وبذلك يلمس المتلقي رغبة لدى الكاتبة في مقاومة تشويه الصورة 
التي يتعرض لها العربي؛ لهذا اختارت مشاهد حية تثبت في ذهن 
المتلقي الغربي الصورة الحقيقية لهء وتلغي الصورة النمطية التي رسمها 
الدليل ل «الأنا». 


72 





أهداف سويف تبني جسورا ... 


إن تغيير الصورة الس لبية لن يتم من دون وعي الذات,. لهذا تحاول 
الكاتبة إقالة الذاث من عثراتها عن طريق معرفة إيجابياتها وسلبياثهاء 
وذلك بممارسنة النقد الذاتي! وبمثل هذه الممارسة تضفي على رسم 
الصورة حيوية؛ كما تمنحها مظهرا إنسانياء تجعل المريي يخطى ويصيب. 
وتتصارع في أعماقه نوازع الخير والشر. 

إذن لم تكتف الكاتبة بتقديم الآخر الغربي بصورة إيجابيةء يسعى إلى 
تطوير ذاته عبر النقد (خاصة نقد ممارساته الاستممارية!). بل قدمت 
لنا الشخصية المصرية؛ وهي تحاول ممارسة النقد الذاتي الذي تجلى 
على لسان المثقف. فنسمعه يقول أمام إيزابيل وصديقتها الراوية أمل: 
«إننا أمة جبانةء يؤسفني أن أقولها خاصة أمام ضيفةء لكننا نعيش على 
الشعارات» نرتاح لها ونطمئن على أنفسنا. الشعب المصري العظيم؛ شعب 
صابر مسالم» ولكن إذا استثير يحطم العالم: قولي لي: متى ثار الشعب 
المصري العظيم في كل تاريخه؟ متى5؟ عندما دافع عنهم عرابي تخلوا عنه, 
وفتحوا الأبواب للإنجليز. ستقول لي ثورة 1919. لكن 1919 لم تكن ثورة. 
كانت عدة مظاهرات لم تغير شيئاء ستقول لي 52: لم تكن 52 ثورة شعب» 
كانت حركة جيش ركبت الشعب» وقالت للناس إنها تتحدث بصوتهم» ليس 
للشعب صوت» (21), 

تقوم الشخصية المصرية بتعرية سوءاتها (الجين؛ الكسل, ترداد 
الشعارات الكبيرة ونسيان الأفعالء لم تقم بثورة حقيقية ...) وهي سوءات 
تخنق الشخصية العربية عامةء وتنخر كينونتها . ' 

تحاول الشخصية باستخدامها ضمير الجماعة «نحن» أن تفضح الذات 
الجمعيةء عبر الممارسة النقديةء كما تفضح الذات الفردية للمثقفء لكونه 
ملاذ الأمة ورائدا لهاء فهو المؤهل لإنارة طريق وعيها والأمل في نهضتهاء 
إذ لن نجد سواه يتحمل هذه المسؤولية في مجتمع تغلب عليه الأميةء ولكن 
هذا المثقف مازال يدور جول ذاتهء يكتب في كثير من الأحيان متوجها إلى 
أمثاله من المثقفين. منعزلا عن نبض الحياة التي يعيشها المتلقي العادي. 

يأتي النقد الموجع» بعد نقاش المثقفين المصريين حول تردي الأوضاع 
السياسية والاقتصاديةء ليضع يده على مكمن العلةء فنسمعه على لسان 


73 





إشكالية الأنا والآخر 


المرأة الغربية (إيزابيل): «يبدو لي أن الناس مشغولون بمحاولة تحليل 
الموقف, ولا أحد يقول: هذا ما يجب علينا عمله» (22, 

قد تكون لغة إيزابيل التي تعيش خارج مشاكلنا أكثر موضوعيةء فهي 
تستطيع أن تنظر بعين محايدة؛ لهذا استطاعت أن تلخص مشكلة المثقف 
العريي بجملة واحدةء فهو يجيد التحليل النظريء ولغة الخطابات وترداد 
الشعارات» والكلمات الرنانة. وينسى العمل الذي يجسد الفكرء ويؤسس 
لنهضة حقيقية! 


صورة مشرقة للمرأة العربية 

حاولت الكاتبة تقديم صورة للمرأة العربية «ليلى» بطريقة غير 
تقليديةء برغم سنين الانحطاط الطويلةء فأبعدتها عن النمط المألوف 
حتى وجدناها تكاد تقف ندا للمرأة الغربية «آنا»» على الرغم من أنها 
كانت تعيش في سياق تاريخي» لا يسمح لها بذلك. أي في بداية تفتح الروح 
الوطنية مع بدايات القرن العشرين. وقد اختارت لها اسما تراثيا (ليلى) 
شديد الإيحاءء إذ تحمل حروفه جرسا مريحا للأذن» فينساب وقعه عميقا 
في الروحء ليوقظ الذاكرة الشعرية والأسطورية. 

إن مشل هذه القفزة المبكرة لم تحققها كل النساء المصرياتء بل تلك 
التي ساعدتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية: إذ إن انتماء ليلى إلى 
الطبقة الغنية المثقفة, ساعد في تطورهاء لهذا لم تكتف بالتعليم التقليدي, 
بل وجدناها تتقن الفرنسية. 

بدت ليلى رائدة للغالبية العظمى من النساءء اللواتي كبلتهن عهود 
الظلام التي رزحت تحت ثقلها مصرء ثم جاء الاستعمارء ليسهم في زيادة 
تردي أوضاع المرأة (على حد قول ليلى) على نقيض ما يدعي» وقد أكدت 
ذلك لنا «أهداف سويف» عبر حوار بطلتها آنا مع اللورد كرومر حيث أتت 
إليه طالبة مساعدة المرأة المصريةء فيتنصل من مسؤوليته مدعيا «أن رجال 
الدين لن يسمحوا أبدا بخروج المرأة من مستواها المتدني...». 

وبذلك تسلط الكاتبة الضوء على مقولة باتت من المسلمات الفكرية 
الغربية عن صورة المرأة العربيةء إذ يعد الإسلام أحد أهم عوامل تخلفهاء 


74 





أهداف سويف تبني جسور! ... 


لذلك تم ربط نهضتها بتجاوزها للعقيدة الإاسلاميةء كأن الكاتبة بصورة 
غير مباشرة تلمح إلى خطأ هذه المقولة عبر شخصية ليلىء: إذ تجسد 
إمكانية اجتماع نهضة المرأة والتمسك بدينهاء وتبرز مسؤولية المستعمر 
عن هذا التشويه لصورة المرأة والإسلام. . 

حاولت الكاتبة أن تبرز رغبة المسلمين في الحفاظ على خصوصيتهم: 
التي تنبع من تمس كهم بتعاليم دينهم»ء لذلك حين يحضر رجل الدين 
«الشيخ حسونة» حفلا غرييا مختلطاء يستغرب عادات الغرييين. فيكتب 
للإمام محمد عبده «من الغريب حقا أن ترقص سيدات عاريات الأذرع, 
وشبه عاريات النحورء مع رجال غرباءء بينما يتفرج أزواجهن بدون ضيق 
وبرضا ظاهرا» (23), . ١‏ 

إن لقاء الآخر يخلق لدى المسلم صدمةء خاصة فيما يتعلق بالمرأة 
والتعامل معهاء إذ يلاحظ أمرين يتناقضان مع معتقده الإسلامي» 
الأول هو عدم حشمة المرأةء والثاني هو رقصها مع رجل غريب عنها . 
ويستغرب موفف زوجها الذي يرضى بذلكء, وقد وجدنا هذا الاستغراب 
نفسه لدى أسامة بن منقذ (1095 - 1188م). لهذا يصف الفرنجة 
بأنهم «ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة» يمشي الرجل منهم هو 
وامرأته فيلقاه آخر يأخذ المرأة. ويعتزل بهاء ويتحدث معهاء والزوج 
واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث؛. فإذا طولت عليه خلاها مع 
المتحدث ومضى» (24), 

إن الاحتكاك اليومي بالآخر يظهر مدى الخلاف في العادات 
الاجتماعيةء ولعل أكثر الأمور إثارة للاس تهجان العلاقة بين المرأة والرجل 
في الغرب. ويبدو أن ذلك الأمر استمر منذ الحروب الصليبية حتى عهد 
الاستعمار في العصر الحديث. إذ لم يؤد مرور الزمن (سبعماثة سنة) إلى 
تغيير النظرة إلى الآخرء مادامت عاداته تخالف العادت الاجتماعية, التي 
غائبا ما تكون مستمدة من الشريعة الإسلامية. 

وهكذا يمكننا القول إن هذا الخلاف في النظرة إلى المرأة قد أسس 
لعلاقة متوترة بين المسلم والآخرء إذ يراه عديم النخوةء في المقابل يرى 
الغربي المسلم متخلفا. 


75 





إشكالية الأنا والأخر 


وكي تسهم الكاتبة في إزالة التوتر الناجم عن سوء التفاهم بيننا وبين 
الآخر تحاول أن تقدم لنا صورة مشرقة للمرأة المسلمةء وقد تجلت هذه 
الرغبة عبر إسقاط صوتها على صوت الشخصية (ليلى) فأدهشنا نضجها 
الفكري. الذي يتجاوزء باعتقادناء المرحلة التاريخية التي تعيشهاء لهذا 
وجدناها تنطق بلغة تتجاوز وعيهاء حتى وصل الأمر بها إلى انتقاد اللورد 
كرومرء وتكشف زيف ادعائه السابقء وتبين أنه «رجل وطني يقوم على 
خدمة بلده... لکن يجب ألا يتظاهر بأنه يخدم مصرء (25). 

نعايش هنا رغبة الكاتبة في الدفاع عن المرأة الممسلمة وحماستها لهاء 
لكن هذا الدفاع لا يبدو لنا فجاء خاصة أنها رسمت صورتها المشرقة 
على لسان المرأة الغربية «آنا» التي أتاح لها انفتاح المجتمع المصري فرصة 
الاستقرار فيهء فاستطاعت الاطلاع على خفاياهء لهذا بدت متفهمة وضع 
المرأة العربية التي «تؤمن بأن واجب المرأة الأول هو نحو أسسرتهاء وتضيف 
أنها تحسن أداء مهمتها إذا أحسن تعليمهاء ومنهن من يكتين ضد حجب 
المرأة في البيت» ويبرزن دور الفلاحة المصرية؛ التي تعمل منذ القدم جنبا 
إلى جنب مع الرجال من أسرتهاء ولم ينتج ذلك أي ضرر للمجتمع... 
استمتعت بالصحبة والأحاديث التي دارت في الزيارة؛ وكل هذا على 
العكس تماما من الفكرة السائدة عن أجواء الحريم» وأنها تتلخص في 
الفراغ والنعاس...» (26). 

ومما يخفف حدة التوتر بيننا وبين الآخر الغربي» في اعتقادناء وجود 
شخصية غربية (آنا) متحمسة لزميلتها العربية. استطاعت أن تبرز خطأ 
النظرة الغريية التي حصرت المرأة العربية في غرف الحريم وقوقعة 
الكسل: فأي اجتماع للنسوة لن يعني» في مخيلة الغربيين» ارتشاف القهوة 
وتضييع الوقت في الثرثرة. بل نلاحظ عبر المشهد السابق (الذي يضم 
مجموعة من النسوة يناقشن أهم القضايا المتعلقة بالمرأة العريية: العملء 
التعليم؛ الحجاب...) وبذلك نظفر بتوثيق لحظة تاريخية على لسان آنا هي 
بداية خروج المرأة من عصر الحريم» ولحظة التوق إلى الحرية. 

بفضل الانفتاح الإنساني الذي تميزت به المرأة الغربية آنا والعربية ليلى 
نشأت صداقة بينهماء تتعمد الكاتبة التي خبرت الحياة في الشرق (مصر) 


76 





أقد اف سويف تبني جسور! ... 


والفرب (إنجلترا) أن تجعل موطنها «مصر» وهنا لا تبدو متعصبة لهويتهاء وإنما 
تكاد تقدم لنا ما أكده كثير من الدارسين الغربيين (الذين ذكرهم (تييري هنتش) 
في كتابه «الشرقّ الخيالي ورؤية الآخرء صورة الشرق في المخيال الغربي») فقد 
بينوا أن التعايش بين الإسلام والمسيحية يشكل جزءا من الإرث العربي (27. 

لهذا تعمدت الكاتبة أن تجعل مصر أرضا تحتضن زواجا ناجحا بين 
عربي وغربية؛ وصداقة نادرة بين عريية وغربية: مما أتاح ل «آنا» معرفة 
حقيقة الحياةء التي تعيشها المرأة العرييةء فبدأت تنزع عن صورة المرأة 
الشرقية حجب الأوهام والأفكار المسبقةء لذلك كانت ليلى على رغم اسمها 
الأسطوريء قد عاشت حياة عادية لا علاقة لها بعالم ألف ليلة وليلة؛ ولا 
علاقة لها بالقهر. الذي عانته الرأة في العصور الوسطىء لهذا لاحظت آنا 
أن قصة زواجها تنتمي إلى «زماننا هذا» أي إلى القيم الإنسانيةء التي تجعل 
حياتها بعيدة عن التهويمات: التي أحاط بها الغرب حياة المرأة المسلمةء فقد 
تزوجت من محام شاب اسمه حسني الغمراوي. وقد لاحظت آنا أمرا يبرز 
تميز المرأة العربية على الغريية. فهي «لا تحمل اسم زوجها.. وليس هذا 
ضروريا في رأي ليلىء إذ قالت ولماذا أتخلى عن اسمي؟...» (28. 

تبرز الكاتبة حقيقة أن المرأة العربية بإمكانها أن تعيش حياة مستقلة: 
يكفي أنها تستطيع أن تحتفظ بكنيتها الأصليةء فلا تلحق بكنية الزوج 
كالمرأة الغربيةء ألا يساعد ذلك على استقلالها المعنوي والمادي؟! مما يعني 
أنها مؤهلة للعيش حرة ومستقلة. خاصة حين يتوافر لها الوعي والعلم! 

تلمح أهداف سويف هناء إلى أن الموروث الغربي اضطهد المرأة, 
فقد «جرى تطبيق ميدأ خضوع المرأة لعصمة الرجل في أشد أشكاله 
تطرفاء على نحو يمس الحقوق الدس تورية للنساءء وذلك بالإنكار الواضح 
لشخصية المرأة (أو أهليتها لتكون شخصا). حتى أن الفلاسفة من أمثال 
أرسطو وروسو لم يجدوا تناقضا بين الحديث عن «البشر» أو«البشرية» 
وإقصاء جميع النساء خارج مجال رؤيتهم...» (29. 

ومازالت ملامح ذلك الاضطهاد واضحة إلى اليوم» حين يتم إلحاقها 
بكنية الزوج. ومازالت تتقاضى راتبا أقل من راتب الرجل في كثير من 
البلدان الغربية. 


77 





إشكائية الأنا والآخر 


نلاحظ هنا تحيز الكاتبة للفضاء الشرقيء الذي تنتمي إليهء لهذا 
جعلته مرتعا للجمال؛ مثلما كان مكانا يرعى علاقات إنسانية مشرقة: 
يلتقي فيها الشرق بالغرب» كالصداقة والزواجء فقد نجح زواج الجدة آنا 
في مصرء في حين أخفق حفيدها عمر في أمريكا في زواجه. 


التسامح الشرقي 

كتبت أهداف سويف روايتها (2003) وأصداء الهجوم الإرهابي على 
مركز التجارة العالمي (في نيويورك 11 سبتمبر 2001) تهز وجدانهاء 
وتؤرقها دماء الأبرياء نتيجة عنف مجنون ردت عليه أمريكا بحروب» فقتلت 
الأبرياء. وشجعت الإرهاب على التمادي. 

لعل من أخطر تداعيات هذا الهجوم تشويه صورة الإسلام في الغرب. 
حيث تستقر الكاتبة؛ وتعايش صدمة هذا التشويه يوميا. 

ولكن على الرغم من ذلك نتساءل: هل هذه الصورة المشوهة 
للاسلام وليدة أحداث التاسع من سبتمبر؟ آم نشأت منذ لحظة 
احتكاك الشرق بالغرب؟ 

يجيبنا عن ذلك تييري هنتش مبينا أن ملامح هذه الصورة بدت ملونة 
بألوان الزيف والهرطقة والشعوذة والدعارةء ثم زادوا عليها اليوم الإرهاب. 
لهذا لجأت الكاتبة إلى فضائها الروائي. لترسم صورة أقرب إلى حقيقة 
المسلمين؛ وقد تعمدت أن تقدمهم في لحظة مواجهة مع الآخر (الإنجليزي). 
كي تتضح معالم الصورة؛ إذ من البديهي أن «الأنا» لن تستطيع التعرف 
على حقيقتها إلا بمواجهة الآخر. 

لذلك جعلت الكاتبة رواية «خارطة حب» ردا فنيا على ادعاءات تشوه 
صورة الذات المسلمةء فسعت من خلالها إلى تقديم صورة أقرب إلى 
الواقعية عن الثقافة المتسامحة مع الآخر. التي تنتمي إليهاء وذلك عبر 
سرد الحياة اليومية للمسلم» فتبرز السياق الاجتماعي الذي تتحرك فيه 
شخصياتها المصرية, التي امتدت في الفضاء الزمني للرواية عبر ثلاثة 
أجيال (الجدة, الأمء الحفيدة) فربطت ماضيهن بحاضرهن عبر وشائج 
القربى» كي تؤكد للمتلقي أن التسامح يجري في عروق هذه الأجيال 


8 





أهداف سويف تبني جسورا ... 


جميعا. لذلك اعتمدت الكاتبة البناء الدائري» حيث تلتقي البداية (الماضي) 
بالنهاية (الحاضر) وقد عززت هذا اللقاء بتناسل الأسماء (شريف) لتعزز 
لدى المتلقي الغربي صورة شرق يرعى تناسل ثقافة الانفتاح والتسامح» 
فيتقبل التزاوج مع الآخر الغربي (شريف وآناء عمر وإيزابيل) الذي هو 
تزاوج بين أسماء عربية (تحمل دلالة أخلاقية كالشرف, أو دلالة إسلامية 
مثل «عمر» وأسماء غربية (آناء إيزابيل) وبذلك تحافظ على هوية (الأنا) 
و(الآخر) معا. 

وكي تؤكد الكاتبة نجاح لقاء المصري بالآخرء تعمدت أن تبعد هذا 
الزواج عن العقم. فقد أنجب جيلا منفتحا على الإنسان» لا يقيد نفسه 
بحدود جغرافية, لأن تشجيع تزاوج الأنا بالآخر يعني تشجيع ثقافة 
التسامح والانفتاح: لذلك حين تسأل إيزابيل عمر: هل تعد نفسك 
مصريا؟ يجيبها ببساطة: «نعم! وأمريكيا وفلس طينياء ليس عندي 
مشكلة هوية!» وبذلك تسعى الكاتبة إلى تأسيس صورة راقية لثقافة 
التسامح.: التي تمزج الإيمان بتفاصيل الحياة اليوميةء وتؤكد تناس لها 
عبر الأجيال. 

يحس المتلقي كأن الكاتبة في فضائها الروائي راغبة في الدفاع عن 
ذاتها أي هويتهاء لذلك حاولت. عبر رسم شخصية منسجمة الأفعال 
والأقوالء أن تبدو غريبة عن الفكر المتعصب. كأنها تريد أن تعلن 
براءتها من الفكر الإرهابي» واللافت أن الكاتبة لم تجعله مقتصرا على 

ويذلك أتاحت لنا فرصة معايشة المسكوت عنه»ء إذ يعيش الفكر المنفتح 
إلى جانب الفكر المتهصب في كل زمان ومكانء لهذا عبرت البطلة الراوية 
(أمل) عن خوفها من تكرار حادثة «اغتيال شريف باشا» التي ارتكبها 
بعض المتعصبين» من دون أن تحدد هويتهم بدفةء إذ إن التعصب لا ينتمي 
إلى هوية واحدة, لهذا ألمحت إلى إمكانية أن يكون القتلة من الأقباط, 
أو المسلمين: أو الإنجليزء كأن الفكر المتعصب لا انتماء له سوى العمى 
الداخليء الذي يورث الحقد والتدمير لكل ما هو جميل! ويفاقم الكراهية 
بين البشرء وقد عايشنا في «خارطة حب» خوف الكاتبة من تتاسل هذا 


79 





إشكالية الأنا والآخر 


العمى, لذلك أسقبطت هذا الخوف على لسان بطلتها الراوية (أمل) التي 
تتخيل أن أخاها (عمر) معرض للاغتيال مثلما حدث لعمه شريف باشا 
في الماضي! 1 

إذا كنا قد أعجبنا بصورة الشرق لدى الكاتبة بصفته ملاذا للتسامح: 
فإننا نأخذ على الكاتبة اكتفاءها بالتلميح إلى الصورة النقيضة «المتعصية», 
فلم تتح لها فرص الحياة كما أتاحتها للصورة الإيجابيةء التي يبدو أنها 
مشغولة بتأكيدها نظرا إلى ما تتعرض له من ظلم وتشويهء وهي حين 
تعتني برس مهاء كأنها تريد نفي الصورة السلبيةء التي تربعت في ذاكرة 
الفرب» بعد أن عززتها أحداث «سبتمبر 2001». لهذا ظفرنا بتفاصيل 
الصورة المتسامحة, التي تجمع البشر في أماكن عبادة واحدة فقد جمع 
خيال الكاتبة الكنيسة بالجامعء ورسمت صورة رائعة للتكافل بينهماء إذ 
يتحمل فيها كل واحد منهما مسؤولية الدفاع عن الآخرء كي تؤكد للمتاقي 
أن روحا واحدة؛ تخفق في قلوب المؤمنين. مهما اختلفت دياناتهم. وقد 
جسدت ذلك عبر فضاء مكاني واحد للعبادة. 

صحيح أن الكاتبة اختارت فضاء زمنيا متوتراء يجسد تاريخ مصرء 
حيث واجهت فيه «الأنا» الآخر المستعمر بسبب عدوانه؛ لكنها اهتمت بلقاء 
الآخر«العاشق» وكيف أثمر زواجا! وقد بدت أهداف سويف معنية بتسليط 
الضوء على هذا اللقاء الناجح؛ لعلها تزيل ما علق في ذهن المتلقي (العربي 
والغربي) من سوء تفاهم» أدى إلى رفض الآخرء فأتاحت له فرصة:؛ أن 
يعيش مع أبطالها ثقافة التسامح؛ التي تعني الرغبة في حماية هذا الآخرء 
لهذا عادت إلى التاريخ (عهد الفتوحات الإسلاميةء وعهد الصليبيين) 
لتبرز مراوحة علاقة المسلمين والمسيحيين يين المودة والعداءء كأنها تريد 
أن تركز في ذهن المتلقي أن الإيمان بالله إيمانا حقيقياء يعزز المودة بين 
المسلم ومن يخالفه الدين: فيصبح عامل توحيد بين الأنا والآخرء لذلك يعد 
نقيضا للحروب. التي تزرع الكراهية المدمرة. 

من هنا لن يستغرب المتلقي أن تتسج مخيلة الكاتبة صورة مدهشة 
لفضاء ديني» يعشش فيه التسامح. فيبتكر اللاوعي الجمعي منذ عهد 
الفتح الإسلامي لمصر مشاهد توحد القلوب برباط الإيمان باللهء فقد 


80 





أهداف سويف تبني جسورا ... 


«تفتق ذهن أحدهم عن بناء مسجد صغير في فناء الكنيسة لحمايتها من 
الحريق أو الهدم» وفي أيام الجروب الصليبيةء قامت الكنيسة بدورها في 
حماية ا مسجد..واستمر هذا الوضع على مر الزمن» كل بيت من بيوت الله 
يشمل بحمايته البيت الآخرء والجيوش المضادة تجيء وتذهب» (60. 

وبذلك أتاح ميراث التسامح لدور العبادة على مر السنين أن تكون 
فضاء مشمولا بالمحبة, تتحدى بتسامحها آلة الدمار والحرب» فأسهمت 
في انتشار فيم نبيلةء ترتقي بأرواح البشرء لتقاوم عالما بشعاء يغذي 
الحروب. ويأكل فيه القوي الضعيف! وبذلك تحاول الكاتبة أن تبين الدور 
الحقيقي للفضاء المقدسء الذي يستطيع أن يحقق نصرا على الصورة 
المشوهة لهذا الفضاءء إذ يراها كثيرون مرتعا للإرهاب» لهذا استخدمت 
فعلا يدل على الثبوت والامتداد (يشمل بيوت الله)» في حين اقترنت أفعال 
عدم الثبوت والآنية بالجيوش (تجيء وتذهب). 

وهكذا اس تطاعت أن تقدم علاقة فريدة بين الإنسان المؤمن وفضائه 
الروحي» حيث بدا كل فضاءء يذكر فيه اسم الله تعالى فضاءً مقدساء 
يتعين عليه حمايتهء وقد وحدت هذه الرغبة المشاعرء مثلما وحدتها 
جماليات تكاد تكون واحدة» جعلتها تزين المسجد والكنيسة: وهذا ما 
أخبرتنا به آناء فقد لاحظت «أن الخشب المطعم بالصدفء ويلاطات 
الخزف على الجدرانء ومصابيح الزيت في أركانهاء والبلاط الحجريء 
والمنبر وزخرفتهء تشبه الكثير مما رأيت في المساجد القديمة. ألا يدفعنا 
هذا إلى الحدس بأنه تعبير عن وحدة الحافز الديني والمبدأ الجمالي في 
الدينيين المسيحي والإسلامي» 31 , 

حاولت الكاتبة بكل ما تملك من أدوات تخييلية ومعلومات تاريخية 
وثقافية, أن تؤكد للمتلقي (خاصة الغربي) روعة التسامح في الشرق 
لاسيما بين المسلمين والمسيحيين. لهذا سلطت الضوء على الجمال 
المنقذ للروح من العنف والكراهية. فجسدت أدواته الفتية, التي تكاد 
تكون واحدة في المسجد والكنيسة:, لكون الروح الإنسانية المبدعة 
واحدةء خاصة حين يملأ قلبها إيمان بالله. فيدفعها للتعبير عنه 


بزخارف فنية واحدة. 


81 





إشكالية الأنا والآخر 


وقد لاحظت المستشرقة «آن ماري شيمل» الملاحظة نفسها في مجال 
آخرء إذ مثلما توحد الفنون التي تزين أماكن العبادة المسلمين والمسيحيين, 
توحدهم التراتيل الدينيةء التي هي تجرية روحية وجماليةء تجعل المستوى 
التعبدي واحدا على الرغم من الاختلاف الديني (2. 

أما الباحث الفرنسي أيضا «تييري هنتش» فيؤكد ما ذهبت إليه أهداف 
سويف ويلفت نظرنا إلى أن التقارب الروحي وجد بين المسيحية الشرفية 
والإسلام؛ فقد كانت بيزنطة أقل تعصبا من المسيحية الغربية وأكثر رحمة 
وإنسانيةء لهذا كانت أكثر قربا في أسلوبها من موقف الجيران المسلمينء 
إذ اتفق مسيحيو الشرق والمسلمون على عدم ممارسة الإكراه في الدين, 
وفي هذا تأكيد أن المسلمين بعيدون عن التعصب الذي ينسبه إليهم الغرب 
في كل زمان ومكان (33, 

إذن استطاعت الكاتبة أن تجعل روايتها رسالة حب تتوجه بها إلى 
المتلقي الغربي والعربي معاء كي تس هم في تعزيز جس ور التفاهم بينهما. 
وقد بدت هذه الرسالة بعيدة عن التجريد» قريبة من الحياة المعيشة؛ 
فالصلاة ممارسة يومية لدى الشرفيء لهذا لن يستغرب المتلقي روعة 
اللقاء الجمالي بين المسجد والكنيسة؛ الذي هو وليد لقاء روحي بين أبناء 
الديانات المختلفة. 

لم يخفٌ المسلم من الآخرء حين كان قوياء انفتح على ثقافتهء واحترم 
خصوصيته» وحمى وجوده» لهذا حين نمعن النظر في مصطلح «أهل الذمة» 
تصلنا دلالاته الإيجابية لا السلبية؛ التي يحاول المفرضون إشاعتهاء إذ إن 
المسلمينء باعتقادي» حملوا أنفسهم مسؤولية حماية الآخر المختلف؛ الذي 
بات في ذمتهم: أي أمانة في أعناقهم: وبذلك لم يشكل التاريخ البعيد في 
«خارطة حب» عائقا يمنع التواصل بين الأنا والآخرء لكن الفكر الاستعماري 
في التاريخ الحديث استطاع أن يفسد روح التسامح؛ الذي شاع في الشرق؛ 
فلم يكتف باحتلال الأرض والثروة» بل حاول احتلال الروح» حين لجأ 
إلى تنصير الشعب المصري» ومثل هذا الاحتلال يعد باعتقادي» أقصى 
التطرف في التعامل مع الآخرء إذ يؤدي إلى إلفاء خصوصيته الدينية, 
ليصبح نسخة كريونية عن المستعمر! الذي يستغل ضعف الشرفيء ليلغي 


82 





أهداف سويف تبني جسورا! ... 


كيانه. وهذا نقيض ما فعله المسلمون أثناء الفتوحات» خاصة أولئك الدعاة 
لا الجباةء إذ رأوا من واجبهم حماية خصوصية الآخرء لاسيما إذا كان 
مؤمنا بالله تعاتى. 

تناولت الكاتبة موضوع إلفاء الأنا وتتصيرها بحذر وموضوعية, 
لهذا جعلت المشهد الحواري حوئه محصورا بلسان الآخر (الإنجليزي) 
وقد أحس المتلقي بحيويتهء لكونه يقدم وجهتي نظر متناقضتين: الأولى 
تتحمس للتنصير (الشاب جيردنر) والثانية تقاومها (آنا ومسز بلانت 
ومسز يوتشر). وقد سألت هذه الأخيرة الشاب المتحمس عن الحكمة 
من تنصير أمة محمد في القاهرةء ولفتت نظره إلى صعوبات. سيعانيها 
إن نجح في مهمته (مشاكل قانونية في الميراثء الاغتراب عن الأسرة 
والأصدقاء...الخ). ثم تبين له أن الممسلم من أهل البلد؛ قد يكون صديقا 
لجاره القبطيء لكنه لا يقبل أن يرتد ابنه أو شقيقه عن دينه! فيرد (مستر 
جيردنر) مدافعا عن وجهة نظره: إن هذه الاعتبارات الدنيوية لا يمكن أن 
تعادل عذاب السيد المسيح. ثم نجده يتعهد مع جمعية المبشرين: بأنهم 
سيعوضون من يدخل في ظلهم, ولن يحتاج إلى غيرهم عندئذ تدخلت 
«ليدي بلانت» وسألته سؤالا مهماء يبرز عقم جهده: لماذا يجد ضرورة في 
جعل المسام يعتنق الدين المسيحيء بما أن المسلم أصلا مؤمن بالله؟ وهل 
يستحق هذا الأمر ما يتعرض له من مشاكل» هو وكل من يعرفه؛ ليعبد 
الرب نفسه. لكن بطريقة مختلفة؟ وهكذا وجد السيد «جيردنر» نفسه 
محصورا بين سيدتين من الكرائم» جرى الحوار بمنطق صارم» إلى درجة 
أن آنا عطفت على الشابء حين لاحظت ارتباكه؛ فقد بدا لها حسّن النية 
لا يقتصد إلا الخير (34, 

ومما يكسب سؤال المرأة أهميةء فضي اعتقادناء أونه يصدر عن متدينة: 
وهيء بالإضافة إلى ذلك: زوجة رجل من رجال الكنيسة. 

وقد اتسم الحوار باللهجة الهادئة المنصفة, وبدا مهموما بدالأنا» على 
الرغم من تغييبهاء فقد سمعنا وجهة نظر «المصري» في التنصير على 
لسان الآخر «الإنجليزي» وعايش نا المشاكلء التي يمكن أن يتعرض لهاء 
إذا انتهكت عقيدته الدينيةء إذ ستنتقل القضية من حالتها الفردية إلى 


83 





إشكالية الأنا والآخر 


سياقها الاجتماعي» حيث يحس المجتمع» بأنسه مهدد في أخص مكونات 
شخصيته» وأهم معالم هويته! لهذا سيعاني الفرد المتنصر النبذ الاجتماعي 
والاقتصادي. والأخطر من ذلك كله أن هذه العملية ستسيء إلى العلاقة 
التاريخية بين المسلمين والمسيحيين: التي اتسمت بالصداقة وحسن الجوار. 

يحمد للكاتبة في هذا المشهد تسامحها مع الآخر المخالف لها في 
الرأيء صحيح أنها عارضت وجهة نظره على لسان المرأة الإنجليزيةء لكنها 
لم تلغ إنسانيته؛ ولم تشوهه؛ على الرغم من رفضها لأفكاره؛ التي تقوم على 
التعصب والإلفاء. لهذا لم يكن رد فعلها انفعائيا حادا! فبدت منفتحة على 
أعماقهء وما يراوده من رغبات ساميةء فهي» على الرغم من اختلافها معه 
في وجهة النظر من التتصيرء لم تتفه: أو تسىٌ فهمه»ء إذ ميزت بين الشخص 
وأفكاره. لهذا أفلحت في إسباغ ملامح إنسانية على صورة الآخر. 

وقد أكسبث هذه الرؤية المتعددة والموضوعية الرواية مصداقية؛ تجعلهاء 
باعتقادناء أكثر تأثيرا في المتلقي العربي والغريي معاء وبذلك يتبين للمتلقي أن 
الكاتبة ابنة حضارة منفتحة على الآخر, حتى لو رغب في إلغاء خصوصيتها 
وما يشكل هويتها! وبذلك أفلحت في رسم ملامحه الإنسانيةء وما يجول في 
أعماقه من مشاعر وأحلام: تبعده عن التشوه وإلغاء إنسانيته. 

وقد اهتمت الكاتبة بتجسيد التسامح الديني عبر مشاهد حياتية, 
خاصة فيما يتعلق بآنا ومحيطها الاجتماعي الجديد, التي بدأت تنتمي 
إليه: فبينت أثر ثقافة الانفتاح الديني في الإنسان: وكيف يربيه على 
السمو الروحيء مما يمهد السبيل أمام علاقات اجتماعية مدهشة؛ تتسم 
بالانفتاح على الآخر حتى في تفاصيل الحياة اليومية. لهذا حين تختلط 
إيزابيل الأمريكية بالفلاحات» تفاجأ بأنهن لسن كالغربيات. لا يتحصن 
بالتحفظ أمامهاء وهي الغريبة عنهنء فيتحدثن عن حياتهن الحميمة 
أمامهاء إت يرينها واحدة منهن: فتردد إحدى الفلاحات: «ما غريب إلا 
الشيطان, كلنا أهل». 

وبذلك يساند الانفتاح الديني التناص الشعبي «ما غريب إلا الشيطان» 
الذي يبدو عامل توحيد بين البشر (كلنا أهل)ء كآنه يريطهم برابطة الد 
ليجمعهم في بنية فكرية متقاربة وحالة وجدانية واحدة:؛ وبذلك يربى 


84 





أهداف سويف تبني جسورا... 


الإنسان العربي على أمثال شعبية تفترض الخير في البشر أيا كانوا؛ لهذا 
يحفزهم على أن يش ملوا الجميم باس يب لأن الف ر حالة استثنائية: لا 
يجسده بالمطلق وى الشيطان؛ لهذا يرونه غريبا عنهم: فلا يقبلونه بينهم. 

قد يبدو هذا الموقف رومانسيا أقرب إلى السذاجة: لكن الكاتبةء بفضل 
اللغة الشعبيةء تنطلق من الفطرة الإنسانية: التي لم تشوهها المدن الزائفة. 
والهويات القاتلة. لذلك يتتاسب مع حياة المرأة الريفية البسيطة. 

وقد أفلحت الكاتبة في رسم صورة للسذاجة الريفية في التعامل مع 
الآخرء حين جعلت الفلاحات من إيزابيل الأمريكية ناطقة باسم معاناتهن, 
فيحملنها رسالة: يطلبن فيها من حكومتها أن تخفف الضغط على مصرء 
لكن هذه السذاجة؛ سرعان ما زول حين يتعلق الأمر بالوطن؛ إذ يتوصلن 
إلى حكم صائب» يرى أن سبب الغلاء الذي عم البلاد هو القروضء التي 
أدت إلى تأزم الوضع الافتصادي» ولم تساعد على انفراجه. لعانا هنا 
نسمع صوت الكاتبة وقد أسقطته على شخصياتها البسيطة. 

وهكذا حملت الروائية بدءا من العنوان «خارطة حب» رسالة الانفتاح 
على الآخرء لمقاومة الكراهية والفكر الإرهابيء فأخذت بيد المتلقي تدله 
إلى طريق الحب وتعلمه لغته؛ وقد لاحظنا إصرارها على رسم معالم 
هذه اللغة في فضاء روايتهاء فعاي نا حوارا مدهشاء بين الشرق والغرب» 
تسج بخيوط الانفتاح حين يسود الحبء والاحترام حين يسود الاختلاف 
في الرأيء لهذا لم نجد آنا تعاني ذاك العداءء الذي قتل المرأة الغربية 
في عملية ختان وحشية؛ أجرتها القرويات ل سيمون بطلة رواية سليمان 
فياض «أصوات» في حين دلت الخارطةء التي وضعتها أهداف سويف 
بين يدي المتلقي؛ على روعة العلاقات الإنسانية بين الأنا والآخرء خاصة 
حين يعشش فيها الحب» فيصبح الإنسان أكثر رهافة وعطاء؛ ليستطيع أن 
يبعد نقسه عن شبح الأحكام المطلقةء التي تسيء إلى الآخرء وتنزه الذات. 
وبذلك يكون الحكم على الناس «بشخوصهم» وليس كنماذج لحضارة أو 
عرق» وهذا لن يكون إلا باعتماد خارطة تؤسس لعلاقة حميمية مع الآخر, 
ومثل هذه العلاقة لن تكون إلا بالمعايشة اليوميةء التي تغتني بالحوار بين 
الأنا والآخرء الذي يعتمد احترام وجهة النظر المخالفة. 


85 





إشكائية الأنا والآخر 


يسجل للكاتبة أنها عمدت إلى جعل العلاقة مع الغرب علاقة شرعيةء 
فأنشأت في بلدها (مصر) زواجا ناجحا بين الشرق والغرب! لتؤكد أن 
المصري ابن تاريخ عريق: أنجب حضارة مدهشة بفضل استيعاب الآخر 
والحوار معه. وقد تجلت رغبتها في جعل هذا التاريخ جزءا من الحاضر 
والمستقبلء حين أكدت على تواصل الأجيال في روايتهاء لهذا لمحناء أحياناء 
تكرارا لبعض الحوادث والأسماء. 

وهكذا بدت ثنا أهداف سويف مصرة على تجسيد أعماق الأنا عبر 
أجيال فرقها الزمان والمكانء لكن جمعتها الحضارة العريقةء وقد جسدت 
ذلك عبر رمز فني في الخاتمة؛ التي ضمت ثلاث قطع من النسيج: التي 
نسجتها آنا ورسمت فيها أهم محطات حضارية» عاشتها مصرء فحرصت 
كل الأجيال على الاحتفاظ بهذا الرمزء على الرغم من شتاتها. 

وبذلك يلاحظ المتلقي في رواية ”خارطة حب“ أن العلاقة مع الآخر 
لم تتخذ طابعا مأساوياء فلم تعل حدة المواجهة الحضاريةء حيث يبدو 
الآخر المستعمر منتصرا قوياء وتبدو الأنا مهزومة أمامه» تابعة له لهذا 
بدا الفضاء السردي لدخارطة حب» نقيضا لما يراه د. أنطوان سيف 
في المثاقفة التي؛ «لم تقم إلا من طرف واحد (طرغنا). اتخذت شكل 
تلقن قاصر وناقص ومصاب بترهل مزمنء إزاء منجم ضخم من المعارف 
النظرية والتقنية. تأسست عند الغربيين على مدى قرون» (35. 

لقد أتاحت لنا هذه الرواية معايشة الأنا المعتزة بحضارتها والواثقة 
بنفسهاء لهذا استطاعت أن تنفتح على الآخرء مثلما استطاعت أن تؤثر 
فيهء فتنال حبه وإعجابه! من دون أن يعني ذلك أن الرواية أغفلت الآخر 
بصورته المتعددةء إذ عايش المتلقي الآخر المحب (آنا)؛ وقد أصبح جزءا 
من حضارتهء في حين بدا الآخر المستعلي (الاستعمار) عدوا له يسعى 
إلى تدميره. 





86 





«إن الممساحة الكبرى في 
الفضاء السردى قد منحتها 
الكاتبة لصوت الأنا النسويةء 
إذ أفسحت المجال لتفاصيل 
معاناتها فبدت تعيش في 
عالمين متناقضين» ١‏ 


المؤلفة 


«الأناء الأفريقية والآخر 
في رواية ٫حجول‏ 
من شوك للروائية 
شل ج » + ٠‏ 

نعترف في البداية بأننا مازلنا 
مقصرين في دراسة الأدب السوداني» 
ترى هل تكمن العلة في المثقف العربي 
المأخوذ بالأسماء الكبيرة والدول العربية 
التي عاشها السودان؟ فقد عانى منك 
استتقلاتله ظروفاً سياسية وحروياً 
استهلكت موارده ومزقت أرضه: لهذا 
كانت الثقافة أولى ضحاياه. مما أدى 
إلى إهمال المثقفين السودانيين على 
الرغم من أهميتهم» حتى إن هناك 
كثيرا من الروائيين لم تسلط أضواء 


87 





إشكالية الأذا والآخر 


النقد عليهم. فمثلا الروائية بثينة خضر مكي التي أبدعت في مجال 
القصةء نجد لديها أريع مجموعات «النخلة والمفني» (1993) و«أشباح 
المدن» (1994) و«أطياف الحزن» (1996) و«أهزوجة المكان» (2001), 
وكتبت عدة روايات منها: «أغنية النار» (1998) ودصهيل النهر» 
(2000) و«حجول من شوك» (2004)... ووجدنا لديها نصوصا أدبية 
مثل «غطاء الصمت» (1996) ودراسة في «تأصيل التراث في التربية 
والتعليم» (2004)... إلخ. 


الأناء وجمالية العتوان 

يلاحظ المتلقي أن الروائية بثينة خضر مكي تتعمّد في روايتها 
«حجول من شوك» إدخائنا عالم السودان منذ الرسالة الأولى لروايتهاء 
التي تكمن فِي عنوانهاء فقد اتسعت دلالته لتجمع الجمال والقبح 
فالحجول (جمع حجلة) التي تعني «الخلخال أو الفرس» أو طائرا في 
حجم الحمامة, أو لعبة للصبيان» !1) فتجتمع فيه الدلالة الإيجابية إلى 
جانب الدلالة السلبية (الشوك) لتلخص لنا حال «الأنا» السودانية: فقد 
تحولت أفراحها اليوم إلى أشواكء وقد تبدى الغنى الدلالي بفضل صيغة 
الجمع ومجيء مفردتين رئيسيتين في العنوان في صيغة النكرة: فتنطلق 
الدلالات التي توحي بالجمال والفرح والعزة عبر مفردة «حجول» مثلما 
تنطلق دلالات الألم وصعاب الحياة عبر مفردة «شوك» لتساوي الكاتبة 
بين دلالة الجمال ودلالة القبح في الرواية. 


«الأناء وقلق الاتتماء 

ييدو للمتلقي صوت البطلة «نصرة» مجسدا لأعماق الإنسان 
السوداني؛ الذي يعاني قلق الانتماء إلى بلده. الذي يراه تارة ذا وجه 
عربي وتارة ذا وجه أفريقي. وقد تشكلت ملامح هذه الأزمة منذ 
العنوان, حين جمع النقيضين «الفرح والألسم» وتتضح هذه الأزمة أكثر 
حين نتأمل السياق اللغوي الذي ورد فيه هذا العنوان. فيبدو مفعما 
بالقلق «كانت تعتز بسودانيتها وأصلها الهجين؛ ولماذا تتشبث بنسبها 


88 





«الأنا الأفريقية والآشر. .. 
العربي؟ وتتلهف عليه مس قطة جذورها الأفريقية إذا كان هذا النسب 
مشكوكا فيه لا يعطيها في المقابل مسوى حجول من شوك تقيد نقاء 
شخصيتها وعذرية انطلاقهاء (2). 

تعاني البطلة نصرة قلق الانتماءء لأنها لم تستطغ حسم أمر انتمائها 
إلى السودان العزيي أم الأفريقي» فهي تعتز بسودانيتها ويأصلها 
الهجين: الذي يجتمع فيه العنصر العربي والعنصر الأفريقي» مما يعني 
أن ما يشكل «أنا» البطلة هو امتزاج هذين العنصرين معاء لذلك لم 
تحس بالقلق تجاههماء إلا بعد أن ابتعدت عن وطنها. لكن ما يعزز 
هذا القلق لدى المتلقي هو اس تخدام البطلة نصرة صيغة تساؤل «لاذا 
تتشبث بنسبها العربي5» مما يوحي بأن سبب قلقها هو نسيانها الشق 
الأفريقي من انتمائهاء لذلك تنتقد تشبثا يسيء إلى حقيقة هويتهاء 
وبذلك أقصحت عن شك بدأ ينتابها حول نقاء انتمائها للعروبة. 

تتعمّد الكاتبة أن تحيط هذا الشك بصيغة توحي بعدم اليقينية 
والقلق: لذلك تلجأ إلى صيغة التساؤلء ويلاحظ المتلقي أن ثمة تقريعا 
ذاتيا لإهمالها الجانب الأفريقي من هويتهاء خاصة أنها تعيش تجرية 
قاسية آثاء غربتها عن وطنهاء فالسياق الاجتماعي الذي ينفي الآخر 
ويستعلي عليه؛ يدفع الشخصية لأن تلوذ بانتماءات كامنة في أعماقهاء 
فقد أحست الشخصية برفض المحيط الاجتماعي لهاء على الرغم 
من أنها كانت تشعر بانتمائها إليهء مما أصابها بالصدمةء ودفعها إلى 
البحث عن انتماء لمكونات مختبئة في أعماقهاء تعزز ثقتها بنفسنهاء 
وتشعرها بالأمان» مما يخمّف وطأة الغرية على روحها. 

لهذا فإن قلق الانتماء يعدّ دليلا على عدم الرضا عن الذات» مثلما 
يعد دليلا على الإحساس بالقهر وخيبة الأمل لذلك تحس البطلة بأن 
العيش في الغربة يؤدي إلى كبت أحد عناصر هوية الشخصية السودانية 
(المكونات الأفريقية) التي تراها نصرة أكثر صلة بالفطرة والنقاءء فهي 
أحد المفاتيح التي تمنح الجمال والخصوصية لشخصيتها. 

وقد يلمح المتلقي هذا القلق منذ الافتتاحيةء أي قبل رحيل البطلة إلى 
الغرية من أجل العملء إذ تبدى عبر تصوير بؤس الفضاء المكاني» فقد 


89 





إشكائية الأنا والآخر 


تعمّدت الكاتبة تسليط الضوء على الصحراء السودانيةء لتعزّز حضور 
الشوك في الذاتء فسائق القطار نظر «في سأم إلى السلاسل الجبلية 
وكتل الصخور الضخمة, وقد تراص بعضها فوق بعضء. بينما القيظ 
يرس مم دوائر سرابية تتراقص حولهاء وكأنها سحابات دخان شفافة, لا 
شيء يوحي بالحياة في المكان سوى شجيرات كالحة. منظرها البائس 
يحمل الحزن والاكتئاب إلى النفس» (2. 

نلاحظ في البداية أن الكاتبةء التي أسقطت صوتها على الراوي. 
تحاول تحديد سمات المكان بحيادية (سلاسل جبلية صخور ضخمة) 
لكنها لن تستطيع الاستمرار فيه اء؛ فنجدها تضفي مشاعر «الأنا» 
الداخلية عليهء عبر استخدام صفة ذات دلالة سابية «كالحة» تلحق 
بلفظة «شجيرات» التي توحي بالفقر والجفافء فتبعد أي إيحاء بالأمل 
قد تحمله هذه المفردة. خاصة أنها أتت بصيغة «التصغير» التي توحي 
بحقارتها وبشاعتها. 

لم تكتف الراوية بهذا الوصفء بل عمدت إلى زيادة بؤس المشهد 
الصحراوي» حين حاصرته بالقيظ؛ الذي يقضي على معالم الحياة في 
الصحراءء ويحيلها إلى وهم يلتهم الخضرة: لذلك لن نرى شيئًا من 
معالمها سوى السراب والدخان والأشواك» مما يوحي بالحزن والاكتئاب 
مما يعزز صورة الصحراء السلبيةء التي هي قرينة القهر والتهديد 
بالموت والتصحر. 

بات الفضاء المكاني بكل بؤسه مرآة تعكس أعماق الإنسان السودانيء 
الذي كان محاصرا في عربة القطار من الدرجة الرابعة. حيث انتزعت 
آدميته منهء ووصل عجزه إلى درجة مؤسية؛ حتى إن رذاذ البصاق 
يتطاير علیه» فيتقبله. من دون أن يكلف نفسه عتاء مسحه. 

لعل تجسيد مثل هذا القهر والعجز يوقظ في نفس المتلقي إحساس 
الرفضء فيحرضه على التمردء ليتخلص من حياة لا تليق بآدميته. 

لم تكن الصفات السلبية التي أحاطت بالفضاء السوداني في 
الافتتاحية فقطء بل نجدها فضي المتن الروائي أيضاء إذ نسمع البطلة 
(نصرة) تردد: «أية فضاءات جهنمية» تخنق حياتهاء بل نجدها تمعن في 


50 





«الأنضا» اكأفريقية والآشر... 


إبراز قهرهاء فتلحق صفات منفرة بهء ترتبط عادة بالبشرء فهي تعيش 
في «هذا البلد الغبي التعس» لتوحي عبر هذا التشخيص بمسؤولية 
الإنسان عن بشاعة الفضاء الذي يعيش فيهء حين لا يستخدم عقله: 
ويتعايش مع تعاسته؛ ويركن إلى كسله»ء وبذلك تُبرئٌ الكاتبة الطبيعة, 
فلا تحمّلها أي مسؤولية عن فساد الأمكنةء وإنما المسؤول هو الإنسان, 
الذي يفجّر في بلاده صراعات داخلية «ما إن تتسد فوهة حتى تتفجر 
أخرى أشد لهيبا وقسوة» 4 

لهذا يحتاج الوطن إلى من يرعاهء ويحمل مسؤولية نهضته» إذ من 
واجب المثقف أن يقف إلى جانبهء وهذا ما أكدته بثينة خضر مكي في 
«حجول من شوك» حيث يتماهى صوت الكاتبة التي عملت في الإمارات 
العريية المتحدة مع صوت بطلتها نصرة التي د تعيش مع زوجها في 
السعودية لذلك تذكر رأي أحد أدباء العرب الذي ي يستغرب عودتها إلى 
الاستقرار في وطنهاء أي في فضاء غير مناسب للإبداع: «ظننت أنك 
ستستقرين بعد رحيلك من هنا في لندن أو القاهرةء وليس في السودانء 
ما نسمعه في وكالات الأنباء عن أحوال السودان يجعله أبعد ما يكون عن 
تفكير أي مبدع يبحث عن استقرار ذهني يساعد في العطاء الإبداعي... 
فتجيبه: ألم تسمع قول الشاعر العراقي عبد اللطيف الراشد: 

هذي بلادي لي بها نخلة/ وقطرة في السحاب/ وقبر يحتويني/ هي 
عندي أجمل من مدن الضباب/ من مدن لا تعرفتي/ أجوب الشوارع 
فيها وحيدا» (5), 

يتمامى صوت «أناء المؤلفة بصوت «أنا» البطلة في هذا التناص 
الشعريء الذي تواجه عبره الانهزاميين» الذين يستغريون تشيث المؤلفة/ 
البطلة بفكرة الاستقرار في وطنها المتخلف. وينصحونها بالاستقرار في 
الغرب» فتردٌ عليهم بلسان (نصرة) معلنة انتماءها إلى أرض عايشت 
جمالها وبؤسهاء مما يذكر المتلقي بقول الشاعر القديم: «بلادي وإن 
جارت علي عزيزة». 

يعايش المتلقي صوت «أناء البطلة المثقفةء هناء قوي النبرةء يل 
على مسؤولية المثقف في مواجهة التخلف. وإهمال دوره في التنوير 


91 





إشكائية الأنا والآخر 


الثقافي» وبذلك تعلن عن التزامها بهموم الوطن. وتفصح عن معاناتها 
من المقولات الجاهزة التي شاعت بين الناس» والتي تذعي أن الإبداع لا 
يكون إلا بعيدا عن هذه الهموم» لذلك نسمع صوت «آنا» الكاتبة المتماهي 
مع «أنا» البطلة وهو يعرّي أولئك المثقفين المهزومينء ويفضح منطقهم 
الأنانيء إذ إن معنى الحياة لا يكون إلا في مواجهة تحديات التخلف 
والفقر الذي يعانيه السودانء لذلك عزز هذا التماهي مع صوت بطلتها 
(نصرة) حضور التناص الشعريء لتحفز إحساس المسؤولية والانتماء 
تجاه الوطن لدى المتلقي. 

وهكذا تعيد الكاتبة المتماهية مع بطلتها الاعتبار لفضاء الوطنء حين 
قررت العودة. فنجدها على نقيض رؤيتها لحظة مغادرتهء إذ بدأت تنظر 
إليه بعين الحب» فتستشفٌ ما فيه من جمال يستحق أن يُرى أو يُعاش, 
كما تقدّمه بعين موضوعية: تتقد ذاتهاء فترى أن البؤس الذي يشوه 
ملامح الوطن» يتحمل بعض مسؤوليته الإنسان المثقف الذي يهمل دوره 
في المشاركة في التغيير والتهضة:؛ ومثل هذه المشاركة تمنح الانتماء 
للوطن معناه. مثلما تمنح الحياة معناهاء لذلك يسري الدفء في أوصال 
الإنسان: الذي يفكر في وطنه ونفسه معا. 

وقد أبرزت الأوصاف السلبيةء التي تجلى عبرها الفضاء المكانيء 
معاناة داخلية وقلقاء ينص حياة البطلةء ولعل مثل هذه الأوصاف توقظ 
روح المتلقي» وتحفزه على تجاوز بؤسه» ليخلق وطنا جديدا لا ينتمي إلى 
الصحراء بكل ما ثوحيه من قحط وبؤسء بل إلى النيل بكل ما يوحيه 
من خصب وأملء لهذا لن تجد البطلة (نصرة) خلاصا من رائحة الموت 
التي تملأ أعماقها إلا «في جمال النيل وعنفوانه» (. 

وهكذا أدى قلق الانتماء إلى قلق في رؤية فضاء الوطنء الذي ينوس 
بين القبح والجمالء حتى بدا إدراك التقابل (بين الصحراء بكل أشواكها 
وإحباطاتها والنيل بكل ما يحمله من وعد وفرح) أحد عوامل تشكل 
وعي الشخصية بذاتها وقدراتهاء فاس تطاعت تلمّس دلالات الجمال 
والعنفوان والأملء مما منحها قدرة على التجدد والاغتسال من كل 
العوائق الرمادية التي توحل النفس» وبذلك استطاعت مياه النيل أن 


92 





«الأضل الأفريقية والآخر. .. 


تمنح السودان القوة المادية والعتفوان ليواجه ضعفه: أما جماله فقد 
منح أهله قوة داخليةء تدفعهم إلى العمل والتطور. 


خصوصية الصوت النسوي 

تعاني الكاتبة السودانيةء كأختها في البلاد العربيةء من تضخم 
صوت «الأنا» في السرد الروائي. لذلك يطغفى صوت المرأة (نصرة) على 
صوت الرجل (محجوب)ء على الرغم من أن الافتتاحية كانت بصوتهء 
بل حاولت في البداية أن تجعل بناء الفصول الخمسة الأولى موضوعياء 
يتناوب فيها صوت الرجل والمرآة. لكننا نفاجا بتخصيصها الفصول 
المتبقية (من6 إلى 16) لصوت المرأة» غير أنها تتعمّد أن تجعل الخاتمة 
(التي تحمل رقم 17) يصوت الرجلء ريما لتبرز معاناته (الفقرء تغرقه 
الديون بسيب المسؤوليات التي تلقيها العادات القبلية على كاهلهء فهو 
مسؤول عن أسرته وأهله وأفراد عشيرته لكونه يسكن المدينة. حيث 
يأتي الجميع لزيارتها). 

إن المساحة الكبرى في الفضاء السردي قد منحتها الكاتبة لصوت 
«الأنا» النسوية:؛ إذ أفسحت المجال لتفاصيل معاناتهاء فيدت تعيش 
في عالمين متناقضين. عالم البطولة الاستثنائية. حيث تتماهى البطلة 
(نصرة) مع شخصية برزت في التاريخ السودانيء إذ منحتها اسيم 
الأميرة (نصرة بنت عدلان) التي جعلت من «سنار» مملكة عظيمة: 
لذلك يبدو سؤال الهوية على صلة وثيقة بمنجزات تاريخية, لهذا بدا 
تماهي الذات مع مرجعيتها التاريخية ضرورة تعزز ثقة الشخصية 
بذاتهاء وقد لمسنا أهمية هذا التماهي ليس في الاسم فقطء بل في 
مشاركة البطلة التاريخية طموحها لأن تكون امرأة غير عادية تتجاوز 
المألوف. كي تس تطيع تحقيق ذاتهاء كما جققتها تلك الأميرةء لكنها 
تصطدم بجملة من المحرمات والتقاليد التي تحاصر طموحهاء فالأب 
يريدها أن تحنّط جمالها في زواج غير متكافئء فيختار لها قرييا لا 
ميزة له سوى المال؛ أما الأم التي بدا لنا حضورها طاغيا ومؤثراء فقد 
سيطرت على حاضرها ومستقبلهاء لهذا مارست هيمتتها عليها في 


93 





إشكالية الأنا والآخر 


حياتها وموتهاء ومنعتها من تحقيق أحد أحلام حياتهاء وحين أوصتها 
وهي على فراش الموت بعدم الزواج من الرجل الوحيد الذي أحبتهء لأنه 
شيوعي لا أمان له في رأيهاء وقد دمّرت هذه الوصية حياتهاء لذلك 
تعيش منفصة بقية حياتهاء بعد أن رفضت الزواج ممن أحبت (مهدي). 

يبدو تعلق البطلة بأمها مرضياء إذ تصيح الحياة بعدها خواءء فقد 
تحولت الهيمنة الأمومية إلى ما يشبه الملاذ الذي يقيد حياتهاء فلا 
تستطيع الفرار منه. لهذا زاد قلق «الأنا» حتى بدت البطلة متأرجحة 
بين الصورة الاستثنائية للمرأة (الأميرة نصرة)؛ والصورة التقليدية 
(الأم حارسة للقيم التقليدية التي ترفض مشاركة المرأة في الحياة 
العامة) فتسهم في قهر عواطفهاء من أجل قيم مجتمع متخلف. علبها 
في قوالب جاهزة منذ مئات السنين: لهذا بدت دلالات اسم «نصرة» 
والسيرة الاستثائية للأميرة؛ التي حملت هذا الاسمء نقيضا لرغبات 
الأم التقليديةء وتجسيدا لأحلام ابنتها وطموحاتها. 

لكن «الأنا» تتقزم: فتقتصر طموحات (نصرة) بعد استشهاد 
«مهدي» على الزواج» ويذلك تطفى الواقعية على الأحلام الكبيرة. 
لذلك تتورط في الزواج من «مرغني» كي تستطيع الحياة بعيدا عن 
هول الوحدةء لكن مشكلتها تكمن في أنها لم تستطع بعد هذا الزواج 
الخلاص من هذه الأحلام والطموحات. لهذا كانت تهرب متها وتختبئ 
في نسق اجتماعي تقليدي» هو قالب «الزوجة التقليدية» التي يكون 
أقصى همها أن تعنى بتنظيف البيت وتهيئة الطعام وتربية الأولاد, 
لعلها تريح عقلها الشقي. 

تسلط الكاتبة الضوء على نسق فكري مهيمن في مجتمع تقليدي. 
يرى المرأة من طبيعة «طينيةء لزجة... يشكلها (الرجل) كما يريدء إنها 
أشبه بلعبة أو شيءء لا علاقة لها بالإرادة أو الفعلء فهي مثل إزار 
جديدة يفرحون بها ويتلهون ثم يخلعونها حسب أمزجتهم: وليس لها 
دور في فمل الحياة وقولبة العواطف. بل هي دائما مفعول بهء تتحدد 
إقامتها في مساحة ضيقة مفروضة عليها... ممنوع جدا أن تكون 
فاعلا فيها» (7), 


94 





«الأنا» الأفريقية والآفر... 

تنتزع التقاليد العتيقة إنسانية المرأة. فتمسخ «أناهاء وتلغي 
إنسانيتهاء لذلك تضيع إرادتها الحرةء أي قدرتها على الفعل. وتسلمها 
إلى الرجل بصفتها شيئا لا إنساناء وقد وجدت الكاتبة في اللغة العربية 
وقواعدها الأصلية معادلا فنيا يش حص علاقة المرأة المفعول به (وهو 
فضلة في النحو) بالرجل الفاعل (وهو عامل أساسي فيه). 

نلمس في الرواية حساسية المرأة التي تقاوم التشيؤ فتبدو مرهفةء 
ترى التصرفات» وتسمع الأقوال عبر إحساسهاء لهذا تتغلغل الكاتبة إلى 
خصوصية آلامهاء فتبرز معاناتهاء حتى إنها تفقد لغة الرجل الرقة, 
خاصة حين يضعها في خانة «المرأة الأنثى» التي تلبي شهواته؛ ويعزلها 
عن المشاعر المرهفة واللغة الحساسة:, التي تجعل العلاقة أكثر إنسانية, 
فقد لاحظت «نصرة» أن «مفرداتهم العاطفية صحراوية الملمس 
والمذاق». ولعل السبب في ذلك حالة الجمسود والتخلف التي تحاصر 
العقول؛ وتجعلها أسيرة نسق اجتماعي تقليدي؛ ينتزع إنسانيتها ويحيلها 
إلى ما يشيه الآلة. 

أمام ذلك كله نجد المرأة تعيش علاقة متوترة مع الآخر (الرجل) 
وقد غزتها «أخيلة الجنون» حين أحست بأنها محاصرة بقيود اجتماعية 
موروثة عن الأسلاف, تعلي من شأن الرجل» وتشكل وعيه وشخصيته: 
وفي الوقت نفسه تحاصرها مع الرجل قيود سياسية تؤسس للصراع 
بين السودانيين أنفسهم» مما يسهم في تدمير الوطن. 

تتميز رواية بثينة خضر مكي بقدرتها على الفوص في «الأنا» 
النسويةء مما يتيح الفرصة لمعايشة إحساسها بالقهر «تحدق في 
حماة روحها تفتش عن نشارات الذهب الوضيئة في أعماق نفسهاء 
لكنها تشكلت خيوطاء داخل كتلة حجرية صلدةء رزحت فوق عشب 
مساحاتها الداخلية... فاصفرٌ الإحساس بداخلها وانزوت العاطفة, 
وتمدد طحلب...» (28, 

شكلت الخيبة والإحباط ملامح «أنا» البطلة «نصرة»» لهذا لن 
نستغرب طفيان لغة المعاناةء فقد شكل القهر وعيا خائبا كبّلهاء وانتزع 
منها ألق الحياةء فضاعت منها لحظات الفرح» التي بدت معادلة 


95 





إشكائية الأنا والآخر 


ل«نثارات الذهب» التي تمنح الأمل والقوة. فالقهر سجن هذه النثارات 
الذهبية في كهف أعماقها المظلمةء حتى عشش الجفاف في «حجارته 
ونمث بدلا منها الطفيليات التي تلتهم الفرح» وتخنق بذور الخضرة في 
داخلهاء حتى هيمنت على وجودها أفعال لا علاقة لها بالحياة (اصمر, 
انزوى...) فهيمنت لغة الموت الذي «تمدّد» حتى أصبح لغتها الوحيدة. 

كما لمسسنا لغة تصويريةء تنتقم لدالأنا» فتسقط صفاتها السلبية 
على الرجل؛ إذ تنتزع الراوية من الزوج المرتقب للبطلة صفات الرجولةء 
لتصفه بصفات الأنوثة المترهلة المكتنزة: لهذا «يشبه جسم امرأة هذها 
الحمل في ولادات متقارية». 

ولكن يؤخن على الكاتية هيمنة صوت «الأنا» النسوية. فلم تتغلغل 
إلى أعماق الرجل» ولم تفسح له المجال: كما أفس حت لأعماق المرأة. 
من ضغط العادات الاجتماعية كالمرأة. ولكن بدت معاناته أقل حرقة 
إد لم نجد لغة الوجع والقهرء التي لمحناها لدى المرأة» وإن كنا قد لمسنا 
هذه المعاناة متجسدة عبر لغة ساخرة: تبعث البسمة وتخلق جوا من 
المرح. مما يخفف من ثقلهاء فمثلا حين سكن العزاب بيت القابلة «أم 
کلثوم» نجدها تشترط شروطا تتناسب والسياقين الاجتماعي والديني: 
لهذا «اشترطت عليهم عدم إزعاج الجيران أو استجلاب الشبهات 
المحرمة سواء كانت هذه الشيهات لابسة هدوم أو معبأة في زجاجة» (9), 

كما نلاحظ أحيانا أن خصوصية صوت «الأنا» قد تضيع في زحمة 
الافتعال والمبالغة, فتسمع مثلا «نصرة» تقول: «طوقها بحبال صوته ... 
جسدها ساخن مثل وقيد النار تحت قدر تغلي فيه سبعة أنواع من 
حيوب الغلة...». 

لعل هذه المبالفة تفصح عن خلل العلاقة بين المرأة والرجل: حتى 
تفتقد التعبير المتوازن عنهاء وتجنح إلى تخييل يرهق كاهل المتلقي 
لشدة افتعاله. 


96 





«الأنا» الأفريقية والآشر... 


الآ خرالعريي في «حجول من شوك» 

إذا كنا قد عايشنا لدى الروائي السوداني « الطيب صالح أزمة الأنا 
في مواجهة الآخر الغربي في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» 
فإننا.نعايش لدى الروائية السودانية بثينة خضر مكي في «حجول 
من شوك» أزمة الأنا «الأفريقية» مع«الآخر» العربيء الذي يبدو قد 
خذل السوداني سواء حين رحل إليه للعمل في بلاد النقطء أم حين 
تركه وحيدا مع بؤس التخلف في بلاده» طلم يقف إلى جانبه في عملية 
التحديثء لهذا تعلو النبرة النقدية للجانب الأفريقي من صوت البظلة 
«نصرة» .ليبيّن أن العروبة أشبه بجعجعة صوتية, لا عمل لهاء فيشك 
بقدرتها على الصمودء لما تحمله من موروث حربيء إذ إن تاريخ العرب 
تاريخ حروب تشتعل من أجل الثروة والنساءء وبذلك دفعها إحساس 
القهر إلى أن تبالغ في رؤية الآخر «العربي» عبر منظار سلبي؛ حتى 
بات اسم العرب مرادفا للموت وللكراهية, لتبين أن «قصة الحب 
اليتيمة في تاريخ السودان ريما كان الحوار العاطفي فيها لا يحتمل 
كلمة عربية واحدة..» (10). 

تسقط «الأنا» الأفريقية: هناء أفعال بعض الساسة العرب على 
الشعب. مما يعزز الصورة السلبية المظلمة للآخر العربي» فقد قدم 
هؤلاء. حين أرادوا مساعدة إخوتهم السودانيينء كل ما يزيد أوار الحرب 
الأهلية اشتعالاء لهذا رأت البطلة افتقاد قاموس العروية لغة الحب 
بسبب طفيان لغة الحربء في حين اختص بها القاموس الأفريقي! 
لكن يسمجل للكاتبة أنها اس تخدمت لغة تبتعد عن التعميم» وتلجاً إلى 
التشكيك في هذا الرأي الذي طرحته البطلةء حين استخدمت «ربما» 
لتبعد دلالته الحتمية عن الذهن: إذ أدخلت التشكيك إلى بنية الخبر 
الذي أوردته البطلةء لكن على الرغم من ذلك نعايش في هذه الرواية 
علاقة مأزومة مع الآخر. تجلت عبر لغة الأعماق. التي يصطدم فيها 
التشكيك بالمبالغة. حتى إن البطلة تتفي لغة الحب عن العرييةء وتمسح 
عن ذاكرتها الموروث الثقافيء. وما كتبه الشعراء العذريون والصوفيون 
من أشعار الحب والتسامح الإنساني. 


97 





إشكانية الأنا وال خر 


وكما جسشّدت لنا هذه العلاقة المأزومة في سياق ثقافي. جسدته 
في سياق اجتماعي عبر المعايشة اليومية للآخرء فقد عانى السوداني 
«محجوب» تجرية صعبة في بلد نفطي «السعودية» كان من آبرز 
مظاهرها فساد اللغة وضياع دلالاتها الحقيقية. فدعدنان الصالحي 
لنلاحظ الدلالة الساخرة للاسم» وهو رجل أعمال سعوديء يقبل 
السوداني «محجوب» عاملا لديهء عندثن يتقدم» ليفتح الباب الأماميء 
ويركب إلى جانبه في سيارة الشحن,» لكن السعودي يستحثه في حزم 
قائلا: «من وراء يا أخ... اركب من الخلف». 

بدت مفردة «أخ» أشبه بلازمة صوتيةء فقدت دلالتهاء فهي أقرب 
إلى العبثية اللفظيةء لهذا لن يكررهاء بعد أن فقدت بعدها الإنسانيء 
بل سيكرر فعل الأمر الذي يوحي بالاستعلاء: مرة بشكل مضمرء حين 
أشار إلى المكانء الذي يستوجب عليه أن يتجه إليه «من وراء» ومرة 
بشكل صريح «اركب» كما يكرر المكان الذي يحمل دلالة طبقية مهينة 
«من وراء... اركب من الخلف» ليصاحب من هم في مستواه الاجتماعي 
(الحيوانات التي ينقلها) وبذلك تصاب اللغة بالعطب. وتفسد دلالاتهاء 
إذ تحولها النظرة الفوقية إلى لفة مخادعةء فلم يعد استعمال مفردة ديا 
أن» يحمل دلالة الأخوة والمساواة في الإنسانية. 

وقد تجلت نبرة السخرية لدى الكاتبةء حين منحت رجل الأعمال 
السعودي اسما يدل على عراقة الانتماء للعروبة «عدنان» والصلاح فضي 
الدين «الصالحي» كما تجلت في انتزاع المفردة من سياقها الإنساني 
الإيجابيء وجعلها تحمل دلالات سلبيةء فالأخوة هنا أصبحت تعني 
مساواة الإنسان بأخيه الحيوان لا بأخيه الإنسانء وقد بلغت السخرية 
حدّها الأقصىء حين وجدنا الحيواننات تعترض على صحبة محجوب 
بمختلف الطرق (النظر إليه بعينين عداتيتين؛ الصراخء تهر ذيلها الملفوف 
حول إليتيهاء تقذف وابلا من البعر...) (ص16) وبذلك تبلغ السخرية 
السوداء ذروتهاء حين لا تقبل الحيوانات بأخوة الإنسان! 

تتفي اللفة المستبدةء التي شاعت على بعض الألسنة إنسانية «الأنا» 
الأفريقية:؛ فترفض أخوتهاء وتصمها بصفات سلبية لتعلي شأنهاء 


58 





«الأنا» الأفريقية والآأهر... 


وتحتقر كل من يختاف عنهاء لهذا تلحق بالسوداني أل التعريف التي 
تدل على التعميم والتجنيسء فتنفي الخصوصية عنها «الجنان والشغل 
السوداني... العناد السوداني...» (ص18): أما صفة «الكسل» (ص12) 
فتكاد تشكل جزءا من هوية السوداني» لكثرة ما يلحقها الآخر به. 

لكننا في الرواية نلمس الصفة الأكثر قهرا للسودانيين» وهي إلحاق 
صفة العبودية بهم» التي تفصح عن تمييز عنصري يكابدونه من إخوتهم 
العرب. حتى الأطفال في المدرسة لم ينجوا منهاء لهذا نجد ابنة نصرة 
تشتكي زميلاتها في المدرسة اللواتي «يعايرنها بأنها عبدة» (ص89) مما 
يوحي بفساد التريية» التي يتلقاها الأطفال؛ والتي تبدو أسيرة الصورة 
النمطية التي شاعت في المتخيل الثقافي والاجتماعيء والتي تنظر إلى 
الآخر السوداني نظرة انتقاصية؛ مما يشي ب «رغبات الهيمنة والحاجة 
إلى إخضاع الآخرين» (211. حتى إن كثيرا من المتعصبين» يرون في لون 
البشرة السوداء نفيا عن العروبة. لذلك نجد الكاتبة معنية بالرد على 
هؤلاء. فتثبت أن بطلتها نصرة تملك وثيقة تبرز «نسبها العربي وتسلسل 
أنساب أجدادها العياسيين العرب...» (12. 

ترد الكاتبة على أولئك المنغلقين على ذواتهم. الذين يؤمنون بنظرية 
بائدة تدّعي النقاء العرقي» فتبيح لهم على أساسها الاستعلاء على 
الآخرالمختلف. لهذا تبين لهم أنهم يؤمنون بمعتقدات لا علاقة لها 
بالإنسانية أو الدين» فهم يسقطون العروبة عن الآخرين لاختلافهم 
في اللونء من دون أن ينظروا إلى عروية اللسان والثقافة وهم بذلك 
يبتعدون عن مبادئ الإسلام التي يدّعون الإيمان بهاء فالرسول صلى 
الله عليه وسلم ينفي عروبة النسب, ويؤكد أن اللغة العربية هي النسب 
الحقيقي» فيقول: «ليست العروبة من أب أو أم؛ وإنما هي اللسانء قمن 


تكلم العربية فهو عربي» (12. 


نصرة تتش كك في نسبها العربي على الرغم من امتلاكها ما يثبت 
ذلك: وتعلن اعتزازها بأفريقيتهاء وبذلك تدافع عن ذاتها المهددةء 
وكرامتها المهانة. 


59 





إشكائية الأداوا غو 


نتلمس في هذه الرواية المسكوت عنهء وما قد يعانيه الآخر المختلف 
(عرقا ودينا...).في بلاد العرب. حيث يتم نفيه والاستعلاء عليهء وبذنك 
يبتعد أولكك المرب عن روح الإسلام: الذي نادى بالمساواة الإنسانية 
بغفض النظر عن العرق والدينء فالناس صتفان لدى الإمام علي بن 
أبي طالب (كرّم الله وجهه)«إما أخ لك في الدينء وإما نظير لك في 
الخلق»14. يقتل التعصب الدور الحقيقي للغةء التي تخلق عادة فضاء 
وجدانيا مشتركاء فتفدو اللغة العربية هوية مرفوضة يسبب استيداد 
بعض أهلهاء لهذا أبدت (نصرة) إعجابها بأحد رموز الثقافة السودانية 
(الشاعر محمد المهدي المجذوب) الذي حاول الانفلات من قيود العروبة 
معلنا الانتماء للعنصر الأفريقي. الذي يتيح له الانطلاق والاستمتاع 
ببهجة الخمر. 

لكن سرعان ما يتدخل وعي الكاتبة الديني (ص88) فتقمع تداعيات 
صوت البطلة (نصرة) لتعلي صوت الاتزان والتعقل والموضوعيةء مؤكدة 
أن هذا الشاعر لا يتتصل من إسلامهء حين يتتصل من عروبتهء فهو ذو 
أصول صوفيةء ولديه قصيدة رائعة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم 
وبذلك يفصل وعي الكاتبة. بين الإسلام واللغة العربية, كأنها تريد أن 
تبرئ الإسلام مما يمارسه بعض العرب من تمصب ونفي للآخر. 

إن هذه المشاهد المتعصبة:؛ والتي تدين العربي؛ لن تكون سمة عامة ضفي 
الرواية: فقد بدت لنا الكاتبة معنية بتقديم صورة موضوعية للآخرء فقد 
بدا الخليجي عدنان الصالحي متعاطفا مع السوداني محجوب في مرضهء 
إذ أعطاه مكافأة ضخمةء وصرفه من العملء ليستطيع العودة إلى بلاده. 

كما سلّطت الضوء على التواصل بين «الأنا» السودانية والآخر العربي 
منذ القدم» وأن تبادل المصالح والثقافة بين العرب والسودانيين شاع منذ 
الماضي البعيد» فإذا كان السودان زمن العباسيين بحاجة إلى من يعلّمه 
أصول الدين؛ فإن السعوديين اليوم بحاجة إلى إخوتهم السود انيين. كي 
يسهموا في تعليمهم: وقد قدّمت الكاتبة ذلك عير التناص التراثي» الذي 
يضفي على الفضاء الروائي حيوية وغنىء فمثلا حين يعار «مرغني 
زوج نصرة» إلى السعودية للعمل مدرسا للغة الإنجليزيةء نجده يؤكد 


100 





«الأشا الأفريقية والآشو. . . 


التواصل بين السودان والبلاد العريية عبر التاريخ ف «في خلافة هازون 
الرشيد قدم إليه جماعة من السودان وهو في بغداد طلبوا منه أن يرسل 
معهم علماء يعلمونهم أمور الديانةء فأرسل معهم سبعة علماء من بني. 
العباس» ووصلوا إلى دنقلةء وأقاموا بها وتناسلت فيهم ذرية كثيرة» 14. 

يضيء هذا التتاص للمتلقي مرحلة تاريخية يتتاساها البعض» ليؤكد 
حاجة البلاد العريية عبر كل العصور إلى التعاون مع بعضها البعض, 
ففي الماضي كان السودانيون بحاجة إلى إخوانهم العرب ليعلموهم 
أصول الدين؛ واليوم يحتاج السعوديون إخوانهم السودانيين: ليعلموهم 


لغة العصر «الإنجليزية». 
الآخرالغربي 


سيطرت على «حجول من شوك» إشكالية علاقة «الأنا» الأفريقية 
بالآخر العربي؛ وخفتت إشكالية «الأنا» بالآخر «الغريي» وحتى حين 
لمحنا هذه الإشكائية لم يكن السوداني طرفا فيهاء الذي اكتفى بدور 
الملاحظ. إذ لفت.نظره سيطرة لغة الآخر الغربي على الأماكن الراقية, 
التي ارتادها «فليس ثمة كلمة تقال باللغة العرييةء لا فرق بين هذا المكان 
وبين أحد المطاعم في «لندن ستريت» لكن الأزياء والملامح الخليجية 
للناطقين باللغة الإنجليزية تمثل نشازا...» (16). 

تفضح كلمة «نشاز» التناقض الذي يعيش ه العرب في الخليج: فهم 
على الرغم من امستعلائهم على السودانيين. نجدهم لا يعتزون بلغتهمء بل 
يتصاغرون أمام الغرب إلى درجة يس تخدمون في أحاديثهم في الأماكن 
الراقية لغة غير لغثهم. فيعيث ون حالة لافتة للنظرء فهم يحافظون على 
اللباس التقليدي. أي على ما هو شكلي. ويتتاسون لغتهم أي ما هو أصيل 
يشكل الروح والوجدان؛ وبذلك يعايش المتلقى هيمنة الآخر القربي اللفوية, 
التي تشكل تهديدا. للشخصية العربيةء وتتذر بضياعها في زحمة العولة. 

على الرغم من ذلك يسجل لكاتبة رواية «حجول من شوك» تجسيدها 
للصراع مع الآخر «الأمريكي». فقد وحّد الخطر الذي يجِسّده هذا الآخر 
الإنسان العربيء لذلك قُتل الشاب السوداني «مهدي حبيب نصرة» ضفي 


101 





إشكالية الأنا والآخر 


أثناء القصف الأمريكي على العراقء فالمصير الذي ينتظر العرب واحد. 


حين يواجهون الخطر الغربي. 
أخيراء يسجل للكاتبة بثينة خضر مكي قدرتها على تقديم إشكالية 


«الأنا» والآخر عبر الفوص عميقا في أدغال الذات» حيث يعايش المتلقي 
تنوع الهوية بين العريية والأفريقية في أعماق الش خصية السودانية, 
ومعاناتها من قلق الانتماءء فتبرز «الأنا الأفريقية» بصفتها «آخر» في 
لحظة الصدام: أي حين تعاني من اضطهاد العرب لهاء في حين تتسجم 
مع «الأنا العربية» فتشكل جزءا حيويا من الذات في لحظة الوثام» أي 
حين يتم التعايش معها. 

ولعل مما أضفى الحيوية على تقديم هذه الإشكالية تلك اللغة الروائية 
المتتوعة (لغة ساخرة: تراثيةء يومية. شعرية...). وبذلك امتلكت عبر هذه 
اللفة نبرة خاصة بفضل مخيلة تمتح من التفاصيل الحياتية والنفسية 
لتجربة الشخصية والغوص في أعماق معاناتها الخاصةء وإن كنا نأخذ 
على الكاتبة الاهتمام بتسليط الضوء على صوت المرأة. والحماسة في 
تقديم معاناتها أكثر منها عند تقديم صوت الرجل ومعاناته. 


102 





الأنا والآخرالصهيوني 
في رواية سحر خليفة 
«رییع حار 


ليس غرييا أن تصبح الرواية اليوم 
ديوان العرب» فهي أقدر الفنونء بفضل 
اتساع فضائهاء على تقديم أعماق النفس 
البشريةء وبذلك تتيح الفرصة للكاتب كي 
يقدم الفكر عبر وجهات نظر متعددة, 
مثلما تتيح الفرصة لتقديم الهواجس 
والأحلام والتخيلات. فيعايش المتلقي فيها 
تفاصيل دقيقة؛ تنتمي إلى عوالم شعورية 
ولاشعورية, قد لا يجرؤ الإنسان على 
التعبير عنها في حياته اليومية. 

وقد استطاعت الرواية: بفضل ما 
تتمتع به من حرية التجوال في الزمان 
والمكان والأعماق الإنسانية... إلخء أن تتيح 
للمتلقي مواجهة أسئلة تثيرها الحياة, 


ا 

«المشاعر الإنسانية كل 
لا يتجزأء والانفتاح على 
الطبيعة والحفاظ عليها 
يعنيان اتفتاحا على الإنسان» 





المؤلفة 


103 





إشكالية الأذا و الآخر 


تدور حول «الأنا» وما يعترضها من أزمات في أثناء تشكيل هويتهاء 
خصوصا حين تصطدم بالآخر. فتتضح أمامه إشكالية «الأنا» والآخر 
وتتبدى له التشوهات, التي تحاصر الذات, مثلما تحاصر الآخر. وبذلك 
تستطيع الرواية أن تتسلل إلى أعماق الإنسان, لتناقش ما يكنه في لاوعيه, 
خصوصا مشاعر الكراهية المخيوءة في أعماق الذات تجاه الآخر, وبذلك 
تبدو خير وسيلة تنيح لنا الاطلاع. على تلك المنطقة المظلمة؛ التي تقيع في 
أعماقناء فتكشف الحجاب عما يحاصر إنسانيتناء ويعمي بصيرتنا تجاه 
الآخر. وهذا ما حاولته رواية مسحر خليفة «ربيع حار». إذ قدمت الآخر 
اليهودي بصفته إنساناء ولم تحشسره في قالب نمظطيء» يبرزه في صورة 
كريهة جامدة؛ وبذلك حاولت عدم انتزاعه من سياقه الإنساني, إذ تعمدت 
انتقاء شسخصيتين (عربية ويهودية) أقرب إلى براءة الظفولة, لم تشوههما 
بعد العداوة والحروب وذاكرة التاريخ, لتنسج بينهما علاقة صداقة وحب 
يستهجتها الكبار -عادة. 

القد أفسحت الرواية:المجال لصوت الطفل (أحمد) الذي يخطو نحو 
المراهقةء كي يصور الآخر اليهودي (ميرا) عبر مشاعر إيجابية. تحاول أن 
تنأى عن العداء .وقد تعمدت الكاتية أن تجعل هذه المشاعر تتجاوز السياق 
الواقعي البائس. الذي يحيظ بالشخصيات, لكنهذا السياق لن يستطيع أن 
يعيش معزولا عن السسياق التاريخبي الملطخ بالعدوان الصهيوني» مما يقهر 
الإفنسان العربي» ويمنع تطور مشاعره الإيجابية تجاه الآخر المستوطن: إذ 
ينتزعه من عالم الجمال (الشعر والموسيقى والرسم) إلى عالم الحقدء 
فينتزعه بالتالي من الحياةء ليقذف به في وجه الموت. 


جماليات العتوان وإشكالية «الأثاء وذالآخر» 

لهذا جعلت الكاتبة إشكالية «الأنا» والآخر تضطرم في بيئة تختل 
فيها قوانين الطبيعةء ويذلك لم تستطع «أنا» العربيء في هذه الرواية 
أن.تعيش زمنا عادياء فقد:تفيرت الطبيعةء وتوترت أحوال الطقس. حتى 
انقلب أجمل الفصول (الربيع) إلى جحيم فغفاب عن وعي الإنسان جمالهء 
وشهره قيظه» لذلك لحقت صفة «حار» بأجمل فصول السنة. فبات عنوان 


104 





الأخاوالآخن الصهيوني ... 


الرواية (ربيع حار) مجسدا لهذا الخلل؛ ليوحسي بانقلاب الطبيعة: حين 
اشتعلت المواجهات بين العرب والصهاينة؛ فإذا كانت الكلمة الأولى في 
هذا العنوان تحمل وعدا بالجمال والتجدد في حياة العربي الفلسطيني؛ 
حين يتوهم إمكانية نشوء علاقة الحب بينسه:وبين الآخر الصهيوني» لكن 
الكلمة الثانية. وهي تحمل دلالة سلبيةء تصف الربيع بأنه «حار» مما يبدد 
الحلم الربيعي الجميلء ويوحي بتجاوزه إلى صيف حار وبذلك يضيع 
الجمال. ليفسح الطريق أمام الكراهية والقهر. لهذا بدت هذه الدلالة 
عنوانا للروايةء تلخص قلق الإنسان بين الرغبة في حياة جميلة (ربيعية) 
وبؤس وافع يقهره. ويحيل رغبته إلى نقيضها (الحرارة) التي تقتل الحلم: 
وتذيب الرغبات البريئة. . ٠‏ 

لذلكء. فإن الخلل في العلاقة الإنسانية بين «الأناء والآخر, وتبدد 
علاقة الحب؛ وتحولها إلى كراهية. قد أسقطته الكاتبة على الطبيعة, 
إذ إن تدمير روح الإنسان وأجمل علاقاتهء يعني تدميرا لأروع الفصول 
(الربيع) الذي افتقد الاعتدال والجمال: وأصبسح ربيعا حارا؛ مما يوحي 
باضطراب الحياة الإنسانية والطبيعة معاء وأي خلل يصيب إحداهماء لا 
بد أن يصيب الأخرى. من هنا استحق «ربيع حار» أن يكون عنوانا: للرواية. 


انسجام الأنا العربية مع الآخشر 

تختار الكاتبة لهذا اللقاء فتى (أحمد) وهو مراهق فنان: تتسبب شدة 
حساسيته ورهافته في اضطراب بشخصيته: فتجعله یثاثن. لكنه يحاول 
أن يعيد توازنه النفسي عبر بحثه المتواصل عن الجمالء ليعبر عنه بالرسم 
والتصويرء حتى إننا وجدنا أستاذ الرسم بعد أن تأمل لوحاته يستفرب 
بحثه الحالم. الذي يشي بمثاليته. في سأله: الماذا لا ترسم ما حولك... 
يعني الواقع5» البائس في الضفة الفربية. 

تتعمد الكاتية أن تى تعيش أحمد في عزلةء فتبعده عن الحياة المضطرية 
التي يعيشها أقرانه إل يتظاهرء ولا يرشق بالحجازة: ولا يركض) حتى 
إن الشخصيات الأخرى تصفه بصفات سلبية لا تتتاسب والظروف 
القاسية التي يعيشها الفلسطينيء لذلك يقول والده: «الولد خرع جداء 


105 





إشكالية الأنا والآخر 


طري جداء وبحاجة للدعك والتصلب» فما معنى أن يعيش في هذا الجو 
ولد مثله5 ما يحتاجه البلد جلد التماسيح: وقلب جامد وعين صاحية 
لا ترمش» (0, 

تتعمد الكاتبة أن ترسم ملامح فتى حالم: لذلك أبعدته عن هموم 
الواقع, ليعيش طفولته؛ بكل ما تعنيه من رهافة حس وتوجه نحو الفنء فقد 
كان يبكي لسماع الأغاني والموسيقىء ولرؤية أشياء صغيرة ذات إحساس 
(عصفور صغير. قطة صغيرة) أو يمسبغ عليها مشاعره التي تخفق في 
أعماقه. حين يراها (شمسا غاربة حزينة). 

إن هذه العزلة ساعدت الطفولة على انفتاحها على الجمال بعيدا 
عن الأحقاد وآلام الماضي وأحزان الأهلء لهذا تذهله رؤية طفلة عبر 
عدسة الكاميرا تعيش في مستوطنة كريات شيبع التي تجاور فريته. بدت 
له شقراء حلوة بشعرها الحريري المتطاير. في ترنم بجمالهاء وهو يردد 
أهزوجة كانت أمه تغنيها له وهي تمشطه. «يا قصب يا نصب, يا شعر 
الحرير...»» لكن سرعان ما يستيقظ في داخله موروث الكبار ونظرتهم 
السلبية تجاه الآخرء فيردد بينه وبين نفسه أن أمه سترفض الغناء لهاء لأن 
تنتمي للمستوطنين» وهم «ليسوا أوادم». 

هنا تقف براءة «الأنا» وطفولتها حاجزا بين ما تعلمته وما تراه» فتسعفه 
على تجاوز موروث الكراهيةء الذي يتغص حياة الكبارء إذ يحس بأن هذه 
الطفلة المستوطنة قريبة منهء مع أنه يراها من بعيد. ويجهل اسمهاء 
فیدللها كما تدلله آمهء ويبلغ التقارب أقصاه حين ينساق وراء أحلام يقظته 
الطفوليةء فيتخيل نفسه جالسا إلى جوارها يشاركها الفرح في مرجوحتها 
«جسمه يتماوج؛ ویرفرف مثل عصفور». 

تحاول الكاتبةء عبر هذه الأحلام» أن تنطلق بنا إلى عالم البراءة 
التي تس توطن قلوب الأطفالء لتؤسس ثقافة الحب والتسامح» فالولد 
لا يعرف شيئًا عن الطفلة سوى أنها تنتمي إلى مكان آخر (المستوطنة)ء 
ومع ذلك يجعلها ندا له» يشركها في أفراحه (يغني لها أغنية: كانت 
أمه قد أسعدته بها) كما يتمادى خياله ليجلسه إلى قريهاء كي يشاركها 
اللعب ب «المرجوحة». 


106 





الأنا والآخر الصهبوني ... 


يعايش المتلقي في البداية الصورة الحية للطفلة (تركب مرجوحة:؛ 
يطير شعرها بالهواء) التي تلهم الفتى أحاسيس جميلةء وتنطلق به إلى 
عوالم أشبه بالشتعرء لهذا تتحول البنت الصغيرة إلى فراشة وعصفورة؛ 

وبذلك تعيش «الأنا» العريية طفولتهاء أي براءتها بعيدا عن السياق 
التاريخي بكل نكباته وهمومه» لذلك لم تر في «الآخر» عدوا عليها الابتعاد 
عن أذاه. بل رأته حبيبا عليها الاقتراب منهء لهذا وجدنا الفتى يندفع نحو 
الأسلاك الشائكةء ليسأل الشاب العربي (عيسى) الذي يعمل في المستوطنة 
عن اسم الطفلة وفي أي صف؟ وعن اسم أبيها؟ لكن ما إن يقترب من عالم 
الكبار حتى تضطرب الصورة التي تغلفها الأحلام الورديةء وتنهال الأسئلة 
القلقة. عندئن ترتد هذه الصورة إلى نمطيتها عبر تساؤلات تبرز مخاوف 
الطفل من الآخر (الأب المستوطن) «ألديه رشاش على كتفه؟ ألديه سوالف 
وطاقية؟ هل يصلي مثل الحردون أمام الأسوارء كما يفعلون في التلفزيون؟ 
هل يكره العرب ويطخ العرب؟ أم هو لطيف مثل ابنته؟...» (2. 

يتبدى قلق «الأنا» على الهوية والخوف من الآخرء حيث يتكرر لفظ 
«عرب» مرتين مصحوبا بفعل الكراهية تارة وبفعل الموت تارة أخرى (هل 
يكره العرب؟ ويطخ العرب؟) لذلك تقتحم مخيلة الفتى الشاعر لغة العنف 
(رشاش.ء يطخ...) لتعزز الصورة النمطية للآخر العدوء كما تقتحم لغة 
الكراهية التي تصوره في هيئة كاريكاتورية مضحكة (يصلي مثل الحردون) 
لكن صيغة التساؤل؛ التي أحيطت بها هذه اللغة خففت من عنفها 
وسلبيتهاء باعتقادناء مثلما أدخل الشك في مدى صداقيتها . لكن سرعان 
ما يتذكر الفتى أقوال أبيه (الصحافي) التي لها مصدافية في وجدانه 
«المستوطنون أوسخ البشر» فيغيب عندئن التساؤلء الذي يوحي بالشك 
في هذه الأحكامء لذلك تأتي لغة الكبارء لتؤكد الصورة النمطية في مخيلة 
الفتى» عبر استخدام أحكام مطلقة يقينيةء لهذا يحس الطفل بالاضطراب 
والتشوش. فما يراه هو نقيض لا يراه أبوه» لذلك يلوذ بسؤال استنكاري: 
هل أبوها وهي من أوسخ البشر؟ لكن ما يشاهده الصغير بعينيه؛ وما 
يحسه بقلبه يقوده إلى حقيقة أن الطفلة «ليست وسبخة ولا قبيحةء بل 


107 





إشكائية الأنا والآخر 


هي حلوة» فيعزز إمكانية اللقاء بين الذات والآخرء مما يعني ابتعادا عن 
إطلاق الأحكام الجاهزة, التي تشوه المختلف» وينتصر لما يختبره بنفسه. 
ويعايشه حقيقة . 

وهكذا يتحرر الطفل من المقولات الجاهزة التي يعتنقها الكبارء والتي 
تشوه الآخرء وتهدم أي إمكانية لبناء علاقة إنسانية لهذا نجده يبحث 
عما يعزز لقاء «الأنا» ب «الآخر» ويؤكد التقارب بينهماء فالينت تشاركه 
سني العمر نفسها ثقريبا (لا هي طفلة ولا هي فتاة) وعلى الرغم من 
كونها أنثىء لم نجده يركز على جسدها المختلف, بل على مشاركتها له 
متاعب بدايات المراهقة: التي يتعرض لها كل من الفتى والفتاة في هذه 
السن القلقة بين الطفولة والشباب» فهي تعاني مثله مشاكل المراهقة 
(أسنان كبيرة أكبر مما يستوعبه الفك الصغير) فيتذكر الأمل الذي 
بثه أبوه في نفسه. إذ وضح له أن الزمن كفيل بحل هذه المشكلة (حين 
يكبر الوجه تصبح الأسنان معقولة) وبذلك يشرك صديقته في أفكاره 
المطمئنةء إذ أحلها مكانا حميما في أعماقه. حتى إنه أشركها في أسئلة 
سرية تقلقه: «هل تخجل مثله من عمرها؟ هل تخجل من التغيير في 
جسمهاء. هل لها أشياء تخفيها؟ لكن اليهود لا يخفون أشياءهم:مثل 
العرب. ويكش فون ما لديهم لعيون الناس» وعيون الشمس» حتى تصبح 
جلودهم مثل البطاطا :المشوية» 2 . 

.على الرغم من أن الطفل العربي يجد صفات تجمعه بالطفلة المستوطنة 
على الصعيد الإنسانيء لكنه لم يمستطع التحرر من مقولات سائدة في 
مجتمعه تعزز الفوارق بين «الأنا» والآخر. وتبرز اختلافهما في العادات 
الاجتماعيةء فاليهودي لا يخضع لقانون العيب؛ الذي يتحكم في المجتمع 
العريي» لهذا يتعامل أبناؤه مع أجسادهم بعيدا عن المحرمات» وحين نتأمل 
ملامح الصورة التي سمت لجلود الآخرء.نجدها تنطق بدلالات إيجابية. 
إذ إن ألوانها مستمدة من أكلة محيبة للأظفال هي «البطاظا المشوية». 

أتاحت الكاتبة؛ عبر ألعاب الطفولة وأفراحهاء الفرصة لأحمد. الطفل 
الفلسطيني الذي يجسد «الأنا» أن يقترب من ابنة المستوطنة (ميرا) التي 
تجسد «الآخر». فبدأ في عد قفزات البنت (آحاد» اشتايم. شالوش...) 


108 





وخر الصهبوضي ... 
من دون أن يجد غضاضة في استخدام اللفة العبريةء كي يلفت نظرهاء 
ويتقرب منهاء وحين بد أت تتحدث معه نجده يلجأ إلى مرح الطفولة. ليوثق 
علاقته بهاء تساله عن الكاميرا فيقول «كاميرا ديجيتال» ثم يشير إلى 
الساعة ويقول «ديجيتال» ثم النظارة الشمسية يضعها على عينيهء وينزعها 
قائلا : «ديجيتال» فتتطلق ضحكاتهما . ش 

لم تشكل اللغة في هذا المشهد. على الرغم من اختلافهاء عائقا في 
هذا اللقاءء لكن الطفلة في مشهد آخر نجدها تسعى إلى تعليمه لغتها 
عبر الإشارة, إذ أشارت إلى عينيه حين خلع النظارة وقالت «عينايم» فقال 
مصححا أو ريما راغبا في تعليمها تغته «عينان»... إلخ. 

إن اسستخدام كل واحد منهماءلفته الخاصة يفصح عن رغبة في إعلان 
كل منهما هويته. أي تميزه عن الآخرء لكنهذا الحوار سيكشف أمرا 
مهماء هو الشبه بين اللغتينء مما يعزز إمكانية اللقاء والتفاهم بينهماء وأن 
الحفاظ على الخصوصية اللغويةء لن يتفي إمكانية التفاهم» وبناء جسر 
المودة بين «الأنا» والآخر. 

تسهم علاقة الحب في تطور شخصية الفتى؛ إذ تركت أثرا إيجابيا 
على لسانهء ولم يعد يثأآثئ: وبدأ يتجاوز مرحلة الطفولةء فقد منحته الثقة 
بالنفس» وهو مازال يطرق أبواب الشباب. 

تحتمي هذه العلاقة بين «الأنا» والآخر بالسرية: إذ لم يدر أحد عن 
الصداقة بين المراهقينء فقد بدأت ذاكرتهما الغضة تعي التوتر بين العرب 
والمسستوطنين» حتى إن الفتى لم يجرؤ على البوح بهذا السر لأقرب الناس 
إليه (أمه وأخيه). 

وهكذا تهاوت أوهام شكلها الكبارء بفضل التقارب الإنساني بين «الأنا» 
والفتاة اليهودية (ميرا) مما أدى إلى معرفة اس تخلصها القتى العريبي. 
بعيدا. عن المقولات الجاهزة: واكتشف أن .صديقته ليست من أوسخ البشر 
(كما يقول أبوه عن المستوطنين) بل هي «أجمل مخلوق رأته عيناه» حتى 
كلبها بوبو بات صديقا له. 

دفعت هذه العلاقة أحمد إلى التمرد على الصورة النمطية التي رسمها 
الكبار عن الآخرء فالاقتراب منه حرضه على محاولة زحزحة سلطة الكيار 


109 





إشكالية الأذا وال فر 


المتمثلة في أقوال أبيهء فقد بدأ يشك في مصداقيتهاء إذ أعلن رفضه 
للصفات غير الإنسانية التي يطلقها أبوه وغيره (الشاب عيسى) على 
الممستوطنين (قملء شياطين...) فاس تخدم لغة الحب ونبذ لفة العنف, 
كما دفعته هذه العلاقة إلى طرح أسئلة جريئة تكاد تكون مس تهجنة لدى 
العرب» فيسأل سعاد : «الزهرة حرام نقطعها والأشجار حرام نقطعها... 
واليهود ليش نخلعهم؟!» وترد عليه: «هل نحن من خلعهم5»: فيجيبها بعفوية 
«هم خلعونا». 

المشاعر الإنسانية كل لا يتجزأ والانفتاح على الطبيعة والحفاظ 
عليها يعنيان انفتاحا على الإنسان. لهذا يصدم الطفل الكبار بسؤال: 
لماذا نخلع اليهود مادام محظورا علينا خلع زهرة أو شجرة؟ كأنه يقول 
لهم: ما هذا التناقض بين الرأفة بالزهر وعدم الرأفة بالبشر؟ فتدعوه 
سعاد عبر استفهامها الإنكاري إلى تأمل حقيقة الآخرء هل هو مسالم 
أم معتد؟ فيستنتج الحقيقة بنفسه: اليهود هم الذين خلعونا من أرضناء 
وبذلك لم يستطع التخلص من ضغط السياق التاريخيء الذي عانى 
الكبار عدوانيته في الماضيء خصوصا أن الحاضر يؤكد هذا التاريخ ولا 
ينفي عدوانية الصهاينة. 


المقارنة بين الأنا والآخر 

تدعو المقارنة بين الأنا الفلسطينية والآخر (المستوطن) إلى الأسىء 
إذ شستان بين عالمين: عالم القهر والحرمان الذي ينتمي إليه الفلسطينيء 
وعالم الغنى والسعادة الذي تنتمي إليه ابنة المستوطنة الإسرائيلية, لكن لا 
يمكننا أن نقول: إن الخلاف بينهما طبقي فقطء بل نجده متعدد الأوجهء 
يتداخل فيه الطبقي بالديني (اليهودية والإسلامية) مثلما يتداخل بالعرقي 
(الطفلة شقراء/ الفتى أسمر) ومما يعزز الهوية الدينية للشخصيةء في 
رأيي» أن الكاتبة اختارت اسما ذا دلالة دينية (أحمد) لتعزز حضورها في 
أعماق «الأنا» وريما لتتسجم الشخصية مع أفعالهاء ومصيرها في خاتمة 
الرواية؛ لعلها تبدو مؤثرة في الوجدانء الذي يشكل الإسلام مرجعية كثير 
من المتلقين. 


110 





الأنا والآخر الصهبيوني ... 


أمام هذه التناقضات, التي تعكس ظلما وقهراء يمارسه الآخر على 
الفلسطينيء يتساءل المتلقي مستغربا: كيف حدث التقارب بينه وبين ابنة 
المستوطنات؟ ألا.توسع هذه الاختلافات التباعد بينهماة! 

على الرغم من ذلك تكمن ميزة الرواية في قدرتها على تقديم مشاهد 
بعيدة عن مشاعر الكراهية بين «الأنا» و«الآخر الإسرائيلي» الذي اعتدنا 
رؤيته في رسم صورة العدوء إذ استطاع الفتى الفلسطيني أحمد بفضل 
مشاعر الحب تخطي كل الاختلافات التي تخلق سدودا بينه وبين اليهودية 
ميراء فقد أحس بأنها مساوية له في المشاعر الإنسانيةء ولكن حين ينتابه 
إحساس بتفوق الآخر عليه (عسكريا وماديا)ء نجده يلجأ إلى آلية الدفاع 
عن الذاتء ويبحث عما يعزز ثقته بنفس ه: فيعلن تفوقه على صعيد القوة 
الجسدية؛ إذ يستطيع؛ على الرغم من وعورة الطريق وصعوبتهء الوصول 
إلى ميرا واحتمال التعب» ليس فقط بسبب الفارق الجنسي (الذكورة 
التي تعني القوة في المجتمع التقليدي) بل بسبب تدخل العامل العرقي. 
أي الانتماء القومي (العرب أخشن من اليهود؛ اعتادوا على التعب وقطع 
المسافات) هذا ما قاله أبوه لأخيه مجيد الذي سخر من هذا قائلا «يا 
ريت أخشن». 

لقد حمل الأب صفة الخشونة دلالة إيجابية عبر استخدام صيغة 
التفضيل (العرب أقوى من الآخر المستوطن وأخشن) لكن الشاب مجيد 
يشك في استحقاق العرب هذه الدلالةء لهذا يواجه والده بطريقة غير 
مباشرة. متمنيا امتلاك تلك الصفة عبر صيغة التمني (يا ريت: يا ليت) 
فالواقع المهزوم ينفي هذه الصفة, لهذا يضطر أبوه إلى اس تخدام صفة 
أخرى «أصبر» تلحق بالعرب عادة؛ وتتاسب طبيعة حياتهم: ويوافق عليها 
الكبير والصغيرء فهي أنسب الصفات لهم» «تعودنا على القلة والتعب 
والجوع, يعني أصبر». 

الملاحظ أن الأجيال العربية الشابة بدأت تشك في أحكام الكبارء 
وتتمرد على لغتها التي تموه الحقيقة؛ وتتحايل على الواقع؛ فت سأل أسئلة 
صادمة للكبارء كما فعل أحمد وأخوه., الذي صحح لأبيه قائلا: إن «العرب 
ليسوا أخشن من الآخر الصهيوني» لو كانت هذه الصفة:؛ التي تحمل 


111 


إشكالية الأشاوالآخرى 


دلالة القوة. صحيحة لما لحقت بهم هذه الهزائم الكثيرة. ونظرا إلى قوة 
هذه الحجة, نجد الوالد يضطر إلى التراجع عن تلك الدلالة: ليس تخدم 
صيغة تفضيل أدق (أصبر) ليؤكد صفة التصقت بالعرب» حتى أصبحنا لا 
نجد صفة سواها للتفوق على الصهاينةء فالصبر لا يعني التحمل فقط» 
بل الإنيحاء بالضعفء فتتسع دلالاتها لتصل إلى حد القبول بحياة مهينة 
باسم الصبرء وبذلك تحرض لغة الشباب (التي تقدمها الكاتبة على لسان. 
الأخوين) الإنسان الفلسطينيء لينبذ ضعفهء ويتعلم من عدوه أسباب القوة. 

وقد استطاعت المقارنة بين الأنا والآخر أن تنقل المتلقي إلى سياق 
اجتماعي متنوع: إذ يطلع على أساليب عيش المرب والصهاينةء فتتبدى له 
الظروف المعيشية القاسية والمهينة التي يعانيها العرب. عن طريق مقارنة 
أحمد بين طعام العرب وطعام الكلب في المستوطنة؛ فبدت المقارنة لصلحة 
الحيوان الذي يتناول «التونة» وهو طعام باهظ الثمنء لا يقدم على مائدة 
الفلسطيني إلا في المناسبات. لذلك يتسابق أحمد وأخوه عليه. 

شەر هذه المقارنة المتلقي بحدة الفارق الطبقي. ليس بين إنسان 
عريسي وصهيونيء وإنما بين طعام كلب وطعام إنمسان: مما يترك جرحا 
غائرا في النفس ومرارة في الروح: فقد بلغ الظلم أقصى مدى؛ فلم نعد 
نفتقد العدالة بين إنسان وإنسانء وإنما بين إنسان وحيوان: وبذلك سلطت 
الكاتبة الضوء على هموم «الأنا» الفلسطينية ومعاناتها اليومية في تأمين 
مستلزمات الحياةء وتميز حياة الآخر ورفاهيتهاء حتى إن الغربي يعيش 
حياة لا يمكن أن تقارن بحياة حيوان يعيش هي كنف الصهيوني؛ وقد 
ألقت هذه المعاناة بظلالها على علاقة الحب بين الفلس طيني أحمد وابنة 
المستوطنات ميرا مما ينغص الود بينهما. 

لم تكتف الكاتبة بهذه المقارنة بين إنسان وحيوانء بل تتقلنا إلى مقارنة 
مؤسية أخرى؛ لتعزز مشاعر القهر لدى المتلقي العربي» إذ تقارن بين حيوان 
ينتمي إلى «الأنا» يعيش في بيئة عربيةء وحيوان ينتمي إلى «الآخر» يعيش 
في المستوطنةء فيبدو الكلب الذي يأكل من المزيلة قرب المخيم «مخيفا مع 
أنه كلب عربي». في حين بدا كلب المستوطنة أليفا جميلا لا يثير الخوض. 
على الرغم من أن أحمد لم.يعتد الاقتراب من الكلاب. 


112 





افا والآخر الصهيوني... 


لكن المقارنة اللافتة للنظر هي تقديم الكاتبة صورتين متناقضتين 
للجندي الإسرائيلي» فقدمته في إطار إنساني حين يكون ضعيفاء وضي 
إطار وحشي حين يكون قوياء وقد تجسد هذا الإطار في المشهد الختامي 
للروايةء إذ برز المجند تارة في صورة «الضفدع؛ إنسان الغاب» فقد 
انتزعت الإنسانية منه فبات «شبيها بالآلة» وتارة أخرى لمجند صغير تنزع 
عنه الكاتبة صفات الرجولة وتلحق به صفات الأنوثةء إذ تصفه على لسان 
سعاد بأن «وجهه ناعم مثل وجه فتاة... ليس مخيفا رغم السلاح: ورغم 
الكوابيس ورغم جهنم ونظرت إليه وأحسست بارتباكهء وصغر سنه. قليل 
الخبرة: لم يجمد. لم يتمسح...». 

تبدو الكاتبةء في تشبيهها اللجند بالفتاة أسيرة مقولات جاهزةء تشيع 
في المجتمع العربي. تحيط الذكر بهالة القوة, والأنثى بالضعف. مع أن 
الكاتبة ترفض هذه المقولات في وعيهاء لكن يبدو أن لاوعيها مازال ضحية 
النسق الاجتماعي والثقاضي المهيمن: فهي ابنة مقولات تقليديةء تعلي من 
شأن القوة التي تلحقها بالذكرء وتحرم الأنشى منهاء لكن الكاتبة لم تكن 
وفية لهذه المقولات دائماء فقد تجاوزتهاء إذ يلاحظ المتلقي؛ هناء تحيزها 
للجنس الذي تنتمي إليهء فتجعل الأنوثة أكثر إنسانيةء لهذا جعلت الجندي؛ 
الذي يحمل ملامحها (لم يجمد» لم يتمسح) أي احتفظت بإنسانيته؛ إذ 
مازال يمتلك مشاعر وأحاسيس تصله بأخيه الإنسان: بغض النظر عن 
انتمائه العرقي والديني. ش 

قدمت الكاتبة مشهدا مؤثرا تتشارك «الأنا» والآخر بطولته: إذ يجد 
المتلقي أن الفاعل الأساسي فيه هو المجند الإسرائيلي وأحمد الذي ألقاه 
ضابط الأعداء فوق المجند بعد أن وقع على الأرض «فالتحماء وأحس 
بجسده يتشنج مثل الزجاج... آراد أن يدق بختاقهء ويفرغ ما في صدره 
من أحقادء لكن الآخر كان يهتزء ويخفق مثل البنات» وأحس بقلبه ودموعه 
تسيل باردة مثل السكين؛ فغمر وجهه في ظهر ذاك. وشد عليهء فاستكان 
الآخر, واستسلم بانتظار الموت أو الرحمةء ووجد الاثان نقسيهما في 
وضع غريبء الواحد منهما يشد الآخر بش كل محموم متشنج: ويبكيان 
بلا تحفظ مثل البتات؟» (4). 


113 





إشكالية الأنا والآخر 


اقتحمت مخيلة الكاتبة من أجل تجسيد علاقة «الأنا» بالآخرء عالما 
محظوراء وخالفت أفق توقع المتلقي العربي؛ إذ لا يمكن أن يتخيل لقاء 
بين الفاسطيني والمجند الإسرائيلي من دون استخدام لغة العنف؛ لكن 
حين يكون الآخر ضعيفا وبريئاء أي نقيضا للصورة النمطية المألوفة 
عادةء يمكن لعلاقة المودة أن تجمع «الأنا» بالآخر«ووجد الاثنان 
نفسيهما في وضع غريبء الواحد منهما يشد الآخر... ويبكيان» وبذلك 
توحدهما لغة الكاتبة عبر اس تخدامها صيغة المثنى: فلا نجد تمييزا 
بين الأنا والآخر. سواء باس تخدام الضمير «يبكيان» الذي يجمعهماء 
أم باستخدام فعل واحد «يشد» وإن اختلقت صيفة الفاعل (الواحد 
والآخر) لكن الدلالة إيجابيةء توحي بالانفتاح وتوحد الفعل مع الفاعلّين 
اللذين ينتميان ل «الأنا» والآخر. 

إذا يبدو اللقاء مع مجندء يمتلك مشاعر إنسانية (يتشنج ويخاف...) 
محطما الصورة النمطية للآخرء لكنه لم يستطع أن ينزه العربي من أحقاده 
لذلك حين وجد نفسه ملقى فوقهء هاجمته أفكار عدوانية تمنحه شجاعة 
إنسان يجد نفسه إما قاتلا وإما مقتولاء لهذا «صار في إمكانه أن يخنقه» 
لكن بكاء الآخر وخوفه أيقظا المشاعر الإنسانية داخل الفلسطيني؛ فقد 
أحس بمشاركته لضعفه» مما أفسح المجال لنشوء علاقة استشائية بينهما 
في لحظة مواجهة المجهول. لا علاقة لها بالصراع وأحاسيس القهرء لهذا 
شد كل واحد منهما الآخر بش كل محموم متشنج. فقد وحدتهما مشاعر 
الخوف, وأيقظت حس هما الإنساني؛ وبذلك أزالت مشاعر العداءء وأحلت 
محلها الرغبة في التواصل من أجل العيش المشترك. 

إن ما يلفت النظر في هذا المشهد أن الكاتبة لم تعلِ شأن الذات 
العربيةء صحيح أنها جعلتها تفكر بشجاعة (خنق المجند الإسرائيلي) لكن 
الخوف ينتابهاء فتبكي مثله تماماء ويذلك تنظر الكاتبة: هناء إلى «الأنا» 
والآخر نظرة نديةء كي تحاول بناء جسر التفاهم بينهما. 

وهكذا خلخلت حالة الضعف الإنساني نمطية الصورةء وأتاحت المجال 
لبزوغ علاقة إنسانية بين الأنا والآخرء كأن القوة تعزز ملامح علاقة 
عدوانية: وتنضي أي إمكانية للحب والتواصل الإنسانيء فالقوي يصب 


114 





الأنا والآخر الكصشيونس ... 


عدواته عادة على الضعيف» لعل الكاتبة تلمح إلى إمكانية نشوء هذه 
العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي حين يقر كل واحد منهما بضعفه 
الإنساني» فيتمكن من تجاوز الكراهية والاستعلاءء أي تجاوز كل ما يلغي 
إنسانية الإنسان. فيصغي إلى ما يجمعه بالآخر (الإحساس بالخوف. 
الرغبة في الحياة, الحاجة إلى التواصل...) ويبتعد عما يفرقه. 


الفضاء المكاني وإشكالية الأنا والآخر 

إن المقارنة في رواية «ربيع حار» بين الحياة الإنسانية البائسة التي 
تعيشهها «الأنا» العربية والحياة الباذخة التي يعيشها الآخر الإسرائيلي. 
تستدعي فضاءين نقيضين,» الأول: فضاء المستوطنة نراه محاطا بالجمال 
والرفاهية (أشجارء عصافيرء أزهار كروم اللوز والمشمش» ساحة خضراء 
في وسطها مرجوحة) والثاني: فضاء المخيم الذي يفص بالقبح؛ لهذا حين 
أراد أن يصور أحمد أخاه أبعده عن «الفضاء العربي» المخيم» حيث الفقر 
والقذارة (المزيلة) ليجعل المستوطنة إطارا جميلا لصورتهء مما يعكس 
رغبة في الانتماء إلى الفضاء الجميلء الذي حرمت منه. 

يلاحظ أن توتر العلاقة بين «الأنا» و«الآخر» حرض وعي الشخصية 
على المقارنة بينهماء من دون أن يقتل إحساسها بالجمال والبحث عنه, 
حتى حين يكون فضاء للآخر العدو. 

وقد عزز هذه المقارنة بين هذين الفضاءين إحساس الغين والقهر 
المختبيّ في طيات اللاشعورء مثلما أيقظت حادثة سرقة ميرا للقطة 
مشاعر العداء الكامنة لدى العربي أحمد تجاه المستوطنين. 


توت رالعلاقة بين الأنا والآخر 

إن هده المقارنة بين نمطين من الحياة. تقصح عن مدى الظلم الذي 
تعيشه «الأنا» حتى إنها تحس بأن رفاهية «الآخر» قد سرفت من حصته 
وأرضه» من هنا ينشأ توترء يؤدي إلى تعزيز الصراع بينهما. 

على الرغم من ذلك حاولت الكاتبة مسحر خليفة في رواية «ربيع حار» 


115 





إشظانلية: الأضا والآخر 


وفتاة إسرائيلية (ميرا)؛ لكن سرعان ما تتهاوى هذه العلاقة بسبب سلوك 
الآخر العدواني؛ الذي عاش في ظل تربية غير سليمة, لذلك ترفض ميرا 
أن تعترف بحق أحمد في الملكية. وترغب في ساب الفلس طيني كل ما 
يملكهء فتبدو كأنها بذلك تقلد تصرف أهلهاء خصوصا حين انسل أحمد 
إلى المستوطنة بصحبة قطته عنبر الحبيبة إلى قلبه لزيارة ميرا . لكن هذه 
القطة تختفي فزعا من الكلب..فيكتشف الفتى بعد أيام أن ميرا سرقتها 
وحبستها في قفص, بمثل هذا التصرف العدواني» جعلت سحر خليفة 
الآخر مسؤولا عن ضياع مشاعر الحب, التي أزهرت في قلب «الأنا» 
وبذلك انتعشت المشاعر السلبية التي ترخي بظلالها بين الأعداء؛ ولم تعد 
ميرا حبيبته الصغيرة الحلوة؛ بل صارت مستوطنة مغتصبة. عندئن عاد 
الآخر إلى صورته النمطية. فنجد أحمد يردد مقولة أبيه «أخذوا كل شيء 
الله ياخذهم» لكن ذكرى المشاعر الجميلة التي خفق لها قلبهء دفعته إلى 
التساؤل التالي: «هل يدعو الله أن يأخذها؟». 

إن.مثشل هذا التساؤل يفصح عن تردد الفتى في اس تخدام لغة أبيه 
العنيفة والكارهة؛ إذ على الرغم من الأذى الذي ناله بسبب سرقة ميرا 
لقطته الحبيبةء لم يندفع في اس تخدام هذه اللغة المتوترةء بل خففها حين 
جعلها مسبوقة بصيغة الاستفهام: لكن مما يساعده على تجاوز هذا 
التردد إصغاؤه لما يقوله الكبار (عيسى) العامل في المستوطنة. الذي 
يعاشر الصهاينة عن قرب» فيخبره إن «اليهود يخصون القططء وممكن أن 
يخصوا البشر» ويذكر أمامه تشبيه أم ميرا الفظء :الذي يهين «الأنا» حين 
يشبهها ب «القطة التي تحمل وتفقس مثل العرب» (5. 

إن معايشة أذى «الآخر» دفع أحمد إلى الإصفاء إلى مقولات الكبار 
الجاهزة: والإيمان بهاء من دون أن يراوده الشك في صحتهاء لهذا لن 
يوجه لهم أسئلة صادمة:؛ كما فعل مع سعاد حين كانت مشاعر الحب تحكم 
علاقته بميرا وتوجه تفكيره. 

تتعمد الكاتبة, التي هي في أعماقها أسيرة لتاريخ العدوان الصهيوني, 
ألا يكون العربي هو السبب في انتكاسة العلاقة الإيجابية بينه وبين 
الإسرائيلي» فقد انحرفت إلى طريق العداوة بسبب سرقة ميرا للقطة. 


116 





افا والآشر اأصهيوني ... 

هنا نتساءل:لماذا لم تجرؤ الكاتبة على تنمية هذه العلاقة لتسير في 
طريق الحب؟لماذا جعلت ميرا هي المسؤولة عن انحرافها؟ لماذا عادت 
بصورة الآخر(المستوطن) إلى تمطيتها؟ وبعبارة أخرى لماذا رضخت الكاتبة 
للنمط الذي ترسمه المخيلة الجمعية العربية عن الآخر المستوطن؟ ترى هل 
أعاق الكاتبة ضغط الواقع والعدوان الإسرائيلي؛ فمنع خيالها من تجاوز 
النظرة النمطية السائدة؟ 

يبدو لنا أن الكاتية لم تستطع الخروج. في أثناء سردها الروائي» من 
إسارما يرسمه الوعي الجمعي من صور سابية للآخرء خصوصا أنها 
تعيش الانتهاكات اليومية للمستوطنين في الآراضي المحتلةء ويبدو أنها 
كتبت «ربيع حار» إثر العدوان الصهيوني على الضفة الغريية:.وما صاحبه 
من مذابح وحصار للرئيس أبو عمار في رام الله. 

لذلك.يمكننا أن نقول: من الصعب على المبدع العربي أن يخرج من 
قهر التاريخ ويحرر ذاكرته من أوجاعه. لهذا نستطيع أن نفهملماذا تقهقرت 
إمكانية رسم صورة إيجابية للآخر فأجهضت العلاقة الندية التي عايشنا 
ملامحها في بداية الرواية بين أحمد وميرا فقد اتضح لنا التحيز الضمني 
ل «الأنا» العريية التي تنتمي إليها الكاتبةء حين جعلت زمام المبادرة فيها 
للفلسطيني: فهو من يتجه نحو المستوطن بمشاعر الودء لكن هذا الآخر 
يهدم جسور العلاقة الودية. فيعد مسؤولا عن إفساد العلاقة الحميمة بين 
العربي (أحمد) والمستوطنة:؛ التي سرقت قطته. 

من هناء لن نستغرب انقلاب مشاعر الحب بين أحمد وميرا إلى 
نقيضهاء ولا بد للمتلقي من أن يلتمس العذر للكاتبةء حين لم تستطع 
تطوير العلاقة بين هاتين الشخصيتين وتمتين الأواصر الإنسانية, 
لترفعها إلى أعلى مستوى. تحلم المخيلة بلوغه؛ كما فعل الكاتب إريك 
إيمانويل شميدت في روايته «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» فقد 
عاشت شخصياته في بيئة سلمية (حي باريسي). مما أفسح المجال 
لتطوير العلاقة بين الفتى اليهودي (موسى) والبقال المسلم (إبراهيم) 
إلى أقصى مدى ممكن, إذ نبض في قلب كل منهما أرقى المشاعر (الأبوة 
والبنوة) تجاه الآخر. 


117 





إشكانية الأنا وال خر 


إن الحياة اليومية الهادئة وزيارة الفتى موسى دكان البقالة التي يعمل 
فيها إبراهيم» أدتا إلى نشوء تواصل إنسانيء خصوصا أن الفتى بحاجة 
إلى من يشكو إليه هموم حياتهء مما يتيح الفرصة للمتلقي للتعرف على 
معاناته من الوحدة, وحمله مسؤولية الكبار» بعد أن هجرته أمهء ويات 
أبوه يعامله بقتسوة: فكان ضحية الحرمان والقهرء الأمر الذي كاد يودي 
به نحو الانحراف والضياعء وقد استطاع حب إبراهيم له بعد أن أحس 
بآلامه ووحشته» أن ينقذهء فساعده على فهم الحياة والناس» ووقف إلى 
جانبه في الأزمات, وبذلك لم يؤد الاختلاف الديني إلى العداوة؛ بل عزز 
المشاعر الإنسانية. ّ 

لقد أزهر بينهما الحب الذي بات وجها آخر للدين: ويذلك انفتح 
المسلم المتصوف على اليهودي معتمدا على تعاليم دينهء التي دعاها المؤلف 
ب «أزهار القرآن» ونظرا إلى أهمية العلاقة بين الإنسان المسلم والنص 
الدينيء فقد جعلها المؤلف جزءا من جماليات العنوانء أي جزءا أساسيا من 
مقولة الرواية ورس التهاء لذلك كانت هذه الدلالة الإيجابية مرافقة للبطل 
(إبراهيم) حتى بات القرآن الكريم منهج حياتهء ونورا يضيء علاقاته 
الإنسانية, لهذا بات ضرورة حياتية وجمالية كالأزهار تماما. 

وهكذا انعكست هذه العلاقة المنفتحة بشكل إيجابي على حياة كل من 
اليهودي والمسلم» إذ بفضلها استطاع إبراهيم أن يجد فيها تعويضا نفسيا 
عن نقص يحسه (فقدان البنوة) إذ لبت أشواقه إلى دفء العائلة. وإحساس 
البنوةء في حين عوضت الفتى (موسى) حرمانه من حنان الأمومة والأبوة. 
لهذا تمتنت العلاقة بينهماء فوصلت إلى ما يشبه العلاقة الدموية بين أب 
وابنه. حتى إن (إبراهيم) سعى إلى إثباتها بالأوراق الرسميةء ليحفظ حق 
الفتى في إرثه ). 

إن هذه الرعاية الأبوية التي يتلقاها الفتى اليهودي من المسلم» 
تدفعه إلى تغيير اسمه (موسى إلى محمد) من دون أن يطلب منه 
إبراهيم ذلك, فقد أراد أن يهرب من ماضيهء ويبداأً حياة جديدة: 
فيتخلص من ذلك الجرح الغائرء الذي مازال ينزف قهرا بسبب هجران 
أمه له وقسوة أبيه. 


118 





الأنا والآخر الصهيوني ... 


إن هذا التفيير في الاسم: باعتقادناء قد يعني انتماء الفتى إلى 
المعتقدات الإنسانية التي وجدها متجسدة في «القرآن الكريم» وهو 
الكتاب الذي أهتاه له إبراهيم» خصوصا بعد أن استطاع أن يعايش تفتح 
أزهار معتقداته في السلوك اليومي للبقالء وقد يعني انتماء إلى الحاجة 
الملحة للدفء الإنسانيء الذي وجده فتى في بداية تفتحه على الحياةء 
فقد سد إبراهيم بحنانه واهتمامه نقصا يعانيه الفتى المحروم من دفء 
العائلة ورعايتها. 

يبدو آن اسم إبراهيم قد اختير عن رغبة في تأكيد أن المرجعية الدينية 
واحدة, لأن النبي إبراهيم (عليه السلام) هو أبو الأنبياء جميعاء يلتقي في 
ظلاله المسلم واليهوديء لهذا بقي اسمه ثابتاء نظرا إلى غنى دلالته. 

وبذلك أفسح الفضاء السلمي المجال لظهور علاقة استثنائية بين 
اليه ودي والمسلم فالتقيا في رابطة ترتقي إلى مستوى العائلة؛ بعد أن 
أزهرت بينهما أجمل المشاعر (الأبوة والبنوة) وشكلت القراءة المنفتحة 
للنص القرآني روح اللقاء بينهما. 

أما في «ربيع حار» فقد عانت سحر خليفةء كما عانت شخصياتها 
من ضغط الواقع المأساوي والتاريخ: فلم تستطع أن نحي جانبا العدوان 
الصهيوني اليومي على أهلهاء كما لم تستطع التحرر من تاريخ الآلام: التي 
عايشها الفلسطيني منذ وعد بلفور (1917) لهذا تعمدت» أن تجعل سرقة 
قطة الفلسطيني في «ربيع حار» معادلة في دلالتها لسرقة وطنه. من هنا 
لن نستغرب محاولة التسلل التي يقوم بها أحمد ليلا لاسترجاعهاء ومن 
البديهي أن يفشلء وتوصم عمليته تلك بالإرهاب: فيسجن:ء ليغادر طفولته 
وأحلامه» ويبدأ ينظر إلى العدو كالكبار؛ فقد عانى قهره مثلهم: سواء أكان 
داخل السجن أم خارجه. 

حين نتأمل الملامح المرعية التي تبدت فيها صورة الآخر العدوء 
نجد أنها مرسومة بأنامل القهر الذي تخنق «الأنا العربية». «هذا عدو 
لا يرحم» بلا حل وسط. يريدك كلك: اسمك» جسمك؛ قلبك» روحك 
حلمك» تراث أجدادك» لن يبقي لك إلا فتاتاء يلقيها تحت الأقدام مثل 
كلب حقير» 0 


119 





إشكالية الأشا وا لخو 


نعايش» هناء عبر لغة العنف» إحساس الإنسان العريي المقهور بعدوان 
الآخرء لهذا تشكل الوحشية واستعلاء القوة ملمحا أساسيا في صورة 
العدو. الذي لا يعترف ب «الأنا» العربية» إذ إن هدفه مس حها من الوجود, 
لذلك يعتدي عليها جسديا ومعنوياء ليعيش على أرضهاء ويعلن نفسه. 
المالك الوحيد لها.. 

يرسم العدوان الصهيوني على الذات العربية ملامح الآخر وتصرفاته 
(سرقة الأرض وتدمير الإنسانء سرقة روح الفلسطيني وتراثه... إلخ) مما 
يوحي لنا أنه يعاني قلقا وجودياء إذ ينخره إحساس بعدم الأمان. لهذا لا 
يحقق وجوده أي إحساسه بثبات هويتهء إلا بسحق المالك الحقيقي للأرض. 
وإذا راودته الرآفة به فقد يحوله إلى مجرد كلب تابع يتلقى.الفتات» التي 
يتفضل بها عليه كأن وجود الفلسطيني بصفته ندا له يلغي أحقيته في 
الأر ض الفلسسطينية لذلك تبدو هذه النظرة الاستعلاتية العدوانيةء التي 
تتفي الذات العربية (صاحبة الأرض) نتيجة حتمية لاغتصاب أرضهاء 
وتحولها إلى آخرء تنفيه في وطنهء بعد أن انتهكت هویتهء وسرقت أرضهء 
مما يهدم إمكانية بناء جسر التفاهم بين الفلسطيني والآخر الصهيوني. 

لهذا لن نستغرب أن تحصر الكاتبة «الأنا» العربية بين طريقين 
(الشهادة, أو الضياع الإعلامي): فإما أن يندفع الفلسطيني الضعيف. وقد 
ضاقت السبل أمامهء إلى البحث عما يؤكد ذاته فلا يجد وسيلة يقاوم بها 
استلابه وعجزه سوى تفجير جسده في عدوه أي الجنود الإسرائيليين (كما 
فعل أحمد) فتتحول العملية الاستشهادية إلى صرخة تعلن وجود الذات 
العريية المهددة بالزوالء والتي منعت عنها الحياة الطبيعيةء مثلما منع عنها 
السلاح: فلم تجد سوى جسدها تقتل به عدوهاء وفي اللحظة التي يتشظى 
فيها الفلسطيني جسديا ينهضء ويمتد وجوده المعنوي ليعلن قضيته أمام 
الملا لعله بذلك يقهر عدوه. ويمعن في زيادة القلق في صفوفه. والأهم 
من ذلك يثأر لاستباحة وجوده وأرضه وكرامتهء وهو يدرك أن استشهاده 
سيحوله إلى رمز لن يطاله الموت. وهو بذلك ينطلق من مرجعية دينية. 
تمزز مكانة الشهيد في المجتمع العربي (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل 
الله أمواتاء بل أحياء عند ربهم يرزقون) (8. 


120 





الأفاوالآشر الصنهيوني ... 


وقد تعمدت الكاتبة أن تجعل العملية الاستشهادية بعيدة عن 
الانتقادات التي توجه إليها عادة حين تستهدف مدنيين:» فقد توجه 
أحمد في سيارته :الفخخة نحو جنود الاحتلال: تعلها تستطيع أن تبرئ 
بطلها من تهمة الإرهاب. 

أما الطريقة الأخرى التي يلجأ إليها الشباب الفلسطيني لمقاومة 
الاسستلاب وفقدان الهوية:.ههي السعي إلى النجومية الإعلاميةء مهما كان 
الثمن (تحطيم القيم العلياء المتاجرة بالقضية...) وبذلك يكون الإعلان عن 
الذات عبر الثرثرة اللغوية بعيدا عن آلام الناس وخدمة قضيتهم (كما فعل 
مجيد) الذي ينسى في زحمة مجده الإعلامي أسرته.وتهديم العدو لبيته 
فتتضخم «أنا» الشاب إلى درجة مرضيةء يدور فيها حول .ذاتهء وينسى 
قضية وطنهء يسساعده في ذلك إعلام يتاجر بالإنسان» ويشوه قضيته: 
فينحرف عن وظيفته في تقديم الحقيقةء وفضح الظلم. 


تجاوزالصورة التمطية للآخر الصهيوني 

إن تجاوز نمطي ة صورة الآخر العدوبيحتاج إلى علاقات إنسانية. 
تستطيع أن تحرر الذات من ضغط التفكير السائد الذي تشكله الذاكرة 
الجمعية للعربي؛ بما تختزنه من أوجاع التاريخ (النكبة والتشرد والهزائم) 
وخيالات مرعية,. كانت نتيجة مذابح ل «الأنا» العربية, مثلما تشكل هذا 
التفكير ذاكرة الآخر. يما تختزنه من أفكار استعلاتية: يربى عليها 
الممستوطن: ومخاوف أمنية تشكل هاجسه اليوميء فيجد :في العدوان على 
الفلسطيني تأكيدا لقوته وتثبيتا لأمنه. 

وبذلك يبدو أن المجتمع الفلسطيني كالمجتمع الإسرائيلي غير مهيأ 
لنمو علاقة حب بين عربي ويهوديةء لهذا وجدنا أحمد يتساءل بعد أن 
رأى ميرا مع متظاهرين من دعاة السلام: «هل.هذا حب أم لعنة؟ هل هذا 
مسموح به؟ ماذا: يقول شيخ الجامع5 وماذا يقول طلية تابلس وا مهجرون 
من قلقيلية؟ ثم تذكر الإحساس بالخيانة حين غدرت به وسرقت عنبر 
(قطته) ثم كان ما كان من سجن وعذاب واجتياحات واغتراب أخيه 
واهتزاز آبیه» (9. 


121 





إشكالية الأنا والأخر 


من هنا ئيس غريبا أن يرفض المجتمع العربي أي علاقة إنسانية مع 
الآخر. فيرفض كل ما يمكن أن يحول العدو إلى صديق؛ لهذا تتحول علاقة 
حب إلى نقيضها (لعنة وكراهية). وبذلك لم يستطع الفتى التحرر من النظرة 
الشائعة؛ التي تضع الآخر (المستوطن) ضمن صورة تؤطرها العداوة؛ مع أن 
ميرا قد كسرت هذا الإطار وبدأت ترفض الممارسة العدوانية للمستوطنين, 
لذلك يتساءل المتلقي: هل الآخر القوي يملك زمام المبادرة في رسم علاقة 
جديدة تنتزع الدلالة السلبية من الصورةء لترسم دلالات جديدة إيجابية؟ 
ألا نجد الشضخصية الضعيفة أكثر عجزا عن زلزلة المألوف؟ فقد لاحظنا 
من خلال شخصية الفتى (أحمد) أن التجارب القاسية (السجن. سرقة 
ممتلكاته...) قد شكلت وعيه» فحرمته من فرح الطفولةء ونقلته إلى بؤس 
الواقع وهمومه. مما ضيع أحلامهء واغتال مواهبهء فامتلأ حقداء ليعيش 
أسير فكرة الانتقام. خصوصا بعد أن أصدر العدو قرارا بهدم بيته لبناء 
الجدار العنصري فوقه» لكننا هنا نتساءل: ألا تعزز الممارسة العدوانية 
النظرة النمطية للآخر (العدو) فتضطرم مشاعر الكراهية تجاهه في 
أعماق «الأنا»؟ ألا تدمر القوة الظالمة أي رؤية إنسانية يمكن أن تنتعش في 
الذات العربية. مما يسهم في تعزيز الصورة السلبية التي تنتشر عن الآخر 
المستوطن في المجتمع العربي؟ 

وقد لمسنا القدرة على تجاوز هذه الصورة في بداية تفتح وعي الفتى 
حين كان بعيدا عن الواقع وعن الممارسة السياسية وعن الوعي التاريخي 
فكان يلوذ بموهبته في الرسم وبأحلام مراهقته» لكن القهر الذي عاناه 
هو وأهله في المخيم في أثناء الاجتياح الصهيوني للضفةء ثم في السجن. 
أفسح المجال لهيمنة مشاعر الكراهية عليهء فكان أن خفقت فكرة الانتقام 

يسجل للكاتبة محاولتها عدم إغراق الرواية في مستنقع الكراهية؛ إذ 
حاولت الإصغاء لأصوات أخرى نقيضة لصوت أحمد فأفس حت المجال 
لتعدد الرؤى (خوري اللاتينء دعاة السلام من أجانب ويهود) لعلها تخرج 
صورة الآخر من قالبها العدوانيء أي من نمطيتهاء وتبحث عن الجانب 
الإنساني الذي تطمره الممارسة العنصرية للعدو. 


122 





الأنا والآخر الصهيوني ... 


صورة دعاة السلام 
خوري اللاقين 

نسمع فيد الرواية صوت رجل الدين خوري اللاتين الذي يتماهى 
مع صوت المسسيح (عليه السلام) في دعوته إلى المحبة؛ فيجسد صوتا 
نقيضا للدعوة إلى الكراهيةء وقد حاور أحمد كي يقنعه بإمكانية التسامح 
والابتعاد عن فكرة الانتقام من العدو. 

يلاحظ المتلقي أن الكاتبة حرصت على بناء علاقة ود قديمة بين 
عائلة أحمد والخوري لتوحي بعمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في 
فلسطين المحتلة؛ لهذا أرسل والد أحمد خوري اللاتين ليحاور ابنه؛ ويقنعه 
بضرورة عودته إلى المدرسةء ' 

لاحظ الخوري قلق الفتى المراهق وحزنه. على الرغم من دوره الفاعل 
في الإسعاف في أثناء الاجتياح الإسرائيلي» فقد سيطرت عليه صور 
العدوان وآلامهء وبدا مهموما بالبحث عن طريقة لواجهتهء لهذا يحاول 
الخوري أن يبين له أن الانحراف عن روح المحبة والاستسلام للضغينة هو 
انحراف عن روح الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي. 

كما يلفت نظره إلى خطورة تعميم النظرة للآخرء ف «الإنسان أحسن 
من أعماله. حتى اليهود...» نجد بينهم من رفض العدوان الصهيوني. 
ويشير بيده إلى الشابة ميرا التي كانت صديقة أحمد. 

يزحزح هنا الخوري الصورة النمطية للآخرء التي تشبثت بذهن أحمد 
كي يستطيع توسيع رؤيته وآفاقه. فيرى وجها آخر للمستوطن. ٠‏ ويتأكن أن 
الإنسان ليس دائما مسؤولا عن أعمالهء فالآخر. الذي يتربى في بيئة 
فاسدة تنيض بالكراهية والرعب والخوف يمكن أن يصدق أن العدوان على 
الغير قد ؛ يحميه» ولكن بعد ذلك يمكن أن يصحو ویندم» وحين يسأله أحمد 
كيفة يجيبه: أن يكون من دعاة السلام والمحبة:؛ حينئذ يمكن أن نخرج 
من هذا العنفء لهذا يكرر مقولة أن الحب هو هدف الكون 19ء مثلما هو 
هدف الدينء وبذلك جسد لنا صوت القيم؛ وكل ما يرقى بالروح من فنون. 

لقد بدا حضور الخوري ثانويا على الرغم من مهمته الإصلاحية 
ورجاحة متطقه» فقد انحصر دوره في أداء مهمة الحوار مع أحمد بناء 


13 





إشكالية الأنا وا لخر 


على رغبة والدهء لهذا لن نستغرب اختفاءه في أثناء الأحداث المهمة في 
الرواية (الاجتياح. الحصار...). لهذا يلاحظ المتلقي أن الكاتبة؛ لم تمنحه 
مساحة مكانية وزمانية مناسبة في الفضاء الروائيء لهذا يفتقد. في حضور 
هذه الشخصية نبض الوافع: فبدت تنتمي إلى عالم المثلء تغترب لفتها 
عن المأساة اليومية التي يعيشها الفلسطيني. من هنا لن نستغرب فشل 
هذه الشخصية في إقناع أحمد كي يعود إلى موهبته في الرسم» ويلتحق 
بمدرسته مثلما فشل في إقناعه بنبذ فكرة الانتقام والعنف. 

هنا نتساءل: لم أخرت الكاتبة ظهور شخصية الخوري إلى أحد 
المشاهد الأخيرة في الرواية (رقم 5)62 كما نتساءل أيضا: لم غيبت صوت. 
رجل الدين المسلم» الذي ألمحت إلى أن أحمد قد لجا إليه؟ أليس من 
المفيد لحيوية الرواية وتعدد الأصوات فيها أن نسمع وجهة النظر التي 
شكلت نقيضا.لوجهة نظر الخوري» والتي يبدو أنها أثرت في أحمد ودفعته 
إلى الاستشهاد؟ هل السبب المرجعية الأيديولوجية المادية التي تؤمن بها 
الكاتبة؟ أم الرغبة في عدم تسليط الضوء على وجهة نظر باتت مرفوضة 
لدى الكثير من الناس في الشرق وفي الغربة 


ميرا وصديقتها الإنجليزية راشيل 

يلاح ظ أن الكاتية أخرت حضور الخوري في الروايةء مثلما أخرت 
حضور دعاة السلام إلى المشهدين الأخيرين في الرواية (66:و67) وهذا 
يسيء إلى بنية الرواية» التي من جمالياتها الأساسية تعدد الأصوات» ضي 
رأييء لهذا بدا للمتلقي الصوت الآخر (المسالم النابذ للعنف) خافتاء فقد 
غاب عن الوجود والتأثير في أحداث الروايةء لكن بدا مؤثرا في المشهد 
الختامي للرواية. مما سلط الضوء على أهميتهء من دون أن يبدو فاعلا 
أساسيا في بنية الرواية. 

يلاحظ أن الخوري يشارك دعاة السلام رؤيتهم الفكريةء وإن اختلف 
عنهم في تبنيه للدينء كان من الممكن أن ينضم أحمد إلى هؤلاء الدعاة 
لولاا حادثة سرقة: القطة وتجرية السجن: كأن الكاتبة تشير بطريقة غير 
مباشرة إلى أن المعاناة التي يعيشها الفلسطيني بسبب عدوان المحتل قد 


124 





الأنا والاش الصهيوضي... 


تقتل أي إمكانية للاتضمام إلى هؤلاء الدعاة, بل تعزز توجهه نحو الشهادة. 
أي ممارسة العنف ضد «الأنا» والآخر معا . 

يبدو في هذه.الرواية أن مشاعر الحب الأولى التي نبضت في قلب 
أحمد لم تمحها مرارات الحياة؛ لهذا غقت تلك المشاعر بضع سنين: لكنها 
سرعان ما استيقظت حين رأى صديقته المستوطنة ميرا تحمل لافتة عليها 
صورة الجدارء لكن المؤلم في هذا المشهد أن الفلسطيني لم يصغ إلى نداء 
تلك المشاعرء بل حاول خنقهاء فقد كان مكبلا بفكرة الانتقام المهيمنة على 
قلبه وعقلهء لهذا رفض أي محاولة للتقرب منهء قامت بها الفتاتان» حتى 
اعتذار ميرا عن سرقة القطة جرح فلبهء ولم يستطع أن يراها بمعزل عن 
عدوان الصهاينةء لهذا ينتقل بشكل مفاجئ من ضمير المفرد «جرحت قلبه» 
إلى ضمير الجماعة «سحقوا ما كان من براءة... أخذوا كل شيء...» كأنه 
لا يصدق وجود فرق بين دعاة السلام والصهاينة المعتدين» حتى ليبدو أن 
الانتماء. في نظرهء إلى جماعة معتدية ينفي إرادة الأفراد الحرةء وبذلك 
يمسخ صورتهم إلى نمط واحد» تتبناه الأكثريةء فيدخل الآخر في قمقم 
مغلق على العدوان والكراهية لا يمكن أن يعرف الانفتاح على الفلسطيني, 
ومد يد العون إليه. 

بررت الكاتبة موقف أحمد المتعنت وغير الموضوعي من الآخرء حين 
حصرته ضمن ظروف قامسية؛ إذ شرقت أرضه. ثم سمع أن الجدار 
سيمر فوق بيتهء كما هزت أعماقه صرخة أبيه المتحدية «الجدار سيمر 
على جسدي». ش 

لم يستطح القلسطيني أن ينسى الواقع المرء كما لم يستطع نسيان 
التاريخ الذي أنجب هذا الواقع بكل مماناتهء لهذا عجز عن تحويل هذا 
التاريخ إلى ذاكرة تتسى.ء أو يمكن أن تختفي تارةء وتظهر تارة أخرى؛ 
حتى لتبدو أي محاولة للتقرب منه يقوم بها الآخر من دعاة السلام 
(سواء أكان يهوديا أم إنجليزيا) موضع شكء إذ تنهال على مخيلة 
أحمد المشاهد القديمة.والجديدة: التي تعزز الصورة العدوانية للآخر, 
فيصبح أسير ذاكرته ومعاناتهء وبذلك لم يستطع أن يخرج صورة الآخر 
من إطارها الجامد. الذي لم يعرف التغير على الرغم من مرور الزمن 


125 





إشكالية الأنا والأخر 


وتيدل الأجيال. إذ يبدو أن مرارة تجارب الماضي مع الآخر المعتدي 
وآلام الحاضرء مازالت تحاصره» فتزيد من صلابة ذلك الإطارء وتمعن 
في تشويه الصورةء لهذا حين تسأله راشيل الإنجليزية: عندك قطة؟ 
لم يجبها إذ «أحس بأنها تستكثر عليه أن يكون لديه قطة أو كلب. 
أليس العرب بلا حس وذوق؟ أليسوا الإرهاب وبن لادن؟... أحس بأنها 
تتقرب منه بدافع الفضول؛ ليس أكثرء أو ريما حقوق الإنسان. أو ريبما 
ثورة مراهقة على أهلها ونظام الحكم أو المجتمع؛ أو بوش وبلير وحرب 
العراقء أو العولة... يعني صدقة... يعني الأقوى ونحن الأيتام مثل 
أمريكا والهتود الحمن (211. 

نعايش هنا هيمنة صوت «الأنا» المقهورة وهي ترسم صورة مبتسرة 
للآخرء فتغفل تطور بعض أفراده باتجاه القضايا الإنسانيةء وبذلك 
لا يدرك رغبة بعض الأفراد. ممن ينتمون إلى الآخرء؛ في الخروج من 
الصورة العدوانية النمطيةء فيطرح على الفلس طيني أسئلة طفولية في 
محاولة للتقرب منه (لديك قطة5 هل تحب القططة). 

لم تبد الكاتبة معنية بإتاحة الفرصة للآخر من دعاة السلام ليعبر 
عن أعماقهء فهي مشغولة بتقديم صوت «الأنا» المقهورة. والتي لا تصدق 
أن الآخر مستهد لتحطيم إطار صورة: احتلت ذاكرته سنين طويلة. 

يلاحظ أن ثمة رغبة لا شعورية لدى الكاتبة في هيمنة صوت 
الذات الفلس طينية على دعاة السلام: لهذا لم نجدهم ينطقون لغة 
خاصة بهم (العبريةء الإنجليزية أو العريية المكسرة) بل تنطقهم 
المحكية الفلسطينية, تقول راشيل الإنجليزية مثلا لأحمد «أنا مالي 
ومالهم ومال بلفور ومال التاريخ5...» ريبما نجد من يقول: إن كثيرا 
من دعاة السلام يتقنون المحكية الفلسطينية: تكن ما يؤكد الرغبة 
اللاشعورية في الهيمتة أن لغة الحوار (بين الفتاتين الإسرائيلية 
والإنجليزية) كانت بهذه المحكية. فمثلا تقول راشيل ليرا «يالله 
نمشي» سبقونا كتير» إذ المفروض أن نسمع لغة الآخر هناء أو على ٠‏ 
الأقل اللغة الفصيحة. التي هي أكثر ملاءمة للتعبير عن بعد الآخر 
عن روح البيكة الشعبية. 


126 





الأنا والآخر الصهيوفي ... 


ريما كانت الذات المستباحة والمقهورة التي تنتمي إليها الكاتبةء تحاول 
التعويض عن طريق هذه الهيمنة اللغوية على الآخرء ذهي تأمل في تسلط 
لغتها مادامت عاجزة عن الفعل المؤثر. 

تعمدت الكاتبة أن تقدم في الخاتمة مشهدا يجمع المتخيل الروائي 
بالوثيقة التاريخيةء كي تبرز وحشية الآخر المعتدي معتمدة على حادثة 
واقعية. أدخلت إليها ملامح متخيلة؛. إذ هجمت الجرافة الإسرائيلية 
على بيت أحمد فوقف والده في وجههاء وتلقى؛ أثناء إبعاده عن 
بيته الإهانة والضرب أمام الجميعء ثم وقفت راشيل (داعية السلام 
الإنجليزية) في وجه الجرافةء فهجم السائق (الضفدعء إنسان الغاب» 
الشبيه بالآلة) وقتلها . 

تستدعي الكاتبة في هذا المشهد حدثا تاريخيا مؤثرا بتفاصيله (وقوف 
ناشطة السلام الأمريكية راشيل كوري) في وجه الجرافة الإسرائيلية. ثم 
استشهادها في 6 مارس 2003 في قطاع غزة) احتفظت الكاتبة باسم 
الفتاة في الروايةء رغبة منها في تخليد تضحيتها من أجل الفلسطينيين 
من جهة: وما يقدمه اسمها من دلالات تخدم رؤية الكاتبة في خلخلة 
الصورة النمطية للآخرء فعلى الرغم من اسم الفتاة التوراتي» الذي يعلن 
عن انتمائها إلى دين الآخرء لكن أفعالها تعلن انتماءها للإنسانء أيا كان 
دينه أو عرقه. حتى إنها قدمت حياتها دفاعا عن الضعقاء. 

يبدو لنا أن تبديل الكاتبة جنسية الفتاة من الأمريكية إلى الإنجليزية 
لهدف دراميء لعلها تستطيع أن توحي بزيادة توتر العلاقة بين الفلسطيني 
والغربي, نظرا إلى دور الإنجليز في حدوث النكبة. صحيح أن كلتا الدولتين 
تتسمان بمواقف عدائية تجاه العرب ومساندة مطلقة لإسرائيلء لكن 
الذاكرة العربية تحمل إنجلترا وزر جريمة تاريخية كبرى, ارتكبتها بحقهاء 
هي الإسهام في قيام الكيان الصهيوني. 

أما تغيير مكان الحدث التاريخي من قطاع غزة إلى الضفة الغربية. 
فقبسبب أن أحداث الرواية تجري فيهاء ولا ننسى أن الكاتبة نفسها 
تنتمي إليهاء فهي ابنة نابلس المكان القريب إلى نفسهاء لهذا اختارته 
فضاء روائيا لها. 


127 





إشكانية الأضا والآخر 


إن ما يلفت النظر في المشهد الختامي للرواية هو طفيان (صوت 
الاستشهادي أحمد) حتى تكاد تختفي الأصوات الأخرىء لعل الكاتبة 
تخاطب المتلقي الفلسطينيء وتعلن وجهة النظر المقموعة من العالم أجمع؛ 
مع أن كثيرا من أبناء المجتمع الفلسطيني. مازال متحمسا لها . 

لكن المتلقي يستغرب لغة أحمد في وصف بكاء ميرا على صديقتها 
«كانت تبكي وهي صغيرة: بكت من الخوف لا من ألمه. لم تبك عليه... 
والآن تبكي من عسكرها هي ومن خلفها . يا بنت الكلب كم أحببتك» تبكين 
الآن؟ دموع التماسسيح. أنت جميلةء وكم أحببتك... لكن في هذا الجو. لا 
في بيئة ولا في جمال ولا في إنسان. في عسكر في دبابة وأبي يبكي مثل 
الأطفال..» (12). 

يحس المتلقي بأن لغة الفتى لغة حاقدة ومتوترة. قد لا تنسجم مع رسم 
البعد الإنساني للشخصية: لكننا نتساءل: هل السبب عمر الفتى؛ الذي لم 
يتجاوز سن المراهقة؟ آم لأنه بات محاصرا في قوالب فكرية جامدة تلغي 
إنسانية الآخر لشدة معاناته منه؟ 

لم يستطع الفلسطيني المراهق إخراج الآخر من صورته النمطية: لهذا 
لم يتعاظف مع بكاء ميرا على صديقتها راشيل التي بذلت حياتها دفاعا 
عن الفلسطينيين: بل تبدت لنا لغته مقيدة بالكراهيةء لذلك بدت العبارات 
التي وصف بها ميرا ذات دلالة مسلبية (بنت الكلب» دموع التماسيح) مما 
أدى إلى نفور المتلقي من شخصية (أحمد) التي قتلت الالام رهافة حسهاء 
وبدت لا تفكر إلا في معاناتهاء من دون أن تنظر إلى الآخر بمعزل عن 
أفكار مسبقة جامدة. 

لكننا نتساءل: ألا يبرز هنا قلق الكاتبة واضطراب رؤيتها في رسم 
الشخصية الاستشهادية: فتيدو تارة بصورة منفرة: حين استخدمت لغة 
عنيفة في وصف الآخرء وجذابة تارة أخرى» حتى لتبدو مهيمنة على 
الأصوات الأخرى؟ وإن كنا نسجل للكاتبة حساسية مرهفة.في رسم 
الشخصيةء حين جعلتها تعيش في فترة عمرية (المراهقة) مضطرية الرؤية. 

كأن الكاتبة تريد أن تلمح إلى أن الظلم والقهر اليومي اللذين يعانيهما 
الفلسطيني. قد يحرفه عن المشاعر الإنسانية الطبيعية, والرؤية المتوازنةء 


128 





الأنا والآفر الصهيوضي ... 


ويجعله ضحية فكرة واحدة لا يرى الخلاص في سواهاء هي فكرة الانتقام 
من العدو لهذا ينعطف أحمد في سيارة الإسعاف على مجموعة من 
العسكر الصهيونيء فصاح الأب «ابني استشهد. وفي اليوم التالي سمعنا 
الخبر. قالوا: إرهاب». 

حاولت الكاتبة أن تجمع في الجملة الأخيرة للرواية الرؤى المتناقضة 
حول عملية أحمدء فالفلس طيني يراها «استشهادا» في حين يراها العدو 
«إرهابا» كأنها تريد في الخاتمة إشراك المتلقي في اختيار اللغة التي تصف 
عمل أحمد وتفصح عن رؤيته الفكرية والوجدانية, أي اختيار الدلالة التي 
يتبناها في حياته. 

وكي تكسر الكاتبة الإطار النمطي لصورة الآخرء حاولت أن تجمع 
في المشهد الختامي بين استشهاد الفلسطيني وداعية السلام (راشيل) 
التي نعاها خوري اللاتين ب «القديسة المسيحية» أما أحمد فيصرخ في 
لحظة استشهادها «ابنة تاتشر صارت منا» بعد أن رأيناه في مشهد سابق 
يرفض قهوتها أو السير إلى جانبها في المظاهرةء وبذلك أزاح دمها الحاجز 
النفسي بين الغربي والفلسطينيء بعد أن حوصرت بين جدران أحكام 
مسبقة. فألصق بصورتها النمطية التي رسمها لها آثام أجدادها العدوانية 
(بلفورء تاتشر) بل وجدنا أحمد ينفر من اسمها المستمد من التوراةء ويثير 
شكوكه في صدق انتماتها إلى دعاة السلامء لهذا جاء استشهادها تأكيدا 
لصدق هذا الانتماء وروعته. 

امتازت «ربيع حار» بحيوية تقديم إشكالية «الأنا» والآخر. بفضل تعدد 
الرؤية وغناهاء فقد استشهد أحمد المؤمن بأهمية الدين في الحياةء مثلما 
استشهدت راشيل غير المتدينة (والتي تؤمن بالضمير الإنساني) وبذلك 
تمت لدى سحر خليفة خلخلة النظرة التقليدية للأنا وللآخر. وذلك حين 
خلخلت المرجعية الأيديولوجيةء فانتزعتها من ثباتها القيمي» وسعت إلى 
تقديم رؤى فكرية متعددة (دينية وعلمانية) كلها تصب في نصرة قضية 
الإنسان المظلوم: ولم تكن هذه النظرة حكرا على العربي المتدين؛ فقد 
عايش المتلقي العربي شخصيات غريبة عن موروثاته التاريخية والدينية, 
لكنها تنتصر لقضيته؛ بل تدفع حياتها من أجل الوقوف إلى جانبهء كما 


129 





إشكالية الأنا والآخر 


فعلت راشيل التي جس دت لنا عبر تضحياتها نموذجا مدهشا للآخر 
الفربي: الذي يتخن مواقف مساندة ل «الأنا» انطلاقا من أفكار إنسانية؛ 
يؤمن بهاء وإن كان يحق للمتلقي أن يلوم المؤلفة لسرعتها في تقديم هذا 
النموذجء إذ لم يظهر إلا في المشهد الأخير للرواية. 

هنا تتساءل: لماذا ركزت سحر خليفة الضوء في تقديمها لدعاة السلام 
على العنصر النسائي (ميرا وراشيل) ولم تهتم بالذكور. هل هي رغبة لا 
شعورية لدى الكاتبة في منح المرأة دورا رئيسيا في صنع مستقبل سلمي 
للكون؟ هل هو الحماسة للدور الريادي لبنات جنسهاة 

هل يمكننا أن نقول هنا إن الكاتبة التي أصدرت روايتها (2004) قد 
وقعت تحت تأثير الحدث الدرامي (قتل الناشطة الأميريكية) أمام وسائل 
الإعلام (2003)؟ 

هنا يتبادر إلى ذهننا السؤال التالي: ناذا لم تسلط الضوء على ذكور 
غربيين اعتدى عليهم الصهاينة كالمصور البريطاني توم هرندل؟ هل هي 
النزعة النسوية التي هيمنت على الكاتبة. ومنحت إبداعها خصوصيته؟ 


130 





سؤال الهوية في مرآة الآخر 
لدى عبدالرحمن منيف 
في ثلاثية «أرض السواد» 


قدّم الروائي السعودي عبدالرحمن 
منيف في ثلاثية «أرض السواد» بلدا 
آحبه» هو بلد أمه العراقية: فاس تطاع 
أن يقدم «الأنا» في لحظة تاريخية 
مأزومة. تبحث فيها عن تألقهاء بعد 
محاولتها الخروج من شرنقة التقوقع 
والتخلت» لتبحث عن هويتها الحضاريةء 
وقد بدا الروائي مهموما بتجسیدهاء 
عبر روايته التاريخية هذه خصوصا 
ارا ور 
الشعبي المتفاعل مع اللفة 
الدينية فقطء بل لأنها تجسد 


روح الإنسان البسيط (الخيّر) 
الذي ينفر من الأذى» 


بعد أن اشتدّت هجمات الآخر الغربي 
(العسكرية والثقافية) على العراق منذ 
القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي 
والعشرين: وبذلك آلمه انتهاك كرامة 
«الأنا» ومسخ وجودهاء وخاف من 





المؤلفة 


131 





إشكالية الأنا والآخر 
عجزها أمام تسلط القوة المستبدة المحلية والغريية معاء فحاول عن 
طريق الإبداع أن يبحث عن طريقةء يحقق فيها العراقي ذاته؛ ويثق 
بإمكاناته؛ كي يستطيع مواجهة كل تلك القوى الظالمةء التي حاولت 
القضاء عليهء لهذا بات اليوم سؤال «من أنا»5 أكثر إلحاحا من أي وقت . 
على وجدانه» إذ بدأ الروائي يخاف أن يضيّع الإنسان العربي ذاتهء 
هفتضيع خصوصيته وهويته. 

وهكذا بدا سؤال الهوية ملحا على مخيلة الروائي في فترة تاريخية 
عصيبة, بعد حرب الخليج الثانيةء فقد بدأت الدولة العراقية بالانهيار, 
وزادت معاناة «الأنا» من قهر الاستبداد الداخلي والخارجي. 

من هنا نستطيع أن نلمس في «أرض السواد» محاولة لفهم إشكالية الأنا 
في علاقتها مع ذاتها ومع الآخرء وقد هرب عبدالرحمن منيف من أجل 
تجسيد هذه الإشكالية إلى بدايات القرن التاسع عشر (1817 - 1831) 
حيث ظهر وال طموح للنهضة هو داوود باشا يذكر المتلقي ب محمد علي باشا 


سؤال الهوية هوسؤال «الأناء 
«الأناء ودلالة العنوان 

تحمل «أرض السواد» دلالات مدهشة: فهي تأخذ المتلقي إلى عوالم 
مضيئة بخصويتهاء فالسواد في «لسان العرب» جماعة النخيل والشجر 
لخضرته واسوداده. وقيل إنما ذلك لأن الخضرة تقارب السوادء فالعراق 
فضاء أ خضر وسط صحراء شاسعة. كما يمكن لهذا العنوان أن يوحي بدلالة 
أخرى تحيل على علاقة الأرض بالإنسان العراقيء» الذي ألف السوادء مما 
يوحي للمتلقي بميراث الأحزان الذي خيّم على «الأنا» العراقية بسبب 
السلطة المستيدة. وأطماع الأجنبي» والطبيعة القاسية (الفيضان). على 
الرغم من ذلك استطاعت هذه «الأنا» أن تشيد أول حضارة على سطح 
الأرض منن أكثر من ستة آلاف سنة (الحضارة السومرية) لهذا منح السواد 
خصوصية تتجلى في الإبداع الحضاري ل «الأنا» وفي تفاصيل حياتها 
اليومية والوجدانية. 


132 





سوال الهوية في مر؟: الآهر... 


وقد توحي «أرض السواد» باهتمام الروائي بمجموعة من الشعب» 
أي السواد الأعظم منهء الذي يشكل «الأنا الجمعية» لذلك تس تحق أن 
يمنحها البطولق لهذا لا يمكن أن تعد ثلاثية «أرض السواد» رواية تاريخية 
تقليدية. تسلط الضوء على الحاكم فقط؛ بل نجده ا مهمومة بأولئك 
الصتاع الحقيقيين للتاريخ, الذين كان نصيبهم الإهمالء وبذلك تتحوّل 
الرواية لدى «منيف» إلى «تاريخ من لا تاريخ لهم» على حدّ قوله. 


الأنا الجمعية 

يرى عبدالرحمن منيف أن الرواية «فن التفاصيل الموحية» لهذا جهد 
من أجل أن يقَدّم لنا الهوية الجمعيةء التي تتجلى عبر الإنسان البسيط 
الملتحم بتفاصيل بيئته الشعبيةء يستمدّ منها مكامن قوته وجمالهء لذلك بدا 
مبدعا لكثير من الفنونء على الرغم من أميّته. ربما لأنه قد تغذَّى الجمال 
من حضارته العريقةء مثلما تغذْى الحكمة الشعبية من ثقافته الشفهية 
التي تسود مجتمعا يعزز الحب بين الفقراءء مثلما يعرز التعاون ومقاومة 
الظلم! مما أتاح الفرصة للمتلقي كي يتعرّف على مكونات الشخصية عبر 
موروثاتها الثقافية. سواء المكتوبة منها أو الشفهيةء فيعايش إسهامها في 
توحيد وجدان العراقي» كما يعايش تنوع «الأنا» فيس تطيع التعرّف على 
أبعادها الجغرافية والتاريخيةء وقد امتزجت بأبعادها الواقعية والتخييلية, 
والأهم من ذلك كيف استطاع هذا التنوع أن يسهم في خصوصية الشخصية 
وقوتهاء من دون أن يكون عامل ضعفء كما قد يتبادر إلى الذهن. 

صحيح أن الأحداث التي حاصرت «الأنا» تنتمي إلى تاريخ زمن مضى 
في القرن التاسع عشر لكن اللغةء بما تمتلكه من حيوية الدلالة وغناهاء 
استطاعت أن تمد ظلالهاء لتأخذ بيد المتلقي» وتنقله من الماضي إلى الحاضر 
والممستقبل؛ ليعيش أجواء زمنين: زمن مضى» وزمن يعيشه» ويحلم بتغييره, 
وبذلك تصبح شخصيات الرواية جزءا من نبض الحاضر وأحلام المستقبلء 
إذ تمتدٌ معاناة «الأنا» التاريخية إلى اللحظة التي يعيش ها المتلقي. خصوصا 
أن الآخر قد حضر في صورة «غاز» فتكون المواجهة حتمية بينه وبين «الأنا» 
فالعثمانيون طغوا في فرض الضرائب» في حين منع الإنجليز وصول الغذاء 


133 





إشكالية الأنا والآخر 


إلى الشعبء مما يذكر المتلقي بالحصار الاقتصادي الذي تعرّض له الشعب 
أواخر القرن العشرين. من دون أن يؤثر في السلطة المستبدةء وبذلك تلتحم 
هموم الإنسان العراقي في الماضي بهموم حاضره؛ فتحس «الأنا» الشعبية, 
التي توحّدت مع المتلقي» بأن تغيّر الزمان لم يحمل معه تغير المعاناة من الآخر ‏ 
ومن الاستبدادء لكن خوفا ينتاب حكماء بغداد وشيوخهاء وهو أن تغيّر هذه 
المعاناة النفوس» وتشوّههاء إذ يستسلم العراقي لظلم الولاة والغرياء. عندئن 
يبدأ في ظلم نفسه؛ ويضيّع كرامته. ويمسخ وجوده. 

إن «الأنا» الجمعية هي تجسيد ل«النحن» التي تمل أبتاء الشعب» 
الذين يتجلّون في اجتماعهم في فضاء واحد؛ يعد الأكثر حضورا وتأثيرا 
في الرواية. هو «مقهى الشط» الذي شكل بيئة مناسبة لانطلاق أصوات 
الناس جميعا من دون خوفء لتعبّر عن أحزانها وأحلامهاء فنسمع الشكوى 
من الظلم الذي يحاصرهاء كما نسمع نقدا للمستبد والإنجليز وكل من 
يعاونهم؛ لهذا شكل فضاء المقهى محورا مهما في الرواية يمثل «شيئا 
عزيزا ومتميزا في هذا الصوب... لا يعرف كيف أصبحت قهوة الشط 
هي قلب الكرخ. حتى إنه لا يُذكر هذا الصوب إلا ويعني الكثيرون القهوة 
بالذاتء بما تثيره في الذاكرة من مواقف تعبّر عن نمط للحياة والعلاقات, 
إضافة إلى أن عددا من الناس الذين لا يغادرونهاء حتى يرجعوا إليهاء 
ويفعلون ذلك عدة مرات في اليوم الواحد...» (0, 

يتخلى المكان عن حيادته الجغرافيةء كما يتخلى عن دلالته السلبية 
(مكان يقتل فيه الوقت) ليصبح قلباء ينبض بهموم الناس وأحلامهم 
وينطق بضمائرهم» لهذا يسود فيه ضمير الجماعة الذي يلحق الأمسماء 
«الكثيرون» والأفعال «لا يغادرونها حتى يرجعوا إليها». 

وبذلك يتخلى المكان عن عاديته. أي عن ناسه السلبيينء إذ بات «المقهى» 
فضاء مغسولا بالألفةء يلوذ به الجميع» سواء أكانوا باحثين عن الراحة من 
العمل الشاقء أم عاطلين عن العملء أم من أعوان السلطة ومعارضيهاء ومما 
ساعده على احتلال هذه المكانة اجتماع الواقع فيه بالرمزء إذ إن موقعه في 
قلب المدينة يتيح له أن يجمع الدم الفاسد بالنقيء فيضم أعداء الشعب. 
مثلما يضم حكماءه. الذين يبون الوعي فيه ويقودونه في محاولة البحث 


134 





سؤال الهوية في مرآة الآخر... 


عن الحقيقةء لهذا تنبثق منها سلطة الضمير الشعبيء بما يملكه من حكمة 
موروثة وحس فطريء حتى بدا هذا الفضاء على الرغم من شعبيته أشبه 
بمحكمة يلوذ بها الحالمون بالعدل من أمثال «سيفو» مثلما يعيش في كنفه قادة 
مذهلون ك«صاحب القهوة» الذي يتبدى زعيما شعبياء يعايش آلام الفقراءء 
فيرفض رفع الأسعار على الرغم من ارتفاعها في السوق, إنه الزعيم الحلم. 
الذي يجسد روح «الأنا الجمعية» فيلتحم بأبناء شعبه» ويرى مصاحتهم قيل 
مصلحته. لذلك باتت هذه القهوة روح الإنسان البسيطء تكاد تحتضن أطياف 
الشعب كلها فتسهم في إبراز شخصيات فذة. حتى صار هذا المكان أقوى 
منافس لسلطة الدولةء بل صار «سرايا ثانية» في نظر الوالي؛ الذي أحس 
بخطرها على حكمه؛ لهذا اختار لها الروائي موقما سامياء يأسر القلوب «في 
أعلى القمة» يحوطه الجمال بخضرته ونهره. 

وقد أتاحت الرواية للمتلقي معايشة وحدة «الأنا» على الرغم من تنوعهاء 
فقد أسهمت جميع الطوائف والأديان في صنع الجمالء وحماية العراق 
من الكوارث الطبيعية. ومواجهة الغزاة. وقد تعمّد الروائي تجسيد وحدة 
الروح الشعبية ورقيها الحضاري؛ حتى بدت جلية لعين الغريب (القنصل 
ريتش) إذ لمت شمل الإنسان العراقي على الرغم من تعدد أعراقه وطوائفه 
وأديانهء لهذا أدهشه تمازج أبناء العراق وانفتاح بعضهم على بعضء. حتى 
إنهم يحتفلون جميعا بعيد الفصح. فنسمعه يقول: 

«يبدو أن هذا العيد بالنسبة إلى السكان مسيحيين ومسلمين؛ أكثر 
من مجرد طقس دينيء ريما تكون لهذا العيد جذور أسيق من الديانات 
السماوية, لأن مشاركة الجميع فيهء ثم طريقة احتفال الناس تجعل الإنسان 

يتساءل: آليس هذا هو عيد الخصبة (2), 

لا يؤدي تنوّع السكان (الديني والطائفي والعرقي) إلى تدمير المجتمع 
العراقيء إذ يشكل التراث الحضاري القديم عامل وحدة بين أبنائهء لأنه نبع 
يغذي التراثين الممسيحي والإسلاميء ليس في الأعياد فقطء بل في مجالس 
العزاء التي تقام كل عام من أجل البكاء على الحسين حفيد رسول الله صلى 
الله عليه وسلم» فتكون هذه المشاركة جزءا من اللاوعي الجمعيء الذي يمتد إلى 
فترة سحيقة في تاريخ العراقء حين كانت طقوس الأحزان تقام من أجل تموز. 


135 





إشكاليية الأنا والآخر 


وقد بذل الروائي جهده في تجسيد دور الإرث الحضاري في تواصل 
العراقيين بصورة مدهشة, فثبذت الهويات القاتلة: إذ لم يقف تمايز «الأنا» 
الدينية أو العرقية أو المذهبية حائلا دون توّحد المشاعر إزاء رموز المرجعيات 
المختلفة واحترامهاء فنأت بنفسها عن ثقافة الكراهية ونبذ الآخر المختلض ' 
والاستعلاء عليه حتى إننا وجدنا «نعيم» يدعو أمه الحزينة إلى أن تفرّج 
همها بزيارة قبر أبي حنيفة وقبر الإمام الكاظم» من دون أن يفرق بين إمام 
للشيعة وآخر للسنة, فهذه الأماكن؛ التي يعبد فيها الله تعالىء تُشيع السلام 
في النفوس جميعاء بفض النظر عن الانتماءات الضيقة, لذلك احتلت مكانا 
رفيعا في الوجدان, وباتت موثلا للروح الحزينة؛ تشد من أزرهاء وتبث فيها 
السلوى والعزاءء لهذا يلاحظ المتلقي أن هذا التنوع الديني أو الثقافي أو 
العرقيء لم يؤد إلى تناحر سكان العراق؛ بلء إلى نقيض ذلك» أوجد تلاحما 
اجتماعيا وهوية جمعية منفتحةء ينتسب إليها الإنسان العراقي. 

وقد تجلى هذا التلاحم الاجتماعي بصورة مدهشة حين تعرضت فيها 
«الأنا» الجمعية للخطرء عندئذ تختفي الفردية: لتصبح جزءا من ال«نحن» 
فمشلا في أثناء الصراع مع الطبيعة تجلّت هذه الهوية؛ أي الضمير الجمعي, 
في لحظة مواجهة الموت عبر مشهد «الفيضان» حيث نسمع الأصوات التي 
«تخلع القلوب» ومع هذه الحركة الجبارة, كانت أكوام التراب المرتفعة, تذوب 
كما يذوب الملح في الماء... ظلت المياه هكذاء لساعات وساعات» وكل لحظة من 
هذه اللحظات دهر بأكمله, امتداد لا نهاية له وخوف ينغرز في العظام؛ وكل 
لحظة من هذه الساعات عجز وعيء وكأن الإنسان لم يعرف من قبل الحركة 
أو الكلام» وليس هناك أي رغبة سوى النجاة. فإذا لم يستطع, فأن يأتي الموت 
سريعاء وينهي دهر العذاب الطويل... كانت الأصوات تتردد برتابة. تتداخل. 
تتصادم؛ لتصبح في النهاية نشيدا حزيناء له بداية لكنه لا ينتهي؛ وكله رجاء 
وتوسلء وكله عهد أن يصبح الإنسان شفافا مثل أجنحة الفراش...نقيا كماء 
السماء. محبا ودودا مثل يمام المساجد..» (6. 

عايشنا في هذا المشهد «الأنا» الجمعية في لحظة ضعف» إذ وجدت 
نفسها محصورة بين السماء والماءء لهذا لن نستغرب طفيان لغة الخوف 
والتوسل والرجاء عليهاء لكن سرعان ما تتحول لحظة الرعب إلى لحظة 


136 





سؤال الهوية في مرآة ا3 شر... 


صمود في وجه المجنء فتواجه هول فيضان النهرء وقد انعكست هذه 
الهوية على رد فعل الإنسان» فقد نما إحساسه بالآخر» حتى بزغت هوية 
جماعية: تلتحم فيها «الأنا» بال «نحن» إذ سادت هذا المشهد لغة ذات 
صيغ عامة (الناس, الإنسانء القلوب...). فلم نعايش وقع المصيبة على الفرد 
من دون الجماعة؛ فقد امتزجت الروح الفردية بالجماعية في أثناء مواجهة 
الكارثة» عندئذ برزت الروح العراقيةء وقد وحٌدتها الشدائد. كأن الروائي 
يستشرف هم الحاضر بعد حرب الخليج الثانية «وما تلاها من احتلال 
أمريكي للعراق» فاس تخدم رمز الفيضانء ليوقظ الروح الجماعية في 
مواجهة طوفان الواقع وتمزقه. فيس هم في إحياء هذه الروح عبر تقديمها 
في لحظة فعل؛ عاشها الإنسان العربي؛ حتى باتت جزءا من تاريخه. 
وقد سعى الروائي إلى تجسيدها في مشهد الفيضان, لعلها تشكل نبض 
حاضره ومستقيله. 

هنا لا بد أن نتساءل: هل يمكن أن يوحي اس تخدام اللغة ذات الصيغ 
العامة بأن ما يشغل بال الروائي هو الجانب التأريخيء الذي يجسد روح 
الجماعة في لحظة فعلء يتمنى إسقاطها على الحاضر المأزوم والمهدد 
بتشتت هذه الجماعة5 أي يبدو الروائي مشغولا بهم الحاضرء يريد أن 
يسبغه على الماضيء كي يعزز الروح الجمعية لدى العراقي» في لحظة يهدّد 
الآخر (الأمريكي) هويته: أي وجوده» بالتشظي. 

حاولت الرواية أن ترصد وجدان الشعبء ومكونات هويتهء لهذا قدّمت 
موروثاته الشعبيةء التي تشكل الغيبيات أعماق الأنا الجمعيةء فقد استطاع 
الروائي أن يُحكم الصلة بينها وبين مظاهر الطبيعة وهموم الحياة (نظام 
الحكم مثلا) «هذه السنة جاء الفيضان أيضا. لكنه جاء مترددا خجولاء 
فارتفاعات النهر التي توالت مرة بعد أخرىء» لم تصل إلى حدود الخطر.. 
وقد فسّر الناس الأمر بالطالع الخيّر للوالي» وأن أيام الخير لا بد أن 
تتوالىء وقد تزيدء وفي ذلك تعبير عن رضى السماء». 

إذن تبدو الأنا الجمعية متفائلة بمجيء حاكم جديد لأرض السوادء 
لأن الفيضان لم يحمل الدمار كعادتهء فبدا «مترددا خجولا» يحمل سمات 
الإنسان المسالم؛ مما شكل حافزا للاستبشار بالخير بمجيء (داود باشا) 


137 





إشكالية الأذا والآخر 


فقد انعكست مظاهر الطبيعة على حياتهم: فكأن الله أرسل رحمته 
متجسدة في عدم حدوث الفيضان» ومجيء حاكم عادلء مما يحقق لهم 
أمنا داخلياء ويجسد أغلى أمانيهم» فيشعرون برضا الله عليهم». 

يتجسد. هناء المخيال الشعبي جزءا من وعي الناس, فقد تيقظت ' 
أحلامهم في بزوغ حاكم عادل؛ يحقق لهم الأمن والرخاء؛ حتى وجدوا في 
الطبيعة معادلا فنيا له فقد هادنهم النهرء ولم يمسّهم شر فيضانهء فكان 
ذلك بشرى دلالةء توحي بأن الخير سيصاحب مجيء الحاكم الجديد. 

لكن هذه الأحلام تتوارى حين تحاول الرواية تجسيد «الأنا» الفردية, 
فتتبدى معاناتها بسبب السلطة القامعةء التي تنتهك حريتها. وتجهض 
أحلامهاء فقد نفى داود باشا الشاب بدري في حين نجد السلطة العسكرية 
«سيد عليوي» قد اغتاله. حين فكر في التحرر من الجيش. ورفض أن يكون 
جزءا من مؤامرة تطيح بالحاكم: لذلك انتشر السواد بأبعاده الحقيقية 
والمجازية في أرض العراق. 

لم تنقل لنا «أرض السواد» حياة «الأنا» العراقية ضي لحظات استشائية 
فقطه بل نقلتها أيضا في حياتها اليومية: فوّثقت لعادات عاشتها في 
الماضيء وانقرضت. كالحصول على المياه عن طريق «السقا» وكيف 
يتنافسون على العامل الجید» فلا يكتفون بإغرائه مادياء بل يغرونه معنوياء 
فيذكرون «فضائل من يقدم الماء ويسقي العطاش, وكيف يرفع الناس أيديهم 
إلى السماء بالدعاءء وحتى الحيوانات والطيورء ترفع رؤوسها شاكرةء بين 
رشفة وأخرى امتنانا لمن سقاها...» 

تدرك «الأنا» أن الماء أساس الحياة» لهذا ترفع من شأن «السقاء إذ إن 
عمله لا يقدر بثمن ماديء لهذا يلجأون إلى الدعاءء حتى الحيوانات تعبّر 
عن امتنانها له. ليس فقط بعد انتهائها من الشرب» بل بين رشفة ة وأخرى. 

إن هذه المبالغة في تصوير شأن «السقا» لدى الإنسان والحيوان, 
تدفعنا إلى التساؤل: هل توحي بمسكوت عنهء يخفيه اللاشعور الجمعي؟ 
إذ مازال الوجدان العراقي يضطرم حزنا على استشهاد الحسين حفيد 
رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وهو عطشان في كربلاء. لذلك يقدّر 
أعظم تقدير من يحمل له الماء. وينجيه من الموت عطشا. 


138 





سؤال الهوية في مرآة الآفر... 


هنا استحضر «منيف» روح الشعب» فهو ينطلق من إيمانه بأن الرواية 
الجيدة هي تلك التي «تستلهم موروثاء و... تمد جذوراء و... تكتسب 
طرائق وصيغا من الأرض والناس. و... تتوجه إليهم في نفس الوقت. 
ومن هنا فإن معرفة الموروث الثقافي للش هبء ومعرهة الواقع» يمكن 
أن يمساعدا! معا في خلق رواية من نمط جديد. ليست امتدادا للرواية 
الغرييةء وليست استحضار أساليب عصور ميتةء وهذا أحد التحديات 
في المرحلة الحالية...» (5. 

لذلك اعتتى منيف بتقديم «الأنا» الشعبية عبر جملة من التفاعلات 
اللفظية؛ التي تبدّت عبر «التناص الشعبي» مما يجسّد بصورة أكثر حيوية, 
روح البيئة والإنسانء مثل رش «زينب كوشان» الملح؛ الذي وضع لردّ اعتداء 
القنصل الإنجليزي «ملح العباس يش قي ويعمي كل من لا يحب الفقراء 
ومن يحمي الضعفاءء ويقول لا إله إلا الله. يشفيه ملح العباس» ويعمي كل 
ظائم وابن حرام»ء وكل واحد يأكل حقوق الناس». 

تدهشنا حيوية اللغة ليس بسيب ارتباطها بالموروث الشعبي المتفاعل 
مع اللغة الدينية فقطء بل لأنها تجسد روح الإتسان البسيط (الخيّر) 
الذي ينفر من الأذى؛ فلا يعمّم دعاءه:؛ أو بالأحرى كراهيتهء على كل من 
يختلف معه في الفكرهء أو الدين أو المذهب. بل يعلن كراهيته لكل من هو 
مؤذء بغض النظر عن انتمائه أو عرقه. وبذلك تبدو دلالات «ملح العباس» 
بعيدة عن النظرة الضيقةء قريبة من روح الإسلام المتسامح. ويمكننا أن 
نشير إلى أن قرابة «العباس» للرسول «صلى الله عليه وسلم» ومقتله في 
موقمة كريلاءء أتاحت له مكانة رفيعة في وجدان العراقيين بغض النظر 
عن طوائفهم. 


خصوصية الأنا 

إذا كان الآخر (الديبلوماسي الإنجليزي ريتش) حاول أن يفهم 
الخصوصية العربيةء ليجعلها مفتاحا لفهم أعماق العراقي؛ فهو ممن 
يؤمنون بأن الاستيلاء الروحي على الإنسان. يعد مقدمة لهزيمتهء 
والاستيلاء على ثرواته وأرضه؛ من هنا وجدنا لدى السلطة الحاكمة رغبة 


139 





إشكالية الأنا واكآخر 


في حماية خصوصية «الأنا» وعيوبها عن أعين الغرياءء لهذا رأت أنه ليس 
من حق القنصل الإنجليزي أن ينتقل من مكان إلى آخر على حريته. كي لا 
يطلع على «مخازيناء ©). 1 

إذا كان «الآخر» معنيا بالبحث عما يدهشه من فضائح وعيوب فإن 
صوت «أنا» الشخصية «المتماهية مع صوت الراوي تارة ومع صوت الروائي 
تارة أخرى» أفصح عن جمال هذه الخصوصية, التي تجلّت بعض ملامحها 
في الغناء العراقي, الذي يمتلك بصمة خاصة تجمع الإيقاع بالحزن. فكأنه 
صورة للروح العراقية, التي يشكل الحزن أبرز ملامعهاء فصوت «ثامر» 
«يذيب الحجرء ويحرّك أحزان الروح... على الرغم من الحزن والصعويات 
التي اجتاحت بغداد مرة بعد أخرى, فقد كان ناس المدينة يجدون بعض 
العزاء أن ثامر لايزال بينهم, وأنه يغني حزنهم. ويعتبرون أن الحياة مهما 
ضاقت أو قسبت,. فهناك من يستطيع أن يلتق ط اللحظات المضيئة التي 
تجعل الحياة أقل صعوبةء وتذكر أن أياما جميلة مرت ذات وفت» وآن أياما 
مثلها قد تأتي» (2), 

تيدود«الأًنا» العراقية في لحظة تبحث فيها عن الفرح. تقاوم بها 
أحزانهاء فلا تجد سوى صوت «ثامر» الذي «يغني حزنهم» ويمزج الى أله 
ويحرّك كوامن والروج, وبذلك يستطيع الفن تطهير النفوس من خيباتها. 
وآلامهاء ويذكرها بأن في الحياة جمالا يستحق أن یعاش. عندكد تنفتح 
أمام الروح المعدّبة أبواب الحلم والأملء ٠‏ فتقاوم بۇسها الذي يحاصرها في 
ظلمة موحشة: إد ينطلق الفن بها نحو أمداء شاسعة. 

لکن يد الاستبدادء التي تتجلى في الساطة العسكرية (السيد عليوي) 
تمتد لتسرق هذا المغني» وتحتكره لنفسهاء فتحرم الناس متعتها الوحيدة, 
مثلما تحرم العريس «بدري» من فرحته. فتغتاله في لحظة استقبال عروسه, 
وهكذا تجلت هذه السلطة نقيضا للفرح ولكل المعاني الجميلة, التي جسدتها 
هذه الشخصية؛ فحيثما يحل الاستبدادء يحل الدمار والموت والقيح. 

فد تكون مشاعر الحزن وأحدة في أي مكان وأي زمان: لكن الطقوس 
التي تمارسها «الأنا العراقية» تزيد لهيبهاء وهذا ما وجدناه لدی أهل 


140 





سؤال الهوية في مرأة الآفر. .. 


الشهيد «بدري» إذ قد تحولت هذه المشاعر إلى طقس يومي» حتى بات 
السواد جزءا أساسيا من كيانها ومن أثاث البيت» فغطى النوافن والجدران 
وكل ما تحتويهء وقد استطاع عبدالرحمن منيف أن يبرز خصوصية التعامل 
مع الحزن عبر شخصية المرأة العراقية: ريما أكثر من الرجلء. حتى إن 
«فطيم» زوجة «سيفو» التي كانت تجد في الحزن «سلوى أقرب إلى المتعةء 
لا تستطيع منع نفسها من المشاركة في المأتم» ليس في المحلة وحدهاء بل 
في أي مأتم تسمع بهء ولأنها تعرف الحزن إلى درجة الإدمانء فقد انحفر 
في ذهنها أكثر الغناء الذي يقالء وفجأة ارتفع صوتها بحداء حزين حاد: 
بدري العريس حتوا بالدما/ غنوا للعريس الحامي الحمى...» (8). 

نلمس لدی «قطيم» فرادة المتعامل مع الحزن» تنب عن أصالة وحس 
إنساني رفيعء فهي على نقيض غيرها من البشرء تجد سلواها ومتعتها في 
مشاركة الآخرين أحزانهم, إذ لا تبحث عن الفرح لتشارك الآخرين فيهء 
بل تبحث عن مآتم في حيها أو في أحياء أخرى. لتشارك من هم بحاجة 
ماسة إلى المسائدة, حتى لتذكرنا بمهنة «النواحة» التي انقرضت اليوم» 
لعل ما يشدنا لدى هذه الشخصية أنها جسّدت الروح الإنسانية لهذه 
المهنة؛ ونبذت الطابع المادي لهاء لذلك تحفر بصمتها في ذاكرة المتلقي. 
بما تمتلكه من رهافة حسء وأصالة مستمدة من ثقافة شعبية: تجلّت في 
التناص؛ فقد جمعت الأهزوجة الشعبية بين لغة الفرح «العريس, الغناءء 
الحنة» ولغة الفجيعة «الدم». 

وكذلك شكل هذا التتاص الشعبي جزءا من وجدان «فطيم» ومنطق 
رؤيتها للحياةء فهي على الرغم من احتفائها بمشاعر الحزن: نسمعهاء 
عبر مشهد حواري» تقول لأم الشهيد (بدري) مستنكرة إغراقها في 
طقوس الحزن» خصوصا بعد أن رأتهاء تغطي الجدران بالسواد «حتى 
المرحوم ما يقبلء لأنك تعرفين: روح الميت تصير فراشسةء وكل يوم تزور 
فإذا ما لقيت كل شيء ظلمةء بالقبر وهناء تنقهر, وتقول: سودت حياتي 
وحياة غيري...» )9 

نعايش» هناء مقولة تشكل جزءا من المخيال الشعبي العربي» وهي 
تحول روح الميت إلى فراشة: تزور أهلهاء لكن الخيال الروائي يوغل في 


141 





إشكالية الأنا والآخر 


رصد مشاعرهاء ويصفي إلى ما يعتريها من ألم؛. حين ترى السواد وقد 
عم البيت, وقد لاحظ المتلقي أن هذه المقولة أتت على لسان الشخصية 
البسيطةء لكنها في الوقت نفسه تنطق بالحكمة: فتطالبها بأن تلتفت إلى 
ضرورات الحياةء كي لا تزيد آلام الفقيدء فيرى نفسه سببا في حزنها, ' 
عندكد تعاني روحه داخل القبر وخارجهء لعل ما يجعل هذه الحكمة مؤثرة 
ليس فقط الإطار الأسطوري الذي وضعت فيه. يل صدورها عن امرأة 
توحدت مع أحزان العائلة. حتى باتت النصيحة التي تتوجه بها إلى الأ 
كأنها تتوجه بها إلى نقسهاء وبذلك يزداد وفع كلامها قوة على المتلقي, 
سواء أكان جزءا من البنية السردية «أم بدري» أم خارجها «الناقد المختص 
والقارئ العادي». 

وحد الحزن مشاعر الناس. على الرغم من اختلافهم العرقي أو 
المذهبي أو الطبقي؛ مثلما وحدهم الفرح» لذلك حين يشفى والد «بدري» 
من مرضه ينتشر الفرح «كالعدوى» بين الأهل والأصدقاء والجيرانء الذين 
لم ينقطعوا عن المسوّال عنه ضفي أثناء غيابه بعبارات تطفح بالشوق والود 
ثمة روحا واحدة تلم شمل العراقيين سواء في أحزانهم أو في أفراحهم. 
ويذلك جسد لنا «منيف» هذه الوحدة في فضاء شعبي» بدا تنوعه جزءا 
من جماله ليوحي للمتلقي بأن ثمة وجدانا عراقيا واحداء على الرغم من 
تعدد أديانه ومذاهبه وأعراقه. 

يلفت نظرنا تشبيه الفرح بكلمة «العدوى» التي تلتصق عادة بدلالة 
نقيضة توحي بالأسى «المرض» وانتقاله بين الناس» كأن الراوي يريد أن 
يلمح إلى أن الفرح حالة طارئة لدى العراقيين, كالمرض حين يهاجم الجسد. 
لكن المهم هو المشاركة فيه: مما يعطيه معنى. ويمنحه وجودا مؤثرا. 

بدا الروائي في «أرض السواد» مهموما بتجسيد وحدة الهوية» على 
الرغم من تنوع البيئة العراقية بكل ما تحمله من غنىء تضم إلى صدرها 
أبناء العراق على اختلاف مشاربهم ومعتقد اتهم حتى إن الغرياء من أمثال 
نائب السلطان العثماني (الكيخيا) تأثروا بغنى الروح العراقية وتوحدهاء 
لهذا قضى أياما في مرقد شيعيء في أثناء الفيضان» بل وجد من ينصحه 


142 





سؤال الهوية في مرآة الآخر... 


بألا يغادر دجب الفيبة. حيث يعتقد الشيعة أنه المكان الذي سيظهر فيه 
المهدي المنتظر» من أجل الدعاءء وقد برر أحدهم ذهابه إلى سامراء ب«أن 
هناك «جب الغيبة» وريما حان وقت ظهور المهدي المنتظر؛ لكن واحدا لا 
يكنّ الود للكيخيا قال: إن السبب في اختيار سامراء أن فيها الملوية؛ فإذا 
صعد الكيخيا إلى أعلاهاء لا يمكن أن تدركه مياه الفيضان...» (00. 

يريد الراوي أن يؤكد للمتلقي أن روح المكان بما تضم من معتقدات 
مذهبية مختلفةء قد يراها المتعصبون عامل تفرقة وكراهية بين المسلمينء 
لكن العراقيين رأوا فيها ملاذا لأرواحهم المتعبةء وقد تبعهم في ذلك الغريب 
عن المكان «نائب الوالي التركي» وإن لاحظنا أن ثمة رؤية أخرى «دنيوية» 
لروح المكان رافقت الرؤية الغيبيةء إذ استغل هذا النائب الأماكن الدينية 
نافع دنيويةء فلاذ بالمئذنة العالية كطوق نجاة من الفيضان. 

نلمسء هناء صوت الروائي القومي» وقد تدخل لتأكيد وحدة أبتاء 
العراق؛ فهم على الرغم من تعدّد طوائفهم وأديانهم» عاشواء تجمعهم روح 
الوطن الواحد. إذ لم تثر النعرات الطائفية فيه:. أو في غيره من البلاد 
العربية إلا بأيد غريبة عن المنطقة؛ أو حين يبتعد, باعتقادناء أبناؤه عن 
روح الدين السمحة. 

لكن ما يؤخذ على تجسيد هذه الروح؛ أن الراوي أغفل تصوير التعددية 
لدى رجال الدين: فبدت «الأنا» التي تجسّد رجل الدين في «أرض السواد» 
وقد حشرت في منظور واحد سلبي» هو «ملا حمادي» الذي يمال السلطةء 
وينمّن أوامرهاء حتى إنه حصر همّه في الجانب المادي للحياة :م جمع أكبر 
قدر من المال». وأهمل الجانب الروحاني؛ وبذلك افتقدنا في الرواية رجل 
الدين. الذي يعمل من أجل القيم العلياء مع أن العراق قَدّم لنا عبر التاريخ 
رجال دين واجهوا السلطة المستبدة ودفعوا حياتهم ثمنا لهذه المواجهة 
«مثلا السيد محمد باقر الصدر» وقد ساعدهم على هذه المواجهة ما 
عرف عنهم من استقلال ماليء لأنهم لا يتقاضون راتبا من الدولةء طبعا 
نحن لا ننكر وجود أمثال «الملا حمادي» لكننا ات فتقدنا تسليط الضوء على 
الشخصية النقيضة له. مما أسهم في تشويش خصوصية «الأنا» العراقيةء 
لعل غرية الروائي عن روح البيئة العراقية؛ قد أسهم في إلغاء هذه الرؤية 


143 





إشكالية الأنا والآخر 


المتعددة. أو ريما كان للفكر العلماني» الذي يتبناه (منیف)ء دور في إغفال 
تقديم الشخصية المتدينة في صورة إيجابية. 

لكن هذا الرآي لا يعني أن الروائي لم يستطع تقديم مكونات الروح 
الشعبية؛ التي تشكل خصوصية الهوية. خصوصا بعد أن أصبح في الفترة ' 
الأخيرة من حياته الإبداعية, «أقل ميلا إلى الأيديولوجيا > مقابل الاهتمام 
أكثر بالثقافة الشعبية... مهمة الفنان أن يصل إلى هذه الينابيع, إلى هذه 
الجذورء لأنها بمقدار ما تمده بمعنى إضافيء فإنها تذ تفتح له الباب واسها 
للوصول إلى عمق الروح الشعبيةء وحدة الروح هي التي تخلق أدبا يعبر عن 
شعب. عن تميّز. وتشكل بالتالي إضافة» (11. 

وبما أن لغة الموروث الإسلامي تشكل صلب هذه الروح الشعبيةء وأحد 
عناصر هويتهاء لهذا يعايش المتلقي «الأنا» العرافية عير خصوصيتها.: 
التي تبدت عبر تفاصيل موحية:. تمس حياتها اليومية كعادات الطبخ 
طريقة طبخ الطعامء الذي يُقدّم للعاملين فيه ومنهم المجنّد بدري, 
تختلف عن طريقة الأم في البيت. فهم لا يتّبعون عاداتها الإسلامية 
في تحضيره.: لهذا يتساءل: «هل يا ترى سموا باسم الله وهم يعدّون 
الطعام؟ هل كانوا على طهارة؟ والأكل الزائد بدل أن يعطى للفقراء 
يرمى للكلاب». 
المسيري. يرقض تقاليد المجتمع الاستهلاكي. يفكر في حفظ نعم اللهء 
(البسملةء الطهارة احترام نعم الله التي وهيها للإنسان. وعدم رميها 
للكلاب والتفكير في الجائعين...)ء كل ذلك يوحي بنظافة الروح «البسملة» 
وقد اقترنت بالاحساس بالفقراء «الصدقة». 

إن تأمل الإيحاءات الدلالية, التي تقرن الطهارة بالصدقةء تحيل ذاكرة 
المتلقي إلى النص القرآني كقوله تعالى «خذ من أموالهم صدفة تطهرهم 
وتزكيهم» (12). فيحس بأن هذا النص يش كل مرجعية لا واعية لوجدان 
الشخصية»ء على الرغم من علمانية ميدعها . 


144 





سؤال الهوية في مرآة الآخفر. .. 


إن المدهش في هذا المشهد هو ارتباط النظافة الجسدية بالنظافة 
الروحية في لفظة واحدة هي «الطهارة» فتبدو لبنة أساسية لروح الشخصية 
وجسدهاء وتشكل علامة بارزة في حياتهاء وأي اختلال فيها يعني اختلالا 
في نظام عادات موروثة (كما حصل في السراي) مما يؤدي إلى تهديد 
حياة الإنسان بالضياعء إذ يصبح هدفا للمصائب. كما حصل ل«بدري». 

لعل من أروع صور الخصوصية: التي رسمها منيف؛ صورة «الأنا» الأنثوية, 
التي تتجسد عبر «صورة الأم» فتبدو مدهشة في حساسيتها ورقة ذوقهاء 
حتى إنها تحوّل بيتها ملاذا لهذا الجمالء فهي معنية بكل تفاصيله وعناصره. 
خاصة فيما يتعلق بنشر الروائح الطيبة؛ التي تنعش الروح: وتشعر بروعة 
الحياة, لذلك شاعت في الرواية المذاكرة الشميّة: التي تبث جمال الرائحة في 
البيت العراقي «تذكر بدري كيف أن أمه إذا طلبت شيئًا من مسافر...فغالبا ما 
يكون له علاقة بما يجعل رائحة الإنسان أو طعامه. أو حتى المكان الذي يقيم 
فيه» فواحا زكيا أكثر من حرصها على الأشياء الثمينةء وهذا ما كان يدفعها 
إلى أن توصي على نباتات وخلائط؛ لتضاف إلى الطعام وإلى مياه الفسيل؛ 
لتكون في بعض الأحيان دواء حرزاء وهي في مواسم الورد والقدّاح والياسمين 
تبذل جهودا كبيرة من أجل صنع الأشربة والعطور..» (13). 

ترصد عين الراوي عادات حضارية للمرأة العراقية» حتى ليحس 
المتلقي كأن «أم بدري» قد تماهت عبر هذه الصفات المدهشة:؛ مع أم 
الروائي العراقيةء فهي لا تكتفي بالعناية بنظافة منزلهاء وإنما نجدها 
تبذل جهدهاء ليكون مكانا متميزاء تسكن الروح إلى جمالهء لهذا تغنى 
بزراعة الورودء فيملأ عبقها المكان والإنسانء وتصنع العطور والأشربة 
منهاء وبذلك تصبح هذه الزهور جزءا أساسيا من تفاصيل الحياة اليومية, 
ومثل هذا التصرف لا يأتي من فراغء بل يعلن عن انتماء لحضارة عريقة: 
تنهض بروح الإنسان: فتحيل ما هو عادي ملتصق بالإنسان يوميا (المنزل) 
إلى مرتع للجمال بكل جوانبه المادية والروحية. 

يبدو حضور الرائحة العطرة معادلاً فنيا لروح البيئة: ومرافقا لحضور 
العراقي الأصيل. حتى إن المتلقي يحس بأن هذه الرائحة باتت جزءا من 
هويتهء خاصة فيما يتعلق بالمرأة العراقية سواء أكانت أما أم خطيبة 


145 





إشكالية الأنا والآخر 


(زكية). لهذا حين بدأ يحلم بها «بدري» بعد سفره إلى كركوك, رافقه 
طيفها مع «الرائحة التي تعشّقته. تسربت إلى مسامه. وملأته. وإذا لم 
يستطع خجلاء أن يدقق في ملامح «زكية» أن يمسحها بنظرات فاحصة 
مكتشفة؛ فقد امتلأ بذلك الشذى الذي هت حين كانت مقبلةء لتسلّم عليه. 
ثم أخذ يتكاثف ويعبقء وها قد أصبح زوادته في هذا السفء (04. 

تبدو الرائحة العطرة جزءا من جمال الخطيبةء وقد حملتها مع دلالة 
اسمها «زكية» حتى لتبدو رسالة عشق ترساها إلى خطيبها في مجتمع 
تقليدي, لا يسمح فيه للخطيبين بأن يتبادلا النظرات, أو يتحدثاء وبذلك تتي 
الرائحة فرصة اختراق الحواجز الاجتماعيةء لتعلن عبرها الخطيبة قبولها 
له. بل تحمل مشاعرها (تعشقته) التي ترغب في أن تصاحبه» فكانت هذه 
الرائحة خير معين له في غربتهء لذلك تجاوزت لفظة «زوادة» دلالتها المادية 
المألوفة (الطعام والشراب الذي يصطحبه المسافر) إلى دلالة روحيةء إذ تحمل 
الرائحة مشاعر الخطيبة؛ لتصبح غذاء روحيا يؤنسه في سفره. 

وهكذا عايشنا في «أرض السواد» ملامح «الأنا» وقد أصبحت جزءا 
من موروثها الحضاريء مثلما هي جزء من بيئتها الصحراوية التي 
تركت «بصماتها على الوجوه والتصرفات...حتى المسنون الذين يفخرون 
بانتسابهم إلى جذور قوية» ويحاولون توريثها لمن بعدهم» وحين لا يجدون 
حماسة تكفيء أو رغبة مثل رغبتهم., ينتابهم الحزن» ومع الحزن الخوف 
من الأيام التي ستأتي...» (15). 

ليست الصحراء مكانا محايداء فهي تسم الإنسان العراقي بميسمهاء 
فتشكل جدوره.؛ مثلما تترك بصمتها على ملامحه وتصرفاته. فتطبع 
هويته بطابعهاء إذ مهما ابتعد عنها تتغلغل في أعماقه» فتبرز عبر صفات 
إيجابيةء يرى الأجداد ضرورة الحفاظ عليهاء لكن الجيل الجديد بدا 
يخضع لقانون الحياةء بما يعنيه من تغيير. لذلك اجتاح الخوف المسنين. 
حماة القيم الأصيلة, فقد أفزعهم أن يقضي هذا التفيير على الأخلاق 
الأصيلة التي تزرعها البيئة الصحراوية في النفوس. 

لم يكتف الروائي برسم سمات إيجابية تستمدها «الأنا» من الصحراء. 
بل نجده يبرز سمات سابية قد تحاصرهاء أحياناء فنجده يتطق الراوي 


146 





سؤال الهوية فى مرآة الآخر... 
بصيغة الجماعة؛ ليبرز برهة جمعية ‏ تنتاب العراقيين؛ فيساط الضوء على 
حالتهم الغريزية. فهم هادئون يتماهون بالصحراء «تبدو عليهم اللامبالاة 
وهم يمارسون حياتهم كل يوم وفجأة يتحولون إلى مجموعة من الوحوش, 
وحوش لا ترويها إلا الدماء...» (16. 

إن عالم الصحراء يعلن عن هدوئه وجمالهء لكنه متقلّب. وكذلك سكانهاء 
فد ينقلبون إلى وحوش ضارية؛ حين تستثار لديهم غريزة البقاء ويتهددهم 
خطر ما من الأعداء أو من الطبيعةء وبذلك تضطرم في أعماق هؤلاء 
الذين يعيشون قريبا من الصحراءء مشاعر متناقضة (الفزع والسكينة) 
كأن الصحراء أسبغت عليهم تناقضاتها. 

وقد شكل نهر دجلةء كما شكلت الصحراءء ملامح الإنسان العراقيء 
فبدا متماهيا معه في طيبته وجماله «يعتكر لفترة ثم يصفو» وبذلك نتعرّف 
على سمات «الأنا» التي لا تمرف الحقد. على الرغم مما يعتريها من 
مشاعر متناقضة: (الآمانء الخوف) ويذلك يتماثل العراقي مع مياه دجلة. 
فلا يثبت مثلها على حال؛ إذ سرعان ما ينسى الإساءة. ويتجاوز الألم: 
ويعود إلى صفائه الروحي. 

إذا كانت مظاهر الطبيعة تترك تارة بصمتها المحبة وتارة أخرى 
الحاقدة على روح العراقيء لكن ثمة رؤية ناقدة يمارسها داود باشا 
على ليالي بغداد الساحرة؛ فلا يرى دلالاتها الجميلة المنعشة: التي قد 
يتخيلها المتلقي مصحوبة بليالي ”ألف ليلة وليلة“ بل يراها تحاصر «الأنا» 
و«تنشر داء الأحلام أكثر من أي مكان آخر في العالم» فهي تدمغ ملامح 
الإنسان الشرقي بالأوهام: وتغرفه في الأحلام والمثل العلياء فييدو مبتعدا 
عن الواقع. مكثرا في الأقوال؛ مقلا في الأفعالء وبذلك قد تبدو الهوية 
المتواطئة مع الخيالي متجلية عبر شكلين هما النرجسية والعدوانية 17). 

وهكذا يرى المتلقي بفضل لفة روائية ناقدة للذات» أن الهوية المنكفئة 
على أوهامها تبيح رسم تفوقها على الآخر؛ فتعيش عزلتهاء وتكدّرها 
كراهية الآخر, إذ تسودها لغة الهيمنة والاستعلاءء لهذا يبرز الروائي 
للمتلقي خطر الانتماء لمثل هذه الهويةء التي تكبّله بقيود لن يستطيع معها 
تجاوز تخلفه وبناء حياة جديدة. 


147 





إشكالية الأنا والآخر 


«الآخرء الغربي ومحاولة القضاء على الهوية 

تفضح ثلاثية «أرض السواد» تمركز «الآخر» الغربي حول ذاته» حتى 
إننا وجدناه يشيه نفسه ب «الهواء» الذي لا يّرىء لكن كل إنسان يحتاجهء 
ويحس بأن وجوده ضروري» وقد منحته لغة القوة هذه. التي أحاط نفسه 
بهاء الحق في الهيمنة على الذات الشرقية الضعيفة: لذلك فإن الصورة 
التي تربسمها «الأنا» عن ذاتهاء تؤثر في تعاملها مع الآخر. فحين تعظم 
ذاتها توحي باحتقارها لغيرهاء لکن حين تنظر إلى ذاتها بموضوعيةء فهي 
لا تزّهها عن الخطاء بل تنطلق من مشاعر الحب» وترى الآخر أخا لها في 
الإنسانية, تتسامح مع أخطائه: مثلما تتسامح مع ذاتهاء ويذلك تحاول أن 
تراه على حقيقته بعيدا عن الأفكار المسبّقة, والأوهام المشوّهة, مما ينعكس 
بشكل إيجابي على رؤية الآخر لهاء مثلما ينعكس على رؤية «الأنا» له. 

ومما يلاحظ أن هذا الآخر ذ في «أرض السواد» قد أحاط نفسه بهالة 
العظمة:؛ إذ يبدو منطلقا من دواع نرجسية تعمي عن رؤية الذوات الأخرى 
على حقيقتها الإنسانية:؛ لهذا لم ير ممثل الفكر الاستعماري (القنصل 
الإنجليزي ريتش) الذات العراقية إلا في هيئة تابع أو عبد لهاء وبما أن 
الوالي (داود باشا) قد أدرك هذه الحقيقة؛ لذلك وصفه هذا القنصل 
بالذكاءء لكونه «يعرف ماذا تعني بريطانيا العظمى الآن وفي المستقبل...» 
وبذلك تنتقل أوهام الآخر حول عظمته إلى ذات شرقية (الوالي) تدرك 
أن عظمة البريطانيين آبديةء إذ كانوا في تلك الفترة الامبراطورية التى 
لا تغيب عنها الشمسء وبذلك يسهم الحاكم المسستبد في تعزيز صورة 
الآخر الاستيهاميةء التي لا تطال الحاضر فقط» بل تستولي على المستقبلء 
لتحاصر «الأنا» وتغتال أي أمل في التغييرء وهو بذلك يعزز سلطته؛ ويصبح 
ضرورة للآخر, يعتمد عليهء لكن الشسعب العراقي؛ على نقيض حاكمهء لم 
يهتم بهذه الدلالةء لهذا تمنى القنصل لو أن «هؤلاء الشرقيين يدركون أن 
الأمور تتجاوز المظاهرء وتتجاوز رغباتهم وما يفكرون فيه» 19ء فالواقعية 
تعني الاعتراف بتفوق الآخر على الذات» وتيعيتها له. 

إن النظرة الفوقية التي هي وليدة القوة تبيح للقنصل أن يرى الشرقيين 
وقد غمرتهم السلبيات. لذلك رسم ملامح صورتهم وفق خطوط مسبّقة, 


148 





سؤال الهوية فى صرآة الآخر. .. 


تتناسب مع أوهامه عنهم, فكأن الغربي قد سعى إلى جعل الخيال واقعاء 
وسعى إلى تجسيده؛ كي يوافق ما یرید أن يعزّزه من دلالات تستصغر 
العراقيين» وتوطرهم بصورة مشوهة: تجعلهم أشسبه بطفل لا يفكرء إلا 
فيما يرغب. 

وقد أضاف ريتش إلى ملامح العراقيين الجهل والجمودء أي ما يناقض 
الدلالات الطفولية: إذ «لا يبدون أنهم قابلون لأي نوع من التعلّم؛ يولدون 
ويموتون بالمعارف والقناعات نفسهاء وغير مستعدين لتغيير شيء أو إضافة 
شيء آخرء كما ليس لديهم الرغبة أو الشوق لاكتشاف الجديدء وريما من 
أهم الأشياء أن الناس لا يملكون حسا بالزمن» (19). 

يبدو للصورة المشوهة التي يرسمها الآخر (المستعمر) للذات العربية 
فائدة: فهو حين يحصرها في إطار واحدء كآنه يحرّضها لتتجاوز نقاط 
ضعفهاء التي من بينها ملامح الطفولة بدلالاتها السلبية (الوهم, العنادء 
العجز...) فتتبدَّى للمتلقي سطحية زاوية الرؤية لدى المستعمرء حين يعمّم 
الجهل» فيصم به الجميع دون استثناءء لهذا استخدم صيغة الجماعة «هم» 
وقد بدت زاوية الرؤية هذه ثابتة. لا تمس حاضر العراقيين وماضيهم 
فقطء بل تتعدذى ذلك إلى مستقبلهم: لتسقط صورتهم في النمطية. 

وقد تكرّر في لغة الآخر وصف العراقيين ب «الشرقيين» مما يوحي 
بأنه يضع عيوب الشخصية العريية والإسلامية في سلة واحدة؛ فهي 
كثيرة الأقوالء قليلة الأضعالء حتى إنها تخوض مع أعدائها معارك لفظية 
تشي بطفولتهاء فهي لم تستفد من دروس التاريخ؛ لذلك باتت تكتفي 
بترديد أمجادها. دون أن تكون معنية بإدراك أهمية تأمل تغيّر الزمنء 
وعدم ثباتهء وبذلك ينتقدها الآخر بلهجة استعلائيةء لكونها تعيش عبر 
أوهامها الخاصة زمنا مضىء وتنأى عن هموم زمنها الحاضرء مثلما تنأى 
عن مستقبلهاء فهي عاجزة عن تحقيق ما تحلم به من أمجاد عاشتها 
في الماضيء في حين يبدو الآخر (المستعمر) نقيضا لهاء يعيش حاضره 
ومستقبلهء فيستغل وقته ته في العمل والعلم؛ ليسهم في صنع الحضارة 
التي لا تعرف التوقف؛ وقد أكد ذلك القنصل (ريتش) حين رأى أن هؤلاء 
الشرقيين «كثيرا ما يتصورون أن كسب المعارك الكلامية كسب للحرب» 


149 





إشكالية الأنا والآخر 


وبالتالي يخطئون في فهم الآخر...الشرقيون مغرمون بأمرين: الماضي 
والكلمات الكبيرةء ثم بالتدرج يصبحون عبيدا لهما. قد يقرأون التاريخ 
أكثر من غيرهم» لكنهم بسرعة يحؤلونه إلى كلمات ضاجّة. ويس تريحون 
في ظلال تلك الكلمات. لا يعرفون أن الماضي ذهب للأبد, ولن يعود: كما 
لا يدركون أن الذي يعيشونه حاليا يختلف. هذا ما يجعلهم سكاري تائهين, 
فلا هم في الماضي؛ ولا هم في الحاضرء وإن ما كان صحيحا أو قويا في 
الماضي لم يعد كذلك الآن, وفي الوقفت الذي يعتبرون أنفسهم ورثة أكثر من 
ولا تثبت على حالء وهذا سر قوتنا الآن, (20). 

ينتقد الآخر (المستعمر) الشرقيين لكونهم يخطئون في فهمه»ء لهذا 
يسرد أخطاءهم مستخدما صيغة جماعة الغائبين: ليعلن حضوره وهيمنته 
عبر كلمة «قوتنا» إذ يلحق بها صيغة جماعة المتكلمين, ليبين أن الغائب لا 
يصنع حضارة: لأنه يعيش الحلم لا الوافع, فيبدو أسيرا للماضي؛. حتى 
حين يحاول الانتقال للعيش في الحاضرء نجده يضيع وقته في متاهات 
الثرثرةء وينسى قوانين الحياةء وأن التغيير والتطور من أهم ستنها. 

أمام هذه المثالب يطلعنا ريتش على أسرار تفوق الآخر الغربيء 
فهو يعيش بطريقة تناقض الشرقيء إذ ينبذ كل سلبياتهم» لذلك يؤرّقه 
الحاضر لا الماضصي» فيعيش منكيا على العملء ليواجه تحديات العصر 
العلمية والوجودية, إنه معني بصنع حضارتهء دون أوهام تكبّله. في حين 
الحاضر ولا يسهم في الحضارة. ويكتفي بترديد أمجاد الماضي. 

على الرغم من أن هذه الصورة التي رسمها الآخر للذات العربية تقوم 
على المبالغة والتعميم وتستهدف تشويه صورتهاء لكن حين يتأمل المتلقي 
هذه النواقص يجدها لا تمت إلى الخيالء بل إلى الواقع أيضاء فالش رقي 
مازال يعيش هي الماضي؛ غارقا في جهله؛ أسسير عجزه عن الطموح: ولعل 
أس مصائبه عدم احترامه الزمنء مما يكبله في التخلف. فتنخر حياته 
كثير من الأمراض. 


150 





سؤال الهوية في مرآة الأشر. .. 


إذن يمكن القول بأن الروائي استطاع أن ينطق الآخر بلفة خاصة بهء 
تنتقد «الأنا» مما يسهم في رسم صورة سلبية للذات العريية: فيتيح هذا 
النقد الفرصة لاء كي ترى عيوبها بعيون الآخرين؛ مما يدفعها للعمل على 
تجاوزهاء خاصة أن الشرقي قلما يمارس النقد الذاتي» الذي يعد أحد أهم 
الطرق لتجاوز ضعفه» والسير في طريق التطور. 

ولعل مما يسهم في استفزاز المتلقي العربي تكرار الآخر وصف الشرقي 
بالطفولة:, وأنه يحاجة إلى حمايتهء مادام ضعيفاء وبذلك يبين قابليته 
المستعمرء وهو ينفي «الأنا» ويحط من شأنهاء فقد اعتمد الآخر المنتصر 
لغة تبرّر الهيمنة على الذات العراقيةء مادامت غارقة في الضعف والأوهام: 
لذلك لا يكتفي بلغة التلميح إلى صفات تلحق الطفولة بالعراقيينء بل 
يعلنها للملأء فنجد ميناس الإنجليزي يصفهم بأنهم «كالأطفال لا يقدّرون 
نتائج ما يفعلون» المهم أن يثبتوا وجودهم» ويظهروا متفوقين بنظر أنفسهم, 
وينظر الآخرين, (21, 

نلمح هنا لغة استعلائية» ينطق بها المستعمرء ليبرر عدوانيته 
واستعماره للشرقء فقد حرم العراقيين أهليتهم القانونيةء مثلما حرمهم 
الأهلية العقلية؛ وبالتالي حرمهم من إنسانيتهم» والتمتع بحريتهم» بعد أن 
انتزع منهم قدرتهم على العيش مستقلي الإرادة وجعلهم يفتقدون النضج 
والقدرة على اتخاذ قرارات حكيمة؛ فهم كالأطفال لا يدركون ما يفعلون, 
يبحثون عما يؤكّد شخصيتهم وتفوقهم حتى بالصراخ والثرثرة الخطابية. 

وقد أدرك بعض المستعمرين أن مثل هذه اللغة الاستعلائية لن تفيد في 
بناء جسر يصلهم بأبناء الشرق. بل تغدي مشاعر العداء لديهم, وبالتالي 
تحفز إصرارهم على رفضه وكراهيته؛ لهذا بدأ يفكر بعض أفراده في 
تغيير طريقته في التفكير والسلوكء فيتم التعامل مع المستعمّر بوسائل 
تفتح أمامه أبواب القلوب, وتهدم حصون الكراهية, لتبني جسور المحبة, 
فتمنح هيمنته شرعية القبول. عندئذ يصل الإنجليز إلى هدفهم بالاستيلاء 
على ثروة البلد بأقل الخسائرء لهذا يقترح هايني أن تتم السيطرة على 
العراقيين «من الداخل؛ والخطوة الأولى أن نفهمهم: أن نروضهم بالتدريج: 


151 





إشكالية الأنا والآخر 


أن نجعلهم يفعلون ما ذرید» وبظنهم آنهم يفعلون ما يريدون يسأله ريتش 
وكيف نصل إلى ذلك؟ بترديد أغانيهم5 بترديد أمثالهم؟ أهذا ما تريد أن 
تفعله؟ فيجيبه: أريد أن نفعل كل الأشياء معاء فبهذه الطريقة لا نكسب 
الحاكم وحده. بل نكسب الناس أيضاء (22). 

يلاحظ المتلقي أن المستعمر هنا بدأ يغيّر خطته في التعامل مع الذات 
العراقية: كي يبعد سوء التفاهم. فيحاول بالتالي أن يبعد كل ما يوتر 
العلاقة بينهماء لكن لغته تفضحه., إذ لم تستطع أن تبرأ من استعلائهاء 
بسبب صيغة الهيمنة على الذات العراقيةء فقد غيّبتهاء وألحقت بها ضمير 
جمع الغائبين, كما جعلتها قابلة للتفيير بفعل إرادة علياء هي المستعمر: 
«نروضهم» تجعلهم...». ولا ننسى أن استخدام فعل ذي دلالة سلبية «روّض» 
يتعلق بالحيوانات عادةء يعزز لغة الهيمنة؛ مثلما يعزّزها استصغار «الأنا» 
على لسان الآخر. حين استخدم جملتين توحيان بسلوك يمارسه الكبار مع 
الأطفال عادة, فدنجعلهم يفعلون ما نريدء وبظنهم أنهم يفعلون ما يريدون». 

إن الغاية من محاولة الفهم هذه تحسين شروط الهيمنة الاستعمارية 
وذلك عبر تغير مشاعر الذات العراقية نحوه. خاصة حين ييستطيع 
أن يحق ق الآخر تماثلا ظاهريا مع العراقيينء فيس تخدم لهجتهم 
العاميةء وأمثالهم الشعبية وأغانيهم: لعله يردم بذلك حاجز الغرية بينه 
وبين الإنسان البسيط. فيستولي على روحه. إذ من المعروف أن الفكر 
الاستهماري لم يكتف بالاستيلاء على ثروة البلدء بل ركز على «استعمار 
الشخصيةء لكن هذا النمط خصوصا من أنماط الاستعمار كان عملية 
معقدة ومطولة...» (23, لأنه يحتاج إلى عمل دؤوب وصعب. ويريد أن يفرغ 
الروح من خصوصيتهاء لذلك يعد الاستعمار الثقافي أصعب أنواع الهيمنة, 
وقد حاول الإنجليز أن يستعمروا المكان والإنسان معاء فبذلوا جهدهم ضي 
فهم خصوصية العراقيء كي يسهل عليهم الاستيلاء على الأرض. لأنهم 
أدركوا أن تثبيت وجودهم في بلد غريب لن يكون إلا بإلغاء هوية الشرقي. 
أي خصوصيته» التي يستمدها من روح الفضاء المكانيء أي من ثقافته التي 
تربى عليهاء لهذا رأينا أن تماثل الآخر بالذات العربية ظاهري. كي يقضي 
على هويتهاء وكي يس تطيع التسلل إلى وجدانهاء والاستيلاء على مكوناتها 


152 





سؤال الهوية في مرآة الآفر... 


الخاصة. ومن أجل تسهيل مهمته هذه لجأ الممستعمر إلى العلم؛ لذلك 
جِنّدت وزارة الخارجية البريطانية بعض المستشرقين ليدرسوا الثقافة 
العريية الإسلامية, ويتغلغلوا إلى أعماق الشخصية العريية, ليفهموا 
مداخلهاء وقد وجد المتلقي في الرواية نموذجا لهم في شخصية هايني 
الذي كان معاونا للقنصل الإنجليزي في العراق؛ وأراد الكتابة عن بغداد 
فانطلق من عدة تساؤلات: «كيف يفكر الناس5 كيف يتصرفون؟ ما تأثير 
الطقس على تكوينهم العقلي والنفسي؟ وما تأثير الدين والمذهب في هذا 
التكوين؟ ثم ما هي العلاقة بين السكان الحاليين وأجدادهم القدامى, 
والأكثر قدماء إن كانت هناك علاقة5 هل تعتبر البداوة إحدى الصفات 
الثابتة في هذا المجتمع؛ أو مرحلة من مراحل تطوره؟ ثم الحزن الذي يبدأ 
من ملابس النساءء ويمتد إلى كل تفصيل في حياتهم. الذي يتبدى في 
الغناءء لماذا يسيطر عليهم؟ هل يتمتعون به أم يعتبر ظاهرة عابرة؟ وما 
نتيجة هذه المرحلة فقطق (24, 

إن هذه التساؤلات تبدو انعكاسا لرغبة الآخر في عدم الوقوف عند 
ظواهر الأمور, لذلك لجأ إلى التسلح بالمعرفة العلميةء وخاصة «علم النفس» 
علم الاجتماع: علم الإناسة...» كي يسهل عليه فهم أعماق الشخصية العربية, 
فيطلع على نقاط ضعفها وقوتهاء ومن أجل ذلك اعتمد منهجا علميا لا مكان 
فيه للعاطفة الشخصية, فيبحث في تفاصيل العقل العربي؛ وكل ما يشكل 
روحهء فيرصد أهم مكوناته العقلية والثقافية والنفسية ويدرس المؤثرات 
التي تشكل مرجعية لفكره ووعيه وذاكرته (التراث. الدينء الفن) مثلما يدرس 
المؤثرات الخارجية (الطبيعية والاجتماعية) التي يمكن أن تؤثر على مزاجها 
وتصرفاتها (المناخء البداوة) مما يتيح له أن يضع يده على أهم معلم يميّز 
الشخصية العراقية (الحزن) الذي لن يتبدى في ظاهر حياتها (الملابس 
السوداء) بل يتغلغل إلى أعماق روحهاء فينطق به غناؤهاء مما يحيل حالة 
النشوة والطرب إلى أسىء؛ لذلك يتساءل: هل الحزن ابن مراحل تاريخية 
عاشها العراق: أم وليد الزمن الحاضرة هل هو ظاهرة عابرة أم ثابتة؟. 

إذن تشكل هذه الأسئلة التي يطرحها الغربي مفتاحا علميا يسعفه في 
فهم الذات العربية؛ وتسهيل الهيمنة على خصوصيتهاء مما يسشهل عليه 


153 





إشكائية الأنا والآخر 


الاستيلاء على أرضها وثرواتها التي تشكل هاجسا له. وهذا ما تبيّن للوالي 
الشرقي (داود)ء لهذا يرى اللمستعمر يسلك طريقين لا ثالث لهما: إما أن 
يحصل عليهاء وإما أن يدمر البلد «هذي الولايةء يا طلعت بك. خيرها 
كثيرء وهذا ما يطمع الغير بهاء فإذا الغرب ما قدرون يحصلون على هذا 
الخيرء فما عندهمٍ مانع يدمرون كل شيء» (25. 

ينطق الرواكقيٌ الآخرّ بلغة أطماعه المدعمة بأبحاثه العلمية, فهو لا 
يلتفست إلى ثروة العراق فقط, بل يلتفت إلى أمرء لا ينتبه إليه المتلقي 
عادةء أي الموقع الجغرافيء لذلك بدا هذا البلد ل «ريتش» الذي يمل 
صوت المستعمر أكثر أهمية من مصر بعد أن قارن بينهما قائلا: إذا 
كانت مصر تتعم «بحماية طبيعية من ناحية الصحراءء التي تشكل 
حاجزا يمنع تقدّم الأعداءء فإن البحر الذي يقابلها يشكل رئة إضافية 
لهاء إذ تتتفس من خلالهء هذا علاوة على النسيج الموحّد للناس» الذين 
يعيشون هناك. في حين أن العراق مطوّق بالأعداءء وممر للقوات. 
وميدان للغزاة» (26), 

يهتم الآخر بالموقع الذي يحتله العراق» فيدرسه من منظور 
الجغرافيا الطبيعية والبشريةء فيتبين للمتلقي أن هذا الموقع هو أحد 
أسباب التكالب عليه. خاصة أنه محاط بدول تضمر له العداءء دون 
أن تحميه جغرافيته الطبيعية مثل مصرء كما أنه مخنوق بسبب ضيق 
منفذه البحريء لكن موقعه البري يمنحه أهمية: إذ إنه ممر لا بد مته 
لمن يريد التوغل في آسياء أو يتجه منها إلى البحر المتوسطء لذلك يثير 
شهية المستعمر لمسافته الشاسعة وجواره لبلدان مهمةء وهو على نقيض 
مصر متنوّع السكان: إذ يجمع أديانا وطواكف وأعراقا مختلفة. مما 
يسهل السيطرة عليه وذلك بإشعال نار الكراهية بين صفوف أبناء البلد 
الواحد» وتمزيق ما يجمع العراقيين: والتركيز على ما يفرّقهم. 

لقد أتاح الروائي منيف في «أرض السواد» للآخر الغربي حرية التعبير 
عن أعماقه؛ ليفضح حقيقته؛ فهو لم يكتف بتجسيد انبهاره بالعراق وبما 
يضم من كنوز أثرية: بل بين عبر شخصية القنصل الإنجليزي ريتش 
وزوجته ماري كيف تعرّض على يده» منذ القرن التاسع عشر, لأكبر عملية 


154 





سؤال الهوية في مرآة الآشر... 


سطو للكثير من آثار الشمال (التحف الصغيرة؛ المخطوطات) والتخطيط 
لسرفة الآثار الكبيرة (التماثيل الضخمة, الأبواب» الجداريات) بل نجده 
يطلق سؤالا استفزازياء يستنكر فيه أن تستطيع «أنا» الإنسان المتخلف في 
العراق إنجاب مثل هذه الحضارة العريقة 

إن سرقة الآثار تعادل سرفة الهوية الحضارية للعراقيين ومسخا 
لشخصيتهم» مما يجعلهم عبيدا للآخرء لا يستحقون الانتساب إلى تلك 
المنجزات,. وبذلك تصبح سرفة الآثار معادلا لسرقة الذاكرة والجذورء 
التي تستطيع أن تمنح الإنسان إحساسا بالأصالة والقوةء وتدفعه إلى 
إنجاز نهضته؛ على أساس من الثقة بالتنفس؛ فيرى بإمكانه صنع نهضته 
اليومء مثلما صنعها في الماضيء.وبذلك تتضح للمتلقي؛ هناء ملامح علاقة 
متوترة بين «الأنا» و«الآخر المستعمر» الذي لا يكتفي بالاستيلاء على 
ثروات الأرض وعلى الإرادة الإنسانية. بل أباح لنفسه الاستيلاء على الشروة 
التاريخيةء التي تعلن عن أهمية المنجز الحضاريء الذي خلفه الأجداد 
للذات العربية: لكنها مادامت ضعيفة. فهي. برآي الغربي» غير مؤتمنة 
على إرث أجدادهاء وبالتالي لا تس تحقه. وبذلك يمنح لنفسه مشروعية 
سرقة هذه الآثارء فكأن هذا الإرث الحضاري يستحقه الآخر القوي» يزين 
به بيته ومتاحفه» أما الضعيف ظليس أهلا له؛ لهذا يعلن الآخر شكه في 
انتسابه لدالأنا» العراقية. 

إن ما يسجل للروائي أنه قدّم «الآخر» عير رؤى متنوعة؛ فالغريب 
(القنصل ريتش) لا یری سلبيات الذات المراقية. بل يتلمس إيجابياتهاء 
فيعجب بسماتها الحضارية التي تعترف بالتنوع؛ دون أن تلفي الوحدة, 
فقد أدهشه تمازج أبناء العراق بكل طوائفهم في الأعيادء وفي زيارة قبور 
أولياء الله الصالحين من المذاهب المختلفةء كأن هذا الآخرء هناء يتماهى 
مع صوت المؤلف (منيف) الخائف على وحدة العراق إثر حرب الخليج 
الثانية من فتنة طائفية تدمّرهء لذلك ألمح إلى أن المصالح السياسية هي 
التي أسهمت في تشويه «أنا» العرافي» وشيوع الكراهية بين بعض أبنائه. 
لتحقيق مكاسسب سياسية لا علاقة لها بالدين أو الطائفة أو العرقء وإن 
كانت تتستر وراء ذلك كله. 


155 








إشكالية الأنا والآخر 


تنوع النظرة للفضاء العراقي 

يبدو لنا أن التماهي بين صوت المؤلف والآخر أمر استشائيء ولم يشكل 
سمة عامةء فقد حاول منيف أن يبعد مشاعره وأفكاره عن الآخرء ليتيح له 
التعبير باستقلالية عن وجهة نظره الخاصةء فأتاح بالتالي للمتلقي الفرصة 
لمعايشة الفضاء العراقي عبر رؤى متعددةء تصل إلى حد التناقضء نظرا 
لاختلاف زاوية الرؤية التي تنطلق منها الشخصية:؛ والتي تبدو متأثرة 
بمدى قربها من روح المكانء وبالتالي مدى إحساسها بالانتماء إليه؛ فابنة 
العراق تراه جميلا في كل الفصولء أما الشخصية الغريبة عنه فتملؤها 
مشاعر العداءء لذلك تراه قبيحا حتى في أجمل هذه الفصولء لهذا وصف 
القنصل ريتش أيام الربيع في بغداد قائلا: «تدهم الإنسان باللزوجةء إذ 
يعبق الجو بالغبار وهو مزيج من رائحة العفونة والغبار والرطوبةء بحيث 
تتولد في الجسبد حالة من الرخاوة والخدرء تشبه الخمرة الرديئة... 
فالربيع أي ربيع قلما يمضي دون أن يخلق جروحا عميقة في الجسد 
والروح...» (7 (بسبب الفيضان). 

تبدو بغداد من خلال منظور «الغربي» فضاء لا يطاقء مادام يفتقد 
فيه حس الانتماءء فيتيه منه الإحساس بجماله هذه المدينةء ولا يرى سوى 
قبحهاء لذلك يصفها بلغة منفرة. تختزل مشاعره تجاههاء وعدم قدرته 
على التلاؤم معهاء فهي مفعمة بلغة سلبية (اللزوجة: الغبارء العفونة, 
الرطوبةء الرخاوة والخدر) ودلالات غريبة عن البيئة الممسلمة؛ فهي تعبق 
برائحة تشبه الخمرة الرديئة: ومثل هذا التشبيه مستمد من مرجعية 
ثقافية: لا تحرّم الخمرء مما يجعله ينطق بمرجعية الشخصية الغريية 
ويتناسب مع أي إنسان ينفر من القبح سواء كان في الشكل أو الرائحة. 
وقد بلغ نفور الغربي أقصاه حين قدّم صورة مرعبة للربيع (أجمل 
الفصول) مقترنة بالجروح العميقة التي تصيب الجسد والروح معاء فبات 
الفصل الذي يشع بالجمال والتجدد مصدرا للضعف والموت؛ وبذلك أسهم 
التشبيه في تعزيز الصورة السلبية لمدينة بغداد؛ في حين تمثل في وجدان 
المتلقي العربي والغربي المحب بصفتها إحدى مدن «ألف ليلة وليلة» تعبق 
بالجمال والحكايا. 


156 





سؤال الهوية في مرآة الآخر... 


أما ابن هذه المدينةء فيراها «في فصل الربييع» عبر منظور نقيض. 
يجسشد نبض روعتهاء خاصة حين ينظر إليها صباحا من النهرء فتبدو 
«شيئًا لا يصدق... في ذلك الصباح الرييعي. بدت جديدة: طازجة: فواحة 
بالشذى القداح» خاصة بعد أن اغتسل هذا الشذى بالماء... أما خضرة 
النخيل التي ملأت الأفقين فكانت تتغير كل لحظة شفافةء زاهية؛ ريانة. 
وخضرة قاسية أيضاء ولا تخلو في لحظات معينة من تحد» (28). 

هنا یری ابن بغداد مدينته أشبه بالحلم. فقد جدّدها الربيع» وغسلها 
بعطر زهر النارنج؛ ومما أضفى عليها السحر أنه اختار إطارا زمنيا لهذا 
المشهد هو «الصباح الباكر» ولعل أجمل ما في هذا الوصف توحيد مزاج 
الإنسان العراقي مع الطبيعةء إذ على الرغم من روعة خضرة الأشجار 
تصاب بالقسوة أحياناء والتي هي ضرورية كي تسعفها في مقاومة صفعات 
الحر صيفاء والبرد شتاءء أما شموخها وارتفاعها فلا يخلو من تحد يمتح 
من روح العراقي» الذي زرعهاء وعايشها سنين طويلة. حتى اكتست ملامحه. 

افتقد هذا الوصف لمدينة بغداد نبرة الحياد. على الرغم من تعدد 
منظوره بين الأنا والآخر. حتى ليمكننا القول بأن المؤلف أسقط أحيانا 
صوته على كليهما معاء لذلك يحس القتصل ريتش منن وصوله إليهاء 
بأنها مدينة عجيبة «لا تقرأ بسهولة. ولا يحزر عليهاء تظل ساكنة هادثة 
فترة طويلة. حتى يظن أنها فقدت كل حافزء ولم يعد يعنيها شيءء» لكن 
حين تدوي الطلقات على أسوارها وتزحف نحوها الجموع تتذكر أن لها 
دوراء وقادرة على فعل شيءء يفاجئها نفسهاء ويفاجئ القادمين إليهاء وكأن 
جنونا أصابها» (29), 

يحس المتلقي بصوت متعاطف مع المدينةء لا يمكن أن ينطق به غريب 
عن روحهاء ليس فقط لكونه منحها أوصافا إنسانية (فقدت كل حافز, 
تزحفء أصايها الجنون: تتذكر أن لها دورا) بل لكونه وحد العراقي مع 
أرضه بصورة استثائيةء فمنح بغداد لحظة الخطر وقدرات مدهشة: 
كأن المؤلف يسقط تعاطفه مع المدينة على لسان الغريب» فيسسبغ على 
المتلقي فلقا على مصيرها بس بب توالي الحروب عليهاء والدمار الذي 
تعرضت له» لكنه في الوقت نفس ه يحفز مشاعر الأمل لديهء فيوحي إليه 


157 





إشعالية الأنا والآخر 


بما يطمئنه»ء إذ يمتلك العراقي ومدينته قدراتء لا يتوقعها أحد؛ قد يبدو 
اليأس محكما قبضته على خناقهء لكنه يقاومه. ضفي لحظة الخطر يمتلئ 
بقوة داخليةء ترد عنه العدوان» لهذا أكد منيف على لسان الآخر أن هذه 
المدينة مدينة المفاجآت. تستعصي على الفهم» كأنه يوحي إلى مضمرء 
يشير إلى امتلاك أبنائها والفضاء المكاني الذي يتحركون فيه قدرات 
عجيبة تتيح لهم مقاومة كل ما يعيقهم» وبذلك لا تمنح الغرية عن المكان 
بعدا موضوعيا للدلالةء إذ يلاحظ المتلقي أن الجمل الأخيرة وليدة قرب 
روحيء تبدو فيها نبرة الإعجاب واضحة, كأن المؤلف يريد أن يوحي على 
لسان الغريب باس تثناتية المدينة العراقية في لحظة الخطرء إذ تفاجئه 
بعزيمتها وقدرتها على مواجهته. 

وقد استفاد منيف في رسم صورة الآخر من الوثيقة التاريخية؛ إذ 
مسن المعروف أن.ريتش هذا الديبلوماسي الإنجليزي الذي احتفظ المؤلف 
باسمه كما هو في الروايةء قد كتب مؤلفا من جزأين» تحدث فيها عن 
أسغاره وإقامته في العراق: وقد حررته أرملته ونشرته في العام 1836 
بعنوان «قصة إقامة في كردستانء وموقع نينوى القديمة؛ مع مذكرات رحلة 
مع نهر دجلة إلى بغداد ...» 3 لذلك حين يقر باستثنائية مدينة بغداد 
لا يحس المتلقي بأن هذا الإقرار وليد شطحات الخيالء بل وليد معايشة 
يومية للمدينةء توحي للمتلقي بمصداقية الواقع وابتعاده عن أوهام السرد . 

وقد تعمّد منيف أن يؤكد استشائية هذه المدينة (بغداد) أيضا على 
لسان أحد أبنائها (عوٌاد) فتتحول اللهجة العامة التي لحظناها في لغة 
ريتش في تحديد المعتدي (الطلقات. الجموع...) إلى لهجة أكثر تحديدا 
«بغداد تآمر عليها آلاف مؤلفة من الفيضانات والأغراب والظلامء وظلت 
وبقيت...» وبذلك ااستطاع ابن بغداد. على نقيض الغريب؛ أن يخصحّخصص 
ويحدد من تآمر على مدينته من عوامل طبيعية (الفيضان) وبشرية من 
أعداء الخارج (الأغراب) وأعداء الداخل (المستبدين والفاسدين). 

ما يلاحظ» هنا هو اتفاق الغريب مع ابن بغداد في منح الإنسان 
العراقي فوة معنوية في مواجهة الشدائدء ومنحه كبرياء. تسعفه في رفض 
وجود الأغراب والمستبدين, مثلما تسعفه في التعاطف والتوحّد مع إخوته 


158 





سؤال الهوية في مرآة الآفر... 


العراقيين في مواجهة غضب الطبيعةء على الرغم من اختلافه معهم في 
النوائب» تصاحب العرافي؛ فترقى بشخصيته وتعمل على تمیزه» فهو ابن 
حضارة عريقةء تقيه من الذوبان في الآخرء مهما كانت المواجهة بينهما 
قوية؛ وبذلك تستطيع «الأنا» حين تلتحم بقضائها المكانيء أن تمد جذورها 
في أرض صلية. تقاوم فيها الآخر المعتدي. 


التناص الشعبي واشكالية «الأناء ورالآخر, 

أسهم التتاص الشعبي في تقديم إشكالية «الأنا» و«الآخر» مما أتاح 
للمتلقي فرصة معايشة لغة تنطق بروح البيئةء وما يهيمن عليها من رؤى 
وإكراهات» ترسم ملامح الإنسان. وما يعتريه من مخاوف وأوهام: وما 
ينبض في قلبه من مشاعر الحب والكراهية؛ إذ يلمح هذا التتاص للمتلقي 
بما يعتري «الأناء من قلق تجاه الآخر وعدم الثقة به فحين ينصح الوالي 
(داود باشا) بالاستعانة بطبيب القنصل الإنجليزي لمعالجة ابنته المشلولة, 
يقول: «مثل اللي يؤمّن البزون شحمة». فيتحول الغريب إلى قط لا أمان لهء 
تهمه مصلحته؛ لذلك نجده مستعدا لسرقة «الأنا» والإساءة إليها في أي 
لحظة؛ ويذلك ينتزع من الآخر إنسانيتهء ويخضعه لنسق ثقافي» يشوهه. 
ويصبّه في قالب واحد هو العداء والشرء فيحس المتلقي بأن هذا التتاص 
قد كتف خوف «الأنا» من الآخر وعدم الثقة بهء كما كثف مشاعر الحقد 
تجاهه» مما يعرز الصورة السلبية له. شْ 

أما حين وصف القنصل عبر حكمة شعبية «اللي يعيش بالحيلة لا 
بد يموت بالقهر» فقد جسّد أحلام البسطاء من البغداديينء وألمح إلى 
رغبتهم المكبوتة في القضاء على الآخر (الحاكم المستبد والمستعمر) حتى 
باتت أمنيتهم أن يموت الغريب والفاسد قهرا لا بالسيف عقابا له على 
سلوكه الملتوي. كما أن تأكيد موت الآخرء في هذا التتاصء» باستخدام لفظة 
«لا بد» يوحي برغبة مكبوتة تؤكد الانتصار عليه؛ ولو بموته فهرا. 

أخيراء ثمة رغبة لا واعية لدى الروائي منيف في بسط هيمنة 
«الأنا» على «الآخر». ولو عن طريق الهيمنة اللفوية» لذلك ينطق القنصل 


159 





إشكائية الأنا والآخر 


الإنجليزي لغة شعبية؛ تتجسد في المثل الذي يقول: «القرعة تفاخر بشعر 
ابنة خالتها». يكثف هذا التناص وجهة نظر بعض العراقيين في أن أحدا 
لا يستطيع الوقوف في وجه الإنجليز سوى فرنساء ويفصح عن سخريته 
بهؤلاء. الذين لا يعتمدون على أنفس هم في مواجهة الآخرء بل يلجؤون إلى 
تمني حدوث مواجهة بين الغرياء أنفسهم. واللافت للنظر أن السخرية, 
هناء تحدث أقصى أثر ممكن. لكونها تصدر عن القنصل نفسه» مما 
يعني أن الروائي تعمّد أن ينطق الآخر لغة شعبية: تحرّك وجدان «الأنا» 
وتحرّضهاء بفض النظر عن إمكانية صدور هذا المثل يصوت القنصلء إذ 
من المعروف أن المثل الشعبي يحتاج» من أجل استخدامه»ء إلى امتلاك روح 
البيئةء أي روح المجتمع والثقافة التي أنتجتهء وهذا لن يكون إلا بمعايشة 
طويلة لهماء هنا نتساءل: هل يمكن أن يتاح للآخرء خاصة المعتديء امتلاك 
هذه الروح؟ خاصة أنه يفتقد إقامة علاقات إنسانية عميقة مع «الأنا» 
يمكن أن توصله إلى روح البيئة. من هنا كان استعمار الشخصية أصعب 
بكثير من استعمار الأرض. 





160 





إشكالية لقاء الأنا والآخر 
اليهودي في رواية علي 
المقري «اليهودي الحالي) 


جماليات العتوان بين الأنا والآخر 

يقدّم الروائي اليمني علي المقري في 
روايته «اليهودي الحالي» مشاهد تتيح 
لنا معايشة علاقة إنسانية مدهشة بين 
«الأنا» المسامة؛ التي تجس دها «فاطمة» 
والآخر الذي يجسده اليهودي «سالم». 
وقد جمعهما الانتماء إلى فضاء مكاني 
واحد هو اليمن فبدا العنوان تجسيدا لهذه 
العلاقة الإنسانية المدهشة:؛ التي تقوم على 
الحب والعطاءء إذ لم يشكل اختلاف الدين 
عائقا لها لهذا حين نتأمل الجملة المشكلة 


له 

«إن التقارب بين الأنا والآخر للعنوانء نجد الاسم (اليهودي) احتل موفع 
¿ يكون إلا عبر ظلال الحب 5 کے ت ا مه 
وال راب الي 4 الصدارة نظرا إلى أهميته. وقد أخير عنه 
بالاعتراف بخصوصية الآخرء مباشرة بصفة «الحالي: الجميل» لنفي أي 


المؤلفة انطباع سلبيء قد يلحق به. لذلك نجد 


161 





إشكالية الأنا والآخر 
الصفة, التي تعد فضلةء ويمكن الاستغناء عنها في اللغةء قد أصبحت في 
موقع الخبرء وبذلك تمتزج في العنوان؛ كما في السرد الرواثيء الدلالة 
الإخبارية بالدلالة الوصفيةء حتى وجدنا هذه الجملة, غالبا ما تحل محل 
الاسم (سالم) بل هي «اسم الدلال» يأتي عبر سياق محبب» إذ تنطق به 
المرأة المحبة (فاطمة) لتنادي حبيبها (اليهودي) «ألا يُعلمونك يا يهوديٌ 
الحالي...5 أربكتني كلماتهاء وهي تقول بحنان وغنج لم آلفهماء فأنا 
يهوديّهاء أو اليهودي حقهاء بل آنا في عينيها مليح (حالي)...» (1). 
وجدنا السياق الذي وردت فيه كلمة اليهودي سياقا إيجابياء فهو 
محاط بلغة الحب (الحنان والغنج) ويبلغ أقصى مدى حين يضاف اليهودي 
إلى الذات العريية (عبر ياء المتكلم: يهوديٌ» يهوديّها) مثلما تلتصق به صفة 
تخبر عنه (حالي) ويتكفل الروائي بتوضيح دلالاتها (مليح) لمن هو غريب 
عن اللهجة اليمنيةء وبذلك تبتعد عن العنوان الظلال المشوّهة ذات الأبعاد 
السياسية التي قد تتوارد إلى الذهن (الحالي هو اليهودي الذي ينتمي 
إلى الزمن الحاضر) فتبتعد بالتالي عن مخيلة المتلقي الدلالة السلبية, 
التي تلحق عادة الأيديولوجية الصهيونية المتسترة بالدين اليهودي. وتفلح 
الرواية في ترسيخ الدلالة الإيجابية. 


الفضاء الزماتي والمكاني 

يختار علي المقري منتصف القرن السابع عشر فضاء زمنيا لأحداث 
روايتهء وبذلك يمعن في الابتعاد عن عصرنا الحاضر يكل ما يحتويه من 
صراعات مشحونة بالعدوان الصهيوني على الذات العربيةء بعد اغتصاب 
فلس طين» وتعمّد إبعاد فضائه عن التوتر التاريخي والعداوة بين «الأنا» 
العربية و«الآخر» الصهيونيء فنأى به عن كل العوامل الخارجية؛ التي 
تسهم في تشويه الصورة, وتدمّر العلاقات الإنسانية بين الأنا وبين من 
يخالفها الانتماء الديني» فأبعد المجتمع عن حصار الكراهية والرفض, 
وبذلك انطلق من إشكالية تكمن في أعماق الإنسان في أي زمان ومكان: 
هل يستطيع الحب أن يهزم الفكر المغلقء الذي يرفض الآخر؟ آليس الجهل 
هو الذي يغرق القرى العربية بمشاعر سابية تجاه المختلف؟ أليس هو 


162 





إشكالية لقاء الأنا والآخر اليبهودي... 


إحدى دعائم التعصب ورفض الآخرة وبذلك تثير الرواية دلالات تتجاوز 
المكان الضيق (القرية اليمنية) إلى مكان أوسع: يشمل أي بلد عربيء مثلما 
تتجاوز الإطار الزماني الضيق (منتصف القرن السابع عشر) لتخاطب 
زمنناء بكل ما يحمله من صراع بين الفكر المنفتح على الآخر والفكر المنغلق 
الرافض للمختلف! لهذا تبدو القرية العربية (الريدة) تشارك المدينة 
(صنعاء) التعصب وكراهية الآخرء مثلما تشاركها في انتشار الجهل: وعدم 
استيعاب روح الدين السمحة؛ وهذا كله لن يكون غريبا على مكان يعشش 
فيه الاستبدادء ويحضن التخلف. مما ينعكس سلبا على روح الإنسانء 
فيضيق أفقه سواء أكان مسلما أم يهوديا. 


صورة الأنا (فاطمة) 

يختار الروائي اسما لشخصيته ذا دلالة إيجابية؛ تذكر ب «فاطمة ابنة 
رسول الله الكريم» التي كانت تدعى ب «أم أبيها» نظرا إلى العلاقة الخاصة 
بينها وبين والدها. وهو اسم يصلح للمسلمين (فاطمة) ولليهود؛ (إذ يشبه 
اسمها بالعبرية فطيماه)ء إذ يتشارك الاسمان بأغلب الحروف,. وبالدلالة 
أيضاء مما يشعر المتلقي بأن ثمة لقاء بين اللفتين العبرية والعربيةء فهما 
تنتميان إلى أرومة واحدة (اللغة السامية). لهذا لن نستغرب أن تعيش هذه 
الشخصية قصة حب» تعكس لقاء نادرا بين «الأنا المسلمة» والآخر اليهودي. 

تخرج المرأة العربية في هذه الرواية من إطارها النمطي (صورة المرأة 
العاجزة, الجاهلةء الخائفةء الخانعة) فنجد «فاطمة» تبادر في علاقتها مع 
الفتى؛ فتخبره بمشاعرها نحوه؛ وهي لا تكتفي بالمبادرة؛ بل تتجرأ فتختار 
زوجا من غير دينهاء وقد اهتم الروائي برسم معالم تفرّدهاء إذ يجعلها لا 
تكتضي بالمشاركة العاطفية, بل نجدها تهتم بالمشاركة المعرفيةء لذا قررت 
أن تعلّم «الحبيب اليهودي» القراءة والكتابة. وبذلك تجاوزت المرأة صورتها 
المألوفةء فلم تبدٌ في قالب جامدء يجعلها تابعة للرجل؛ بل جسّدت أقصى 
درجات التحدي لمواضعات مجتمعهاء حين تعرض عليه الهرب والزواج. 
تقول لسالم: «لا تتأخر عن نداء رغبتي» وتدبر أمر سفرنا من بلدة يضيق 
أهلها بلقائناء ويحرّمون زواجناء (. 


163 





إشكالية الأنا وال خر 


تعرف المرأة أن انفتاحها على الشاب اليهودي محكوم بالموت» ومع ذلك 
تبدو راغبة في الخروج عن النسق الاجتماعي المألوف, لهذا تدعو «سالم» 
إلى الهرب والزواج بعيدا عن قريتهاء لكن هذه الشخصية تخالف أفق توقع 
المتلقيء حين بدت متمسكة بمرجعيتها الدينيةء فهي تلجأ إلى آراء فقهاء 
واسعي الأفقء تتلمس لديهم شرعية ما تفعل. 

ويما أن الروائي اختار اسما لهذه الشخصية ذا آفاق دينية (فاطمة 
ابنة الرسول الكريم الأثيرة إلى قلبه)ء لهذا استطاع أن يز حضورها في 
وجدان المتلقي؛ ويكسب أفكارها المتسامحة بعدا دينيا. فقد استطاعت 
بفضل إشماعاتهاء التغلب على الفكر المتعصب على الرغم من الصعوبات 
التي واجهت الشخصية. 

ما يلفت نظرنا في هذه العلاقة أن المرأة سعت إلى بنائها على أسس 
معرفية. فلم تكتف بالعاطفة التي قد تعمي وتصم. بل بدت مؤمنة بأن 
الثقافة هي التي تنير طريق الإنسان» وتأخذ بيده إلى عالم جديد: يتسع له 
بغض النظر عن دينه أو عرقه. لهذا حين تكتشف أن حبيبها أميّ؛ نجدها 
تسرع لتعرض عليه فكرة تعليمهء وهي لا تكتفي بالتعليم؛ بل تلجأ إلى 
التعلم منهء مبتعدة عن عقدة التفوق والاس تعلاء الثقافي. التي قد تختلج 
في أعماق أولئك الذين ينتمون إلى الأكثريةء لهذا نجدها تحثه على تعلّم 
العبرية, كي يعلمها إياهاء فيستطيعا عندكذ تبادل الكتب العربية والعبرية. 

نلمس لدى «فاطمة» رغبة في بناء علاقتها بالآخر, التي تتجاوز بها 
النسق الاجتماعيء على أسس ثقافية قويةء لتقاوم بها تحديات. يفرضها 
الجهلء فقد أدركت المرأة أن بناء الأسرة. يحتاج إلى دعائم قويةء إذ إن 
العاطفة وحدهاء لن تستطيع الصمود في وجه قوى الظلام: لهذا نسجت 
علاقتها باليهودي بنسيج المعرفة والرهافة الإنسانيةء فبدت لنا مرسومة 
بريشة الحب النابع من روح حساسة؛ منفتحة على الكون بكل مخلوقاتهء 
لهذا تطلب من «سالم» إيضاح النقشء. وليس «إصلاحه» كي لا يؤذي النملء 
فهو لم يخطن أو يعبث كي «نصلحه» إنه سلام «فاطمة» ( الذي يتجلى 
عبر لغة حساسة محبة لكل الكائنات الحيةء حتى إنها ترفض القهر أو 
التمييز في التعامل بين الإنسان وأضعف مخلوق صغير على الأرض 


164 





إشكائية نضاء 6۲فا وا3 خر الوشوة ي.. . 


(النمل)ء فتس تخدم لغة حساسة» حتى إنها تدعو إلى إيضاح النقش» 
وترفض إصلاحه: بما قد يحمله من دلالة تدميرية لبيوت النمل» مما ينبئ 
عن روح فريدة في حساسيتها تجاه كل الكائنات الحية حتى أصغرها. 


صورة الآخراليهودي 

تتخلى صورة اليهودي في هذه الرواية عن نمطيتها المألوفة في الأدب 
الغربي الكلاسيكي (شكسييرء ديكنز. دوستويفسكيء جورج إليوت). فلم 
يعد ذلك المرابي البخيلء الذي يغتذي بالكراهيةء ويدمر جسور التفاهم 
بينه وبين الآخر من أجل المال. كما وجدناه يفارق الصورة الشسائعة في 
الرواية العريية وخاصة الفلسطينية. صورة المعتدي الصهيونيء الذي احتل 
الأرض» وسفك الدم العربي. ش 

لقد أغنت الروح المسالمة فضاء الروايةء فأزهرت علاقة حب بين 
مسلمة ويهوديء تناسلت. وأثبتت وجودها مع مرور الزمنء على الرغم من 
الحروب التي شنت ضدها. وقد منحه الروائي اسما آخر ذا دلالة إيجابية 
(سالم) كما منحه لقباء أسقطه على لسان «فاطمة» تغلب على الاسم 
(اليهودي الحالي)ء وبذلك امتلكت كلمة «اليهودي» ظلالا جديدة. لا علاقة 
لها بالأذى الذي تصبّه الصهيونية على الذات العربية اليوم» من هنا لن 
نستغرب, أن يفرح «سالم» بلقبه الجديدء الذي لم يسمعه من قبلء فاتسع 
صداه في روحه: ليصبح سر وجوده: لهذا يقول: «صرت أحس بأن هاتين 
الكلمتين هما سر حياتي؛ إذا لم تكونا حياتي كلهاء معهما أصبحت أكتشف 
من أكون ومن مسأكون. لا أعني أنتي أصبحت أعلم الغيبء إنما بقيت غير 
مبال يما سيحصل ليء إذا ما كنت في ظلها الحاني؛ بلذة المودة وهي تتدفق 
من فاطمة أثناء نطقها لهماء 4). 

خلصت هذه الرواية كلمة «اليهودي» من دلالاتها السلبية» التي قد 
تجتاح مخيلة المتلقي العربي في هذا العصرء وأفلحت في إحاطتها 
بلغة الحب» لهذا وجد «سالم» في لقبه (اليهودي الحالي) سر وجودهء 
وطمأنينة مستقبلهء فقد أشعره إيقاعها بالأمان. وأبعده عن القلق, 
وأحاطه الصوت الحنون للحبيبةء فاستطاع أن يوسش ع دلالات الكلمة 


165 





إشكائية الأنا واكآخر 


(اليهودي) ثم جاءت الصفة التي لازمتها لتنفي الآنية: وتعمّق إحساس 
الفتى اليهودي ب «الظل الحاني» الذي يمتد ليأتلف مع روح المحبة 
«ولذة المودة» التي تطرد المخاوف» فتعطي طعما للعيش» بعد أن أصبح 
مصحوبا بالفرح الآمن. 

يعايش المتلقيء هناء لغة الحبء التي أزهرت في قلبي «سالم وفاطمة» 
تكن عامة الناس من المسلمين واليهود؛ لن ينعموا بهذه اللغةء فقد حرمهم 
الركون إلى الجهل نعمة العيش في ظلالهاء فنأت عنهم معاني الانفتاح 
والتسامح؛ لهذا يعاني «سالم» بعد وفاة زوجته (فاطمة) من الظلم والكراهية, 
ويفتقد مشاعر المؤازرة الإنسانيةء إذ عبثا يبحث لدى أتباع الديانتين عمن 
يرعى ابنه الرضيعء لأن العوام تقيم الإنسان بمظهره: «زناراي المتدليان 
على جانبي رأسي أبعدا المسلمين عن إلقاء نظرة رحمة واحدة عليّ». 
أما اليهود فقد رفضوا مساعدته. لكونه تمزد على مواضعاتهمء وتزوج 
من مسلمة: لهذا لم يأبهوا لزناريه (أي ضفائره)» إذ «لم يعودا دليل ثقة 
ليهوديتي عندهم» (5), 

يبدو. هناء أن الطرفين (اللذين ينتميان للأنا والآخر) منغلقان على 
ذواتهماء يتحصّنان بين جدران هوية قاتلةء تمنع دخول المختلف إليهاء 
وبذلك تنتزع من أعماقهما كل ما يشير إلى النوازع الإنسانية. عندئذ 
يعايش المتلقي التعصب» وهو يعصف بكل القيم» فلا يستثني طفلا رضيعا 
لا ذنب له فقد ناله عقاب الأقارب من كلا الطرفينء واتفقاء على الرغم 
من اختلافهماء في رفض رعايته. لكونه ابنا لرجل وامرأة: لم يخضعا 
للمألوف من المواضعات الاجتماعيةء وتزوجا على الرغم من اختلافهما 
في الدين. وبذلك يحمل الاتفاق هناء دلالة سلبيةء إذ يشتركان في كراهية 
طفل. لا ينتمي والداه للنسق الاجتماعي التقليدي. 

لقد نجحت علاقة الزواج بين «الأنا والآخر» إذ سادتها لغة التسامح 
فقد احترمت «فاطمة» خصوصية «سالم» الدينية, مما جعله لا يتوانى 
بعد وفاتها في التقرّب إلى كل ما يذكره بهاء لهذا أعلن إسلامه؛ قائلا: 
«لم أكن أعتبر نفسي يهودياء لكنني لم أتخلٌ عن صوتها في وهي تنادي 
اليهودي الحالي» (6), 


166 





إشكالية لقاء الأذا والآخر الجهوه ى... 


إن التقارب بين الأنا والآخر لن يكون إلا عبر ظلال الحب والاحترام؛ 
الذي يتجلى بالاعتراف بخصوصية الآخرء وقد عززت الحياة المشتركة بين 
«سالم وفاطمة» والانفتاح المعرفي أواصر التفاهم واللقاء. حتى قرر الآخر 
الامتزاج ب «الأنا» والتخلي عن خصوصيتهء مما قد يوحي للمتلقي برغبة 
الروائي اللاشعورية في حدوث هذا التخلي. 


لغة العنف 

عايش المتلقي في الرواية لغة الحب والتسامح لدى «فاطمة وسالم» 
وهي تواجه لغة العنف والعدوانء وبذلك نطق المتنورون لغة الود في حين 
نطق الجاهلون لغة العداوة؛ ولعل مما يميز هذه الرواية أنها لم تحصر لغة 
التكفير والإقصاء بطرف دون آخزء لهذا يحدثنا «سالم» بعد أن اكتشسف 
اليهود المعزون أن زوجته المتوفاة مسلمةء صرخوا في وجهه ب «اللعنات 
والشتائم والوعود بمعاقبتي لما فعلت» (ص94). 

وحين ذهب ليزور قبرهاء لم يجده! فقد جاعوا ليلا وأخرجوا جثتهاء 
ودطنوها بعيدا عن قبور اليهود,. وهم يقولون : «هي مسلمة؛ كافرة». وكذلك 
تم طرد «سالم» من مجتمع اليهود» وطلبوا منه أن يعطي ابنه «سعيد» 
للمسلمين. كي يربّوه. فالولد يتبع الأم في شريعة اليهودء وفي المقابل 
حبن يأخذه لخالته المسلمة, تقول له: «الولد يتبع أباه. وأنت أبوه يهودي... 
أجابت بصوت غاضب» شعرت أنها تريد صفعي بيدهاء التي راحت تحركها 
بشدة» وهي تنطق يهودي ابن يهودي» (. 

يتقاذف الطرطان الجاهلان لغة العنف» فيتحمل كلاهما مسؤولية 
شيوع لغة الكراهية والإقصاءء إذ يمارسان العنف الجسدي في الرواية 
ضد الشباب اليهودي والمسلم معاء خاصة حين يستخدمان لغة التحريم 
التي تمنع زواج الشباب ممن يحبّون: فيكون الردٌ عنفا جسدياء يمارس على 
الذات (ينتحر قاسم ابن المؤذن: ونشوة ابنة أسعد اليهودي) وقد استطاع 
المؤلف أن يقدّم لنا استمرارا لعلاقة «فاطمة وسالم» أي وجدنا بعض 
الشباب من الدينين المختلفين» يتزوج بعيدا عن هذا العنف» كما حصل 
لرسولي العاشقين المنتحرين:؛ اللذين كانا ينقلان رسائلهماء فقد نجحا في 
الهرب. ليتزوجا بعيدا عن سلطة الأهل. 


167 





إشكانية الأذا والآخر 


إن أي تجاوز للمواضعات الاجتماعية يلهب الأحقاد والكراهية بين 
«الأنا» والآخر, لهذا يُرمى الشاب المتحرّر من إكراهات مجتمعه بلغفة 
متعصبة حاقدة, لا تعرف الرحمةء ويرفض الكبار منحه ثقتهم. لأنه لم 
يلتزم بقوانينهم: لهذا تشيع على ألسنتهم لغة دونية يعاني منها اليهودي, 
بصفته ينتمي إلى أقلية دينيةء حتى إن المسلم الجاهل لا ينطق اسمه إلا 
بعد الدعاء للمخاطب بالقول: «أعزكم الله» وكأنه يسمع اسم كائن ناقص 
في أهليته الإنسانية! 

إن هذه اللغة لا نجدها لدى المتدينين المثقفين (فاطمة): بل لدى الجهلة. 
الذين لم يقرأوا القرآن الكريم: الذي دعا إلى كلمة سواءء تحيي الإيمان 
في القلوب» وتجمع المسلمين وأهل الكتاب. «قل يا أهل الكتاب تهالوا إلى 
كلمة سواء بينتا وبينكم» (8, 

ومن الملاحظ أن هذه اللفة العنيفة لا علاقة لها بالدين الإسلامي أو 
اثقانون الذي يحكم اليمنيين, فقد استمد هذا القانون من القرآن الكريم 
في معاملة أهل الذمّة, لهذا بدا قانونا صارماء «فكل من يشتم ذميا أو 
يعتدي عليه يسجن أو يغرّم بتقديم ذبيحة إما بقرة أو جمل أو نعجة وتوزع 
على الفقراء» (9. 

وبذلك يتقدم النص الديني في التعامل الإنساني مواضعات البشر 
وتقاليدهمء فقد سادت فيه لغة المساواة (كلمة سواء) التي تتكفّل ببناء 
جسور المودة بين المسلمين وأهل الكتاب» وقد بدت هذه اللغة المنفتحة 
جزءا من التاريخ اليمني؛ إذ أكد الرحالة اليهودي يوسف هاليفي أن اليهود 
«تمتعوا بقدر كبير من الاحترام والحرية والاندماج... ويذكر الشرجبي أن 
اليهود في المناطق القبلية اليمنية التي لم تكن خاضعة للسلطة المركزية في 
المفهوم المعاصرء كانوا يتمتعون بحق الحماية والأمان من قبل القبائل التي 
كانوا يشاركونها العيش... وغائبا ما تنشأ نزاعات بين القبائل من أجل ظلم 
لحق بيهودى...» (010, 

أما اللغة الاستعلائية, التي تحتقر الآخر. فتؤسس للكراهية في 
القلوب؛ وتدمّر إمكانية العيش المشترك» وقد اشتدت نبرتهاء باعتقادناء 
حين تعاون اليهود مع العثمانيين. أثناء غزو اليمنء وذثك في الفترة التي 


168 





إشكالية لقاء الأنا وات غر اليشوةي... 


رصدتها الروايةء لهذا لمسنا تعصبا ضد اليهودء لكن الرواية لم تستطع أن 
تلقي الضوء على النسق التاريخي؛ الذي جرت فيه أحداثهاء ربما لشغفها 
بتلك العلاقة الائتثنائية بين مسلمة ويهودي؛ الذي تضمن حماس المتلقي 
متابعة السرد؛ لهذا بحث الروائي عن تفاصيل تقوّي هذه العلاقة. وأهمل 
التفاصيل التاريخية التي قد تسهم في تشتيت انتباه المتلقي؛ وتضعف 
الفكرة التي هجس بها المؤلف» وهي تبييض صفحة اليهود في اليمنء 
وغض البصر عن خياناتهم لأهلها. 

إننا حين نريط الرواية بسياقها التاريخيء نستطيع فهم لغة العنف: 
التي شابت أجواء الرواية أحياناء وإن كان من المحزن أن يلحق التشوّه 
بالأطفال؛ فيقلّدوا الكبار في اسنتخدام هذه اللغةء حتى إننا نجد طفلا 
في أثناء اللعب يريد أن ينفي طفلاء ينتمي للآخر اليهودي» إذ لا يحق له 
الانتماء إلى الوطن.. «سأله حسين ونحن نلعب أمام دكان أبيه المجاور لمحل 
أبسيء قلت له: آنا من ريدة... من هذي البلاد. صاح مش حق أبوك.. هذه 
البلاد.. أنت يهودي كاف (01. 

تحول لغة العنف الدلالة الإيجابية (اليهودي الحالي) إلى دلالة سلبية 
(يهودي كافر). ومثل هذه الصفة تنزع عنه كل الصفات الجيدة: ويبلغ 
اضطهاد الآخر ذروتهء على يد طفلء حين ينتزع من طفل آخر حق الانتماء 
للوطن (مش حق أبوك) أي أن «اليمن» ليست أرض أجدادك! 

وقد لاحظنا في الرواية أن اليهود. من حيث هم أقلية في المجتمع 
المسلم؛ حاولوا الانسجام مع النسق الديني» فالتزموا بأوامر الإسلام التي 
تضبط تصرفات المسلمين. لذلك أعلنوا التزامهم بالقانون الذي يمنع بيع 
الخمور لغير أتباع ملتهم» لكن «أسعد» ألمح إلى أنهم يضطرون «أحيانا إلى 
ذلك فبعض المسلمين يجيئون ليشتروا منا الخمرء أو نهبه مجاناء فإذا 
رفضنا إعطاءهم يقومون بتخريب ممتلكاتناء وإذا اش كينا عليهم لا ننجو 
من التخريب» وتظل شهادتهم هي المقبولةء ولو كانوا كاذبين» (12. 

نلاحظ هنا تعاطف الروائي المسلم مع الآخر اليهوديء الذي ألزم 
نفسه بمراعاة خصوصية الآخر (أي دينه) لكن التجاوز يأتي من أبناء 
المسلمين الذين يخرقون أوامر دينهم (فيشترون من اليهود الخمر) لهذا 


169 





إشكائية الأنا والآخر 


يبدو اليهودي يعيش بين نارين (إن باع أغضب ال لتزمين بالدين» وإن 
رفض أغضب غير الملتزمين) وفي كلتا الحالين تتعرض حوانيتهم للهدم» 
وتكسّر خوابي الخمر المعتق منذ سنين طويلة. وقد بلغ الروائي أقصى 
التعاطف حين تحدث عن المسلمين عبر وجهة نظر الآخر اليهودي 
«وتظل شهادتهم هي المقبولةء ولو كانوا كاذبين»» فقد فضح الجور الذي 
يتعرض له الآخرء والتحيّزات التي تمارسها السلطة الحاكمةء مثلما 
يمارسها الجهل بأوامر الدين, مما يؤدي إلى نفي العدل بين أبناء الوطن 
الواحد. لهذا لن نس تغرب أن تسهم أمثال هذه التحيزات في شيوع لغة 
التعصب لدى «الأنا» مما يولد تعصبا لدى الآخرء في حين تخلق لغة 
الحب جوا من التسامح. وتعزز الإحساس بالعدلء فتتمٌّ معاملة الآخر 
مثلما تحب «الأنا» أن تعامل. 

ولأن أحداث هذه الرواية تتم في مجتمع قروي يشيع فيه الجهل. 
ويسيطر عليه المشايخ من أشباه الأميينء لا بد أن تتيه حقيقة الدين لدى 
هؤلاء القرويين البسطاءء مما يعرز لغة التوتر والكراهية بين المسلمين 
واليهود؛ ومما يسجل للرواية أنها أتاحت للآخر (اليهودي) الذي أصيح 
«أنا» فرصة التعبير واس تخدام لغة متعصبة يواجه بها المسلم الذي أصبح 
آخرء قائلا: «عندما يظهر المسيح المخلص سنحكم أورشليم... سيجلس 
اليهودي الأصيلء اليهودي ابن اليهوديء لا أحد غيره. على كرسي ال ملك ضي 
أورشليم» وسيأمر بإبادة كل الأعداء.. هذه إرادة الرب» (13. 

ثمة تصريح هنا بلغة العداوة لدى الآخرء الذي ينتمي إلى الأقلية, 
يواجه بها الذات المسلمة:؛ فتتليّس هذه اللغة لبوس الدفاع عن النفس 
وإعادة الاعتبار لهاء وقد وصلت إلى أقصى حدٌ لها من التوتر والكراهية, 
حين أعلنت رغبتها في إبادة كل الأعداءء والتخلص منهم» وإن كنا نلاحظ. 
هناء أن اليهودي يستخدم لغة تعميميةء من دون أن يجرؤ على تحديد هوية 
العدو, أو إعلان رغبته في إبادة المسلمين صراحةء لكن المتلقي يفهم ذلك 
عبر التلميح. 

ومما يسجل للرواية أنها نوعت لغتهاء ولم تسمح للغة العنف, 
أن تسود فضاء الرواية» فالمكان المشترك. الذي يتشارك فيه المسلم 


170 





إشكالية نقاء الأنا والآخر اليهوه ي... 


واليهودي: يتيح نوعا من التواصل بينهماء لذلك لم نجد حاجزا كتيما 
يعزلهماء بل استطاع الفن (الغناء والنقش) والعلاقة الإنسانية المنفتحة 
(الحب) أن يقهر! هذا الحاجز. 

ومما هو جدير بالملاحظة أن بعض التصرفات العنيفة, التي تورث 
توترا بين الطرفين: لن يكون فاعلها إنسانا ناضجا بل طفل يهودي (حين 
نتف «سالم» شعرة بيضاء من لحية عجوز مسلم) مما يؤدي إلى إسماعه 
لغة عنيفة. مصحوبة بقرصة أذن وصرخة في وجهه: «يهودي ابن يهودي... 
ملعون» (14). كأن الروائي يريد أن يلمح أن الكبار بريئون من هذه التصرفات 
العدوانية؛ وأن المسؤول عنها هو طفل: أو هذيان مريض يفصح عما يخبئه 
لا شعورهء لهذا نجد «هزاع» أشاء مرضه» وهو الأخ الأكبر ل «سالم» 
يمستخدم لغة هذيانية استعلائيةء تعلن عن رغبته المكبوتة في انتصار 
اليهود على كل من يحيط بهم من المسلمين: فنسمعه يؤكد بغضب «مجيء 
يوم يظهر فيه المسيح المنتظرء الذي سيحول الملك إلى اليهود ... في ذلك 
اليوم سأنتقم من كل المسلمين. حتى الذين لم يفعلوا شيئاء يكفي أنهم 
صمتواء سأسقط الأجنة قبل أن يولدواء (15. 

لم يكتف هنا اليهودي بلغة التلميح بل نجده يصرح؛ وإن كان عبر لغة 
هذيانية نتيجة الحمى» عن رغبته الانتقامية من الممسلمينء ليس فقط 
ممن أساءوا له بل حتى من الأبرياءء بل تصل اللغة الحاقدة ذروتهاء حتى 
لتصيب الأجنة قبل أن يولدوا! مما يوحي برغبة في أن ترافق اللغة العنيفة 
الأفعال المرعبة مثل «بقر بطون الحوامل». ١‏ 

ولعل من أهم مزايا الرواية أنها فضحت رجال الدين الجهالء الذين 
يبتعدون عن روح الدين السمحة: فيؤجُجون العداوة بين المسلمين وأهل 
الكتاب: لذلك نجد إمام الجامع (شيخ الفتنة) يقول لليهود : «متى سترحلون 
إلى بلادكم5... أنتم تقولون إن بلادكم بيت المقدس... روحوا إليها... كلامه 
يثير لدى أبي وأسعد الكثير من التوتر والقلق» (ص35). 

إن مايؤخذ على هذه الرواية أنها لم تعط مبررات منطقية أو 
تاريخية لهذه العداوة. لعل المبرر الوحيد الذي قدّمته هو أن زواج 
الشابين المختلفين في الدين هو السبب في شيوع لغة العنف بين الكبار 


171 





إشكالية [كأنا والآخر 


دورا مرسوما في مخيلة الروائيء بغض النظر عن ظروف أحاطت بهاء 
وأثرت في رؤيتها وسلوكها. 


صورة المرأة اليهودية 

لم تستطع الرواية تجاوز الصورة التمطية للمرأة اليهوديةء التي 
تضعها ضمن إطار س لبي (المومس) إذ جاءت إلى القرية التي يسكنها 
اليهود (الريدة) ثلاث عاهرات بعد أن هدّدهن فقهاء مسلمون بالقتل. 
إذا لم يرحلن من صنعاءء وكما تقتضي آثيات هذه الصورةء استطاعت 
النسوة جذب رجال من علية القوم» مما أثار كثيرا من اللفط. واتهمن 
بإفساد أولاد المسلمين وبناتهم. وقد هريت إحداهن من العقوية بالزواج» 
لتتلقاه الاثنتان الياقيتان: فقد «اجتمع يهود ومسلمون لينقذوا حدّ الزنى 
برجم المرأتين الأخريين بالحجارة حتى الموت... شباب. من الملتين؛ هالهم 
رجمهماء ظلوا يصرخون بأنهم. أيضاء زناة. يس تحقون العقاب» 16 وقد 
وحّد هؤلاء الشباب لعدة أيام اليكاء على المرأة الجميلةء التي ماتت بتلك 
الطريقة القاسية. 

تبلغ حماسة الروائي في رسم صورة الآخر حدا من المبالغةء ينسى معها 
اللغة الموضوعية: التي من المفترض أن يتحلى بهاء فقد أدهشنا بكاء الشباب 
من الملتين؛ من دون استثناء؛ مما يؤكد توحد مشاعرهم: ورفضهم عقوبة 
المرأة الزانية, مثلما تؤحدوا في إجراءات العقوبة كأن علي المقري قد نسي 
خصوصية كل دين في تنفيذهاء فالرجم حتى الموت في الدين اليهوديء في 
مقابل عقوبة الجلد في الإسلام للرجل والمرأة على السواء(*). 

لا أدري لم يلجأ الروائي إلى إلغاء خصوصية الدين الإسلامي؟ ويتبنى 
وجهة نظر الدين اليهودي في عقوبة المرأة الزانيةة هل ثمة رغبة لديه في 
تأكيد النظرة التقليدية الشائعة عن الدين في اضطهاده للمرأة؟ 

ولكن مما يسجل للرواية أن انفتاح شخصية «فاطمة» قد تأسس على 
ركائز دينيةء فقد اختارت اتباع فقيه متفتح؛ يبيح لها الزواج بمن يخائفها 
(#) الجلد هو عقوبة غير المحصنين. أما عقوبة الزنا للمسلم المحصن فهي الرجم حتى الموت. 
العقوية متشابهة فعلا في الدينين الإسلامي واليهودي |التحرير]. 


172 





إشكائية ناء الأنا والآخر اأيهوة ي. ٠.‏ 


في الدين؛ على نقيض ذلك وجدنا التقاليد لم ترحمها سواء في القضايا 
المصيرية (الزواج) أم في القضايا الصغيرة (منعتها من ركوب الحمار 
والخيل) مثلما منعت هذه التقاليد اليهودي» يقول سالم «الحمار نركبه 
بشرط ألا نمر أثناء ذلك من أمام مسلم يكون جالسا. بائع الحمار لم 
يسلمني إياه ليلة أمس إلا بعد أن ردّد كثيرا هذا الشرط. وكأنه أرادني أن 
أحفظه إلى الأبد» (17). 

وهكذا يشترك النسق الاجتماعي المتخلف مع النسق الديني المغلق, 
البعيد عن روح التسامح» في اضطهاد «الأناء والآخر اليهودي معاء ويذلك 
وحدت المعاناة الاجتماعية بين المرأة والرجل. الذي ينتمي إلى الأقلية. 
وأسهمت في تقاريهما أكثرء من دون أن ننسى دور هذين النسقين في 
تعزيز العلاقة المشوهة بين الذات والآخر. 


التناص وروح التسامح 

استطاعت الرواية أن تخفف من ضغط التقاليد المتخلفة. حين أسست 
لعلاقة استثنائية بين «فاطمة وسالم» فلم تفدها بالمشاعر فقط؛ بل 
بالثقافة الروحية, التي تؤسّسها الكتب المقدسة؛ فقد استخدمت «فاطمة» 
القرآن الكريم وعرّزت رأيها بآية تعترف للآخر بحق الاختلافء وتكثف 
دلالة حرية الاعتقاد «لكم دينكم ولي دين» (سورة الكاضرون, الآية 6) مثلما 
استخدمت الحديث الشريفء كي توسّع دلالة الوحدة الكونية التي تجمع 
الإنسانء أيا كانت هويته وعقیدتهء في وحدة النشأة والمصير «كلكم لآدم 
وآدم من تراب». 

وقد أسهمت الكتب وخاصة الصوفية منها في تمتين العلاهة بين 
المحبينء لهذا ترسل العاشقة كتاب «طوق الحمامة» و«رسائل» أبي بكر 
الرازيء و«الطبقات في شعراء اليهود» الذي يضم أخبارا عن شعراء 
يهود وقصائدء كتبوها بالعربية في العصور السابقة للإسلام وحتى 
العصر العباسي. 

يؤكد لنا الراوي أن اجتماع الثقافة ومشاعر الحب بين الأنا والآخر 
يفسح المجال لبزوغ علاقة منفتحةء يسودها التسامح واحترام خصوصية 


173 





إشكالية الأنا والآخر 


الاختسلافء مما يؤدي إلى مقاومة مختلف الإكراهات التي تنتمي للعقل 
فيدمّر إمكانية ازدهار إنسانية الإنسان: إذ ينبن التواصل مع المختلف. 
فينبذ الغنى في الحياة؛ لينشر الظلمة والموت والدمار. 


كيف نتجاوز إشكالية الأذا والآخرة 

كثيرا ما تؤدي إشكالية الأنا والآخر أي توتر العلاقة بينهماء إلى رسم 
صورة مشوهة للذات وللآخرء إذ يضع كل واحد منهما الآخر في قالب 
نمطسيء وقد أتاحت هذه الرواية للمتلقي معايشة قهر التقاليد وجمود 
العقلء مما يسهم في نفي الآخر وإعلاء شأن «الأنا» لكننا وجدنا شخصيات 
تتجاوز هذه النمطيةء حين تتساح بالمعرفة؛ لهذا كان تعليم الآخر القراءة 
والكتابة وسيلة لمقاومة هذا القهرء وتطوير العلاقة بين «فاطمة» واليهودي 
«سالم» لتصبح علاقة ندّية. ا 

كما بيّنت لنا رواية «اليهودي الحالي» الدور الحيوي للأجيال الشابة 
في تقبل الآخرء على نقيض جيل الآباء. الذيسن حتى حين يقبلون فكرة 
الانفتاح المعرفي على الذات الإسلامية وثقافتهاء فإن ذلك لن يكون من 
دون خوف من أن تؤدي هذه المعرفة إلى إلغاء الخصوصية: لهذا يخاطب 
والد «سالم» ابنه قائلا: «تعلم لديهم القراءة والكتابةء هذا معقول. لكن 
انتبه» حذار أن تتعلم دينهم وقرآتهم... هم مسلمون يا ابني» ونحن يهود ... 
هل فهمتنى؟» (18), 

لن يؤدي الانفتاح المعرفي إلى إلفاء هوية الآخر الدينيةء إذ ثمة آفاق 
إنسانية رحبةء تضم البشرء مهما كان تنوع دياناتهم وأعراقهم وأفكارهم... 
إلخء لهذا استطاعت «فاطمة» أن تتجاوز حدودا وضعتها السلطة الأبوية, 
وأصفت إلى نداء داخلي خفق به قلبها المؤمنء فنشر حوله المحبة 
والتعاطفء لهذا لن نستغرب إصرارها على تعليم «سالم» آيات قرآنية, 
وقد ظنت أمه الجاهلة «أن ابنها يردد أشعارا عربية؛ فيها كلام جمالي 
عن الشمس والقمر ورزق الله لليتيم. (يردٌ زوجها) هذا قرآن دين الإسلام 
هذا ... سيفسدون ابن اليهودي» (19), 


174 





إشكالية لاء 'لأنا والآخر اليهودى... 


على الرغم من حضور الدلالة الإيجابية للتناص القرآني؛ هناء 
بجمالياته الطبيعية (الشمس والقمر) وجمالياته الإنسانية (الرفق 
باليتيم) لكن والذ «سالم» لا يهتم بهذه الدلالةء لذلك يفسر فعل تعليم 
الولدء الذي قامت به فاطمة بنقيضه (أي بالإفساد) لهذا يقول الوالد 
إنها أشعلت «حريقا في الحي اليهودي» مع أنها لم تفعل شيئا سوى 
تعليم «سالم» القراءة والكتابة. لكن الرّهاب من هيمنة ثقافة الأكثرية 
المسلمةء وضياع هوية الأقلية اليهودية وذوبان خصوصيتهاء يدفع الأب 
إلى إيقاف تعليم ابنهء ومنعه من زيارة «فاطمة» التي أقلقها هذا الخوف. 
وآلمها أن يُساء فهمهاء فقررت الحوار مع والد «سالم» لعلها تسهم في بناء 
جسر مشترك بينها وبين العائلة اليهودية, كي تبعد التشوّه عن صورتهاء 
أو بالأحرى عن ثقافتهاء ومن أجل ذلك قامت بمفامرة: لم تقم بها 
مسلمة من قبل. كي تحاول تحطيم الحواجز, التي بنتها الأوهام بين الأنا 
والآخرء فحاولت أن تقيم جسرا بينها وبين الآخر عن طريق التواصل 
الإنساني والحوار مع الآخر. لذلك قامت بزيارة الحي اليهوديء لتفتح 
صفحات المعرفة والتعارف بين «الأنا» والآخر. كي تتفي أي سوء تفاهم 
بيتهما . لهذا تقول له: «أعت عتقد أنك غاضب من قراءته لعلم العرب» بدا 
أنه فوجي بقولها. تمتم ببضع كلمات, كأنه يرتبها لتكون أقل إزعاجا . 
سآقول لك الحقيقة.. أنتم مكانتكم غالية وكبيرة عندناء وأبوكم على 
رأسنا وعيونناء والمسلمون كلهم سادتناء ولا نقول لهم لا أبدا... (لكنه) 
حدثها عن رغبته في عدم تعلّم (ابنه) القرآن» أوضحت له: «ما درستهء 
هو علوم في اللغة العربية. حتى يعرف القراءة والكتابة. أنا أعرف أنه 
يهودي, لكم دينكم ولنا ديننا. لا توجد مش كلة. كلنا من آدم وآدم من 
تراب. اللغة ليس فيها دين فقط؛ فيها تاريخ وشعر وعلوم. أقول لك 
والله. توجد كتب في رفوف بيتناء لو قرأها الممسلمون سيحبون اليهودء 
ولو قرأها اليهود سيحبّون المسلمين» 20. 
نلاحظ أن اليهودي تحدث بلغة المجاملةء التي تعلي من شان الذات 
الإسلامية (مكانتكم غالية وكبيرة, أبوكم على رأسنا وعيوننا) لكن سرعان 
ما تتحول إلى لغة تعظمهاء وتستصغر شأن اليهود (المسلمون كلهم سادتنا) 


175 





إشكالية الأنا واكآخر 


بل تجسد خضوع الآخر بإرادتهء إذ يسمع المتلقي صوت الآخر عبر صيغة 
جماعة المتكلمين تعلن ذلك (ولا نقول لهم لا أبدا). 

يعايش المتلقيء هناء صوت الأقلية اليهودية: التي تخاف غضب 
الأكثرية, لهذا تمسخ ذاتهاء وتلغي إرادتهاء فتعترف بتبعيتها لهاء وعدم 
جرأتها على الاعتراضء أي بعدم ممارستها لحريتها. لكن «فاطمة» 
تستخدم لفغة حوار مطمئنةء تحترم خصوصية الآخرء لكم دينكم ولنا 
ديتناء وقد بدت لغتها ذات مصداقية وحيويةء لكونها مستمدة من 
مرجعيتها الدينية, التي بدت منفتحة: قادرة على تغيير وعي الذات 
والآخر معاء لذلك تمكنت من تجاوز لغة مألوفة في مجتمع متخلف. 
يحكمه الجهل» ويشوه علافاته. من دون أن تكون صادمة للمتلقي, بل 
بدت جزءا من مرجعيته الدينيةء التي يعيشها كل يوم» وهذا - في رأيي 
- إنجاز يحسب للروائي علي المقريء إذ لم يجعل الش خصية المنفتحة 
غريبة عن تراثهاء او بالأحرى غريبة عن مرجعيتها الدينية. فقد أعلت 
شأن الثقافة: وبيّنت دورها التنويري في إرساء مشاعر المحبة بين البشر 
سواء أكانوا مسلمين أم يهوداء ثم أكدت انطلاقا من تلك المرجعية حقيقة 
وحدة الانتماء الإنساني ووحدة المصيرء كلنا من آدم وآدم من تراب» كي 
تؤسس لثقافة تنبذ لغة الاستعلاء على الآخر المختلف. وتتمكن من 
التأثير فيه. لهذا تغلغلت هذه الدلالات بلغتها المنفتحة في ضمير الأب 
وعقله. فوصف كلامها ب «الحالي. يدخل القلب ويزن العقل». 

أسهمت هذه اللغة الحواريةء التي تحترم خصوصية الآخر في إلغاء 
المشاعر السلبية (التعصب والرفض والخوف) وإزالة سوء التفاهم بين 
الأتا والآخرء لهذا وافق الوالد على أن تتابع «فاطمة» تعليم أبنه, 
قائلا: «ما تريدينه اعملیهء علّميه الذي ترغبينه. أنت سیدتناء عيوننا 
وتاج رأسنا». 

ما يلفت نظر المتلقي في لغة الآخر هو شيوع لغة المجاملة النمطية, التي 
تذعن للذات المسلمةء كأننا نعايش» هناء اعتراف الأقلية اليهودية بتبعيتها 
لهاء كي تستمد الحماية من الأكثريةء فتنبن لغة العقل التي استخدمتها في 
مدح «قاطمة». 


176 





إشكالية لقاء الأنا واكآخر اليهوة ك4.. . 


تبلغ حماسة الروائي لوجهة نظر بطلتهء أثناء حوارها مع اليهوديء درجة 
غير مقبولةء فلا يكتفي بتبني وجهة نظرها من قبل الآخر (والد سالم)ء بل 
يبالغ في تصويز تأثير منطقها فيهء حتى إنه يوافق على أمر يتجاوز حد 
المشاعرء التي تكاد تكون متأصلة في أعماق كل آب» ينتمي إلى الأقلية. إذ 
يدهشنا أن يرضى بتغيير ابنه «سالم» لدينه. وضياع خصوصيته! فهو «لا 
يمانع حتى لو أصيح مسلما» (21), 

يحس المتلقي بأنه أمام لغة مهيمنة على الآخرء تنتصر لوجهة نظر 
الذات (فاطمسة) التي هيء فيما يبدوء وجهة نظر المؤلف» التي تكمن 
في لاوعيه. أسقطها على لسان بطلتهء مما أفقد العلاقة روح الندية 
بين «الأنا» الممسلمة والآخر اليهودي! فإفتقدت الرواية حياديتها أي 
موضوعيتهاء التي بذل الروائي جهده لتأكيدهاء إذ ليس من المعقول 
أن يغير رجل رأيه في أمر؛ يمس صلب عقيدته بعد حوار قصير مع 
فتاة مسلمة. صحيح أن الحوار يمد جسور تواصل وتفاهم بين «الأنا» 
والآخرء لكن لا يمكن أن يلغي الآخرء على إثره. دينه وخصوصيته؛ التي 
تربى عليها زمنا طويلا. هل ثمة رغبة لاشعورية لدى علي المقري في 
انتماء الأقلية إلى ثقافة الأكثرية؟ة أي تسللت لغة الهيمنة من خلال 
اللاوعي إلى لغة الروايةء التي حاولت أن تبدو في ثوب موضوعي 
منصف ل «الأنا» والآخشر معا. 

لكن مما تجدر الإشارة إليه أن المؤلف ثم يكرر هذه الجملة الإلغائيةء 
التي تعلي من شأن الذات على حساب الآخرء بل حاول عبر سيرورة 
أحداث الرواية وتفاعل شخصياتها المنتمية للثقافتين الإسلامية واليهودية, 
أن يؤكد إمكانية تواصل هاتين الثقافتين: فقد نجح الزواج؛ ببعده الواقمي 
والرمزيء لابتعاده عن لغة الهيمنة والإلفاء. 

وخير دليل على عدم هيمنة اللغة الإقصائية شيوع العرض المشهديء 
الذي يرتكز على حوار الطرفين: مما يتيح الفرصة نفسها ل «الأنا» 
وللآخر من أجل التعبير ذاته. وطرد الأوهام التي تحاصر رؤيته: فيشوّه 
نفسه وغيره معاء وبالتالي يسهم الروائي في تأسيس علاقة معافاة 
بين الأنا والآخرء تقوم على المعرفة والحوارء لهذا يلاحظ المتلقي أن 


177 





إشكائية الأنا والآخر 


الشخصيةء حين تعيش معزولة عن الآخر (كأم سالم)ء تسيطر عليها 
لغفة الكراهية, التي تنفي المخالف لها عن جادة الإيمان: حتى إنها 
تصف المسلمين ب «الكفار الملاعين» لتنفث عبر لغتها مشاعر العداء 
والرفض.ء مما يفصح عن «زهاب» يكبر في أعماقهاء يغذيه الجهل 
والبعد عن التواصل الإنساني والحوارء مثلما يغذيه إحساس الانتماء 
للأقلية. وبذلك لا نس تطيع أن نقول بأن المرأة أكثر تشددا من الرجل؛ 
بل يمكننا أن نرد عداءها إلى حياة الجهل والعزلة المفروضة على المرأة 
في القرن السابع عشرء لهذا بدا صوتها نقيضا لزوجها غارقة في رؤى 
مظلمة كارهة. 

ومما يمسجل للرواية أنها تجاوزت هيمنة الصوت الذكوري. حيث 
يمقح المؤلف الرجل البطولة الروائية: إذ منحها للمرأة (فاطمة) التي 
بدت شخصية رئيسة نقيضة للصورة النمطية للمرأة الشرقيةء سواء 
أكانت يهودية أم مسلمة, لهذا استطاع الروائي أن يجسّدء عبر أقوالها 
وأفعالهاء قدرة العقل المنفتح على التغييرء باعتماده على المعرفة 
والحبء وقد أتاح للمتلقي» عبر هذه الشخصية وفاعليتهاء معايشة 
آليات هذا العقلء الذي ينطلق من مبدأً التعامل الندي بعيدا عن 
لغة الاستعلاء. فهي تحترم ثقافة الآخر, وتنظر بندية إليهء فتهتم 
بأن تتبادل معه المعرفةء لهذا سعت إلى تعلّم لغة اليهودي (العبرية) 
مثلما علّمته «العريية» و«بعد أقل من سنة أجادت قراءة العبريةء قالت 
لي بأسلوبها المحبب لدي: لو تتفضلوا أو تتكرموا وتعلموني الشريعة 
اليهودية: لأعرف هل توافق ما قرأته منها وعنها في الكتب العربية؟ 
قلت: لم يبق» بعدهاء إلا منافستك الحاخام نفسه. ضحكت: أنتم أبناء 
عمومتناء وأحيتنا في الله وجيراننا» (22. 

تنطق الشخصية المنفتحة لغة متسامحة تأسر المتلقي» خاصة بعد أن 
لمس القدرة على المرح» فقد استطاعت لغة المزاح بين المختلفين؛ أن تجعل 
الاختلاف موضوعا محببا بين الطرفين «لم يبقّء بعدهاء إلا منافستك 
الحاخام نفسه». مما يشيع جو الود والتفاهم بين الأنا والآخر بعيدا عن 
القلق والخوف. 


178 





إشكائية لقاء الأنا والآفر اليهوةي... 


إن لغة التسامح تفتح عيني المتلقي على حقائق تاريخية وثقافية. 
غالبا ما يتمّ السكوت عنهاء تجعل اليهودي شريكا فاعلا في الحضارة 
الإسلاميةء التي ثم تعرف اضطهاد الآخر, لهذا بدا اليمن للمتلقي مكانا 
للعيش المشترك» الذي يستطيع أن ينمي أحاسيس إيجابيةء تقوم على 
تقبّل الآخر واحترام خصوصيته» مما أدى إلى خلق بيئة مناسبة لازدهار 
العلاقة بين الشاب اليهودي والفتاة المسلمة في ظل ثقافة تعزز أواصر 
المحبة وعوامل اللقاء لا العداء. فتنتعش أواصر القرابة الروحية: التي 
نسجتها المرجعية الدينية. فنجد الشخصية المتدينة (فاطمة) تعترف 
بقرابة اليهود «أنتم أبناء عمومتنا» وتجعلها قرابة إنسانية: تقوم على 
الدم المشترك» الذي يسيل في العروق؛ مما يعزز مشاعر المحبة بين 
الناس جميعاء وكذلك تلتفت إلى القرابة الجغرافية؛ التي قد تؤدي إلى 
قرابة روحية. خاصة في ظل قيم دينية توحد اليشر ولا تفرقهم (أنتم 
أحبتنا في اللهء وجيراننا). 

لعل أهم إنجاز ل «علي المقري» أنه استطاع أن يرسم نمطا جديدا 
للشخصية المتدينة (فاطمة) قلما نجدها في الرواية العربيةء تجسشّد 
الانفتاح على أصول الدين (القرآن والحديث) وبعض تفاسسير الفقهاء 
المتتورين» وبفضل هذه المرجعية عاشت المرأة المسلمة حياتها متسامحة 
مع الذات والآخرء لهذا رأت أن تستند إلى فتوى الفقيه «أبي المعارف بهاء 
الدين الحسن بن عبدائله» التي تحلّل زواجها من شاب» يختلف معها في 
الدين: لهذا تقول: «قراري هذا وصلت إليه بعد أن درست أقوال الشريعةء 
ورأيت فيها بحر اختلاف يجمع علماء الإسلام من دون اتفاق» وكان دليلي 
لقراري الإمام الجليل أبو حنيفة الذي أبهجني بإجازته للمرأة البالغة 
الراشدة تزويج نفسها من دون ولي أمرء وزادني سرورا المجتهد اللبيب أبو 
المعارف بهاء الدين الحسن بن عبدالله بفتواه المدونة في التصاريح المرسلة 
التي يجيز فيها للمرأة الزواج من يهودي أو نصراني» (23. 

يحس المتلقي أن الفتاة الممسلمة بزواجها من يهوديء تتحدى النسق 
الاجتماعي التقليدي؛ الذي تنتمي إليهء مما يدهش المتلقيء أنها بنت 
تحديها هذا على أسس معرفيةء فقد اطلعت من أجل شرعية زواجها على 


179 





إشكالية الأنا والآخر 


وجهات نظر مختلفة اختلافا شاسعا (بين مؤيد ومعارض) وقد تحوّل هذا 
الاختلاف إلى رحمةء إذ استطاعت أن تختار منها ما يناسبهاء من دون 
أن تخرج على مرجعيتها الإسلامية: لهذا تبنت في مسألة زواجها رأي 
فقهاء عرفوا بمرونة التعامل مع قضايا المرأة. من دون أن يتجاوزوا أساس 
التشريع الإسلامي (القرآن الكريم) الذي يسمح للرجل بالزواج من كتابية, 
ولم نجد فيه نصا يمنع المرآة من ذلك. ويذلك وجدت المرأة المثقفة (فاطمة) 
في الدين الإسلامي داعما لها في تحررهاء على نقيض ما يشاع من قهر 
الدين للمرأة الممسامة. فعايش المتلقي بفضلها حيوية التعامل مع الموروث 
الديني» والقراءة المتعددة له؛ مما أسس للغة منفتحة على الحياة والإنسان. 
تنطلق من فهم حقيقي لروح الدينء الذي يخاطب الناس كلهم بغض النظر 
عن دينهم وعرقهم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم 
شعوبا وقبائل لتعارفواء إن أكرمكم عند الله أتقاكم...2ء وبذلك يبيّن 
النص القرآني» الذي يعد أهم مرجعية للمسلمين. أن التنوع والاختلاف 
وسيلة تعارف وانفتاح لا عداوة وكراهيةء وأن التقى هو محل التمايز فقط. 
لهذا احتل مكانة عليا في القرآن الكريم. لأنه يعني امتلاك صفات حميدة. 
تقرّب المرء من الله مثلما تقرّيه من البشرء وبفضل هذه الروح استطاع 
الشابان تجاوز التقاليد المتخلفةء التي تقيم هوة بين الذات المسلمة والآخر. 
وبذلك يمكننا القول «بإمكان العقل المنفتح: ولو كان يعمل على النص»؛ أن 
يستعيد نفسه: عبر المنقول: علوما وميادين معرفة وخطابات استدلالية, 
فيجدد بذلك العقل والنقل على السواء» (25). 

لقد بدت الشخصية (فاطمة) في تمردها مخالفة لأفق توقع المتلقيء 
حين أسّست لزواجها من يهودي على هذه المرجعية الإسلاميةء وبذلك 
تجسد إيمانها بالدين فعلا وقولاء إذ رفضت الخضوع لتقاليد تقهر الآخر, 
وتعزز استعلاء الذات عليه. وأصرّت على «سالم» الممنوع من الركوب أمام 
مسلم» أن يركب الحمار آمامهاء عندئذ انتابته مشاعرء لم يعرفها من قبل: 
«شعرت أنني في حلم لم أتخیلء في يوم؛ ظهوري على مركوب أمام مسلم, 
فكيف أصدق أنني أمضي أمامه راكبا بوجوده ورغبتهء أما وقد صارت 
مسلمة زوجتيء فإنني لست في حلم» بل في أكبر حلم» (6©. 


180 





إشكالية لقاء اها والآخر الوهوهى... 


قدّمت لنا هذه الرواية تجرية فريدة في معالجة إشكالية «الأنا 
والآخر». إذ أزالت الأوهام والأفكار المشوهة التي تعشش في المخيلة؛ بعد 
أن أخضعتها للقعايشة اليوميةء مما أتاح الفرصة لربط فكر الشخصية 
بسلوكهاء إذ انعكس لديها الفهم المنفتح للدين عبر مشاعر الحبء والابتعاد 
عن مشاعر التمايز والاستعلاء وبذلك جسّدت لنا الرواية انتصار الإنسان 
على عادات عمياء تمعن في اضطهاد الآخر. وتقصيه. فعايش المتلقي 
برهة تكاد تكون استشائية في حياتناء يقضي الفكر المنفتح النابض بالحب 
على المشاعر السلبية: وينبذ عادات متخلفة. تسيطر على بعض أفراد 
المجتمع؛ وتؤدي إلى تشويه الحسٌ الإنساني. مثل تحريمها على اليهودي 
ركوب الحيوان أمام مسلم» وحين تتساهل تسمح له بالرکوب» بعد أن تقيّده 
بشروط سخيفة؛ إذ تحدد نوع الحيوان (الحمار) الذي يركبهء وتشترط ألا 
يكون ذلك أمام المسلم... وقد واجهت البطلة مثل هذا الانغلاق الفكري. 
وانتصرت لقيم إنسانية تزيل التوتر وسوء التفاهم بين «الأنا» الممسلمة 
و«الآخر» اليهودي. 

يبدو حضور الشخصية النسوية (فاطمة) أشبه بحضور ملاك حارس 
لقيم علياء فقد أشاعت قيم الحب والانفتاح في فضاء الروايةء لكنها لا 
تكاد تموت.» حتى تفيب معها تلك القيم» التي تعرز التواصل الإنساني 
الاستشنائي بين الأنا والآخرء لذلك تتحول حياة «سالم» بعد وفاتها إلى 
رحلة عذاب» فقد تكش ف لأهل القرية اليهود حقيقة أنها «مسلمة» لهذا 
نسمع زوجها يقول: «حاولت أن أفهمهم أنها تزوجتني بعد اقتناعها أن ذلك 
لا يتعارض مع الإسلامء وأنها لم تطلب مني أبدا تغيير ديني» بل لم تسألني 
في أي يوم: ما هو دينكف». 

يكشف «سالم» للمتعصبين من اليهود ضيق أفقهم: وأنهم يناقضون 
الفكر المنفتح: الذي عاشته «فاطمة» ويبيّن لهم أن طريقها لم يكن 
سهلاء كما يكشف تميّزْهاء إذ بدت متمرّدة على المرجعية الاجتماعية 
التقليدية. من دون أن تتمرّد على المرجعية الدينية؛ التي اتخذتها 
نقطة انطلاق في بناء حياة جديدة, وبذلك لم تيدأ من الصفر في 
علاقتها مع الآخرء بل أتاحت لها ثقافتها العميقة البحث عن سند 


181 





إشكالية الأنا والآخر 


شرعي لزواجهاء من دون أن تلغي خصوصية زوجها (اليهودي) وقد 
ألمح الراوي إلى أنها احترمت هذه الخصوصية حتى آخر لحظة في 
حياتها! وكانت سندا معنويا وفكريا تزوجها «سالم» لذلك لن يستغرب 
المتلقي شعور الرجل بالضياع والوحدة إثر وفاتهاء فقد حاصرته 
مشاكل اجتماعيةء نتيجة تعرفه على الوجه المتعصب للناس» ولكن 
ذكرى فاطمة وأفكارها المتسامحةء صاحبته: وأنقذته من شكوك 
إيمانية. مما شجعه على المضي باتجاههاء «أعني دخول الإسلام ليس 
لأنني أعتقده ديناء بل لأنني أردت حمل صفة منهاء صفة دلتها إليّ. 
فاختارتني زوج حياة وأمل» (27). 

يخاف الرواتي أن يظن المتلقي أن إسلام بطله إسلام تقليديء لهذا 
طمأنه بأن رغبة «سالم» في التواصل الروحي مع زوجته «فاطمة» بعد 
وفاتهاء هي التي دفعته ليؤمن بدينهاء فيصبح امتدادا لها في صفاتها 
(التسامح والمحبة والعطاء). هنا يحس المتلقي بقلق يعانيه الروائي» فهو 
يريد أن يجعل إسلام بطله بعيدا عن المعتقدء قريبا من صفات وقيم 
جسّدتها البطلةء وبذلك يفصل بين الدين كمعتقد وصفاته الس لوكية, 
مع أن القرآن الكريم لم يعرف هذا الفصلء لهذا كان يوجّه خطابه 
دائما إلى «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» وبذلك يجسّد الروائي قلقا 
في فهم الإسلام إذ تبتى «سالم» سلوكه لا معتقده. مع أن الإيمان 
في الإسلام هو ما وقر في القلب وصدقه العمل كأن المقري يريد أن 
يمسك العصا من الوسطء فلا يلغي عقيدة بطله اليهودي» ولا يحرمه 
من السلوك الإسلاميء الذي جسّدته «فاطمة». 

يلاحظ المتلقي أنه مع موت البطلةء بدأت معاناة «سالم» من 
التعهصبء الذي تجلى لدى الأفراد والمؤسسات معاء لكن يفاجاً المتلقي 
بأنه أعلن إسلامه رغبة في التواصل مع صفاتهاء التي لا تعرف الموت. 
والتي يستطيع بها أن يواجه فقهاء الظلام: الذين لا يقتنعون بإعلان 
«سالم» إسلامه» إلا بعد أن يفرضوا تعاليمهم عليهء لذلك يقول: كان 
كل همهم «تغيير اسميء والتآکد من ختاني أو تجديده أو قص زناري» 


182 





إشكالية نقاء الأنا والآخر اليهودريى... 


وحفظ المذهب الذي سأصبح تابعا له... لو تكرمتم وتفضلتم علينا 
بالسماح بتسميتقا عبد السلام أو عبد الودودء أو عبد الحبيب» سيكون 
هذا من رحمتكم وعطفكم عليناء» (28. 

أفسح الروائي المجال بعد وفاة «فاطمة» لأصوات فقهاء الظلامء 
الذين يشكلون نقيضا لقيمها المتسامحةء فهم يهتمون بالشكليات» حتى 
إنهم يتمادون في قهرهم للإنسان (سواء أكان مسلما أم غير مسلم) إذ 
يحرم «سالم» من ممارسة حريته حتى في اختيار اسمه بعد إسلامه؛ فهو 
يريد اسما يقرّبه من روح فاطمة المسالمة الودودة المحبة (عبدالسلامء 
عبد الودودء عبدالحبيب) لكنهم يرفضون رجاءه. فقد أرادوا أن يعبروا 
عن فرحتهم بهدايته للإسلام: ففرضوا عليه اسم عبدالهادي مضيّقين 
أفق القيم الإسلامية السمحة: لكن ذكرى «فاطمة» تنقذه من هيمنة 
هؤلاء الفقهاءء وتحرّره من تلك الرؤية المتعصبة للإاسلام. لهذا حين 
سألوه عن اسم المذهب الذي لقّنوه إياه. بصفته المذهب الصحيح؛ 
وماعداه يعد باطلاء كاد يقول لهم: إنه «مذهب فاطمة». 

لن تتغير الصورة المشوّهة للآخر إلا بنفضح التعصب الذي يعززه 
فقهاء السلطان بين آبناء المجتمع الواحد. فقد اضطهدوا المسلمين 
الذين لا ينتمون إلى مذهب الإمام» مثلما اضطهدوا غير المسلمين. 
فقد «فرضت عليهم ضريبة مضاعفة: مثلهم مثل س كان البلدان غير 
الإسلامية, كان الغازون يتصالحون معهم» ليبقوا في حالهم: مقابل ذفع 
ضريية العشر..» (29). 

ينفي المتعصبونء الذين هم فقهاء الظلام والسلطان. الآخر المختلف 
(في الدين أو المذهب)» وبذلك يتجاوزون أحكام الدين السمحة؛ فيبدون في 
هيئة جباة للأموال لا دعاة للدين وقيمه العلياء وبذلك يبرّر هؤلاء الفقهاء 
لأصحاب السلطان العدوان على تعاليم الدين الإسلاميء ليفوزوا بأكبر 
قدر من الضرائب! وقد غيّر الروائي اسم هؤلاء الذين يقاتلون المسلمينء 
ويضطهدونهم» لكونهم لا يشاركونهم في المذهب, ولشّبهم ب «الغازين» ليؤكد 
الدلالة السلبيةء التي يستحقون حملها. 


183 





إشكالية الأنا والآخر 


يعيش المتلقي سوء فهم تبرزه القراءة المتسرعة للرواية إذ نجدها 
توحي بصورة مشوهة للذات في تعاملها مع الآخرء فقد يظن أن ثمة 
بعض التقاليد في القرية اليمنيةء قد وصلت إلى حد لامعقول من 
التعصب» حين تحرّم على الآخر اليهودي أحد أنواع الطعام «أبي قال 
لي: إن اليهود لا يحق لهم أكل الحلوى العدنية». فلفظة «لا يحق» توحي 
لنا باستعلاء القرويين في اليمن على اليهودي. لكننا سرعان ما نكتشف 
أن هذا المنع يطبق على فقراء المسلمين واليهود. مما يخلق إحساسا 
مشتركا من القهر لديهم جميعاء وبذلك يستنتج المتلقي أن هذا المنع 
لا علاقة له بالتقاليد. بل بالانتماء الطبقيء فقد وصّح لنا الصوت 
نفسه (الطفل سالم) لماذا منعت الحلوى عليهم.. «شرح أبي ماذا تعني 
كلمة اليهودء وماذا تعني الممنوعات عليهم. وليس من بينها الحلوى 
العدنية طبعا: هذه الحلوى تجلب من عدن. هي مرتفعة الثمن. ولا 
يأكلها إلا الإمام وعمّاله وحاشيتهء لا يستطيع الحصول عليها لا اليهود 
ولا المسلمون» (30). 

لقد ود القهر والانتماء إلى طبقة واحدة المسلمين واليهود, 
لهذا يتشارك فقراؤهما في الحرمان من الحلوى العدنيةء التي 
يتناولها أصحاب السلطةء وبذلك تتاح لناء عير هذا المشهدء 
معايشة الاستيداد السياسي في تجلياته الاجتماعية المظلمةء التي 
تقهر الإنسان بفض النظر عن ديتهء فتحرمه من أبسط حقوقه 
الاقتصادية والاجتماعية. 

تنتمي «فاطمة» إلى الطبقة الوسطى. التي تمتلك القدرة على 
التعلّمء وهي القدرة التي تعرز الانفتاح الثقافي. لهذا استطاعت أن 
تعيش علاقة متميزة مع الآخرء في حين نجد أن الحياة القاسية التي 
يعيشها الفقراء من المسلمين: تغرقهم في غياهب الجهلء مما يدفعهم 
إلى اضطهاد غيرهم تعويضا عن حرمانهم: لهذا يصف والد «سالم» 
المسلمين: «هم طيبون؛ لكنهم صاروا قساة كضريات سكاكينهم على 
اللحمةء على الرغم من أنهم مثل اليهودء جميعنا تحت مقصلة واحدة 
تهدّدنا يوميا بالإعدام» (31, 


184 





إشكالية لقاء الأنا واكآخر اليهودي... 


إن الصفة الأصلية التي يصف اليهودي بها اليمنيين هي «الطيبة» 
التي تلازمهم: أما القسوة فتبدو طارئة عليهم: وهي بسيب معاناتهم من 
الاستبداد والفقرء لهذا اس تخدم فعلا ينتمي إلى الصيرورة والتحؤّل 
وعدم الثبات (صار)ء وعلى الرغم من ذلك ثمة ما يجمعهم باليهود, 
فكلاهما يعانيان تسلط الاستبداد والقهر الطبقي وعدم الأمانء لهذا 
يحس المتلقي بسيطرة لغة العنف على العلاقة بين المسلم الفقير 
واليهودي (ضربات السكاكين. المقصلةء الإعدام). 

لكن المتلقي يلاحظ أن الروائي يسعى إلى مقاومة هذه اللفةء التي 
تؤسس للعداوةء وتؤدي إلى رسم صورة مشوهة للذات وللآخرء فأتطق 
«فاطمة» بلغة الحبء التي يتمسع صدرها لكل الناس.» لهذا حين ترسل 
رسالةء تهنَئ فيها سالم بالعيدء نجدها تهنَىْ «جميع الملل والنحلء ومن 
لا ملة له». وتتمنى لهم جميعا «سلامة الأيام وبهجة الدهر». 

وقد عرز الروائي حضور هذه اللغة الإنسانية, التي تبني جسور 
التفاهم بين الأنا والآخرء فجعلها تتتاسل على لسان الجيل الجديدء 
الذي اتخن من «فاطمة» قدوة يترسم خطاهاء لهذا يخبر ابنها «سعيد» 
والده بأنه تزوج من فتاة مسلمة (والدتها يهودية) قائلا: «تزوجنا على 
طريقتك مع أمي فاطمة: قائت لي: زوجتك نفسيء فقلت: قبلت» 
فيصحح له والده قائلا: «ليست طريقتي... هي طريقة أمك, وحدهاء 
طريقة فاطمة» (32). 

إن هذا التركيز على لغة فاطمة وطريقتها المنفتحة في التفكير 
والحياة, أشاع روح التسامح في الروايةء صحيح أن وفاتها أدت إلى ظهور 
الفكر المتعصبء لكن زوجها (سالم) بدا حريصا على تبني أسلوبها في 
الحياة وطريقتها في التفكير والسلوكء كي يشيع التفاهم ويمزز جسور 
التواصل الإنساني بعيدا عن الانتماءات القاتئة. لهذا اعتنى بتربية 
حفيده؛ وعلّمه ثقافة الانفتاح واحترام كل الأديان والمعارف» فلا يفرّق 
بين البوذية والتاوية والكونفوشيوسية: والأساطير البابلية والإغريقية 
والآداب العربية والفارسية والهنديةء وبذلك لم تمت أفكار فاطمة 
بموتهاء فقد حمل أمانتها الأجيال. التي انتمت إليها. 


185 





إشكالية الأنا والآخر 


دور الجمال في حل إشكالية لقاء الأنا بالآخر 

حين يعيش المرء الانفتاح الثقافي في تفاصيل حياته اليوميةء مثل 
«فاطمة وسالم» سيتمكن من مقاومة أجواء التعصب, وتتفتّح روحه على 
الجمال في الحياة. فينطق من دون أن يحس بلغة الحب متجاوزا كل 
الحواجزء التي تقف بينه وبين أخيه الإنسان:ء فلا ينظر إلى ما يميزه 
عنهء بل إلى ما يجمعهء وهكذا يبدو الجمال منقذا من كراهية المختلف» 
موخدا لمشاعر البشر وأذواقهم. حيث تتجاوب النفوس لندائه. حتى 
الرموز الخاصة التي نتخيلها خاصة بالدين اليهودي (النجمة السداسية) 
نجدها جزءا من تزيينات القمريات في البيوت اليمنية (33), وقد ألفها 
المسلمون. وشاهدوا فيها شكلا فنياء بعيدا عن الدلالة السلبية المغلقة 
على إيحاء واحد لهذه العلامة. خاصة أن بعض الباحثين قد أكد أن 
هذه النجمة تشكل جزءا أساسيا في تزيينات الحضارات الشرقية قبل 
ظهور اليهودية. 

وهكذا أسهم النقش الجميل في وحدة التأثير في مشاعر المسلمين 
واليهود. مثلما أسهم الغناء الجميلء الذي وجدناه عبر التناص الشعبي: 
الذي يلمح إلى اتساع صدر الفن لمشاعر الحب بين الناسء بعيدا عن 
انتمائهم الدينيء لهذا وجدنا الغناء يؤدى باللغتين «العبرية والعربية» وقد 
أكد المغني «حابيم» أنه «لا يوجد شيء اسمه فن يهوديء أو فن عربي» يوجد 
فن فقطء فن أو لا فن» (34. 

لعل الفن الصوضي أكثر تجسيدا! لروح المحبةء لانطلاقه من القلب 
موطن الفطرة السليمةء التي تتشر قيماء تنأى بالإنسان عن الانتماءات 
الضيقة, وبذلك يعد هذا الفن إحدى النوافذ» التي تنفتح على الجمال 
المنقذء الذي يشيع جو الانفتاح والتفاهم بين البشر بعيدا عن الهويات 
القاتلة» لهذا تقاسم المسلمون مع اليهود حب الشاعر المتصوف اليهودي 
«سالم الشبزي» (65© الذي عاصر الفترة التاريخية التي جرت فيها أحداث 
الروايةء وبذلك يعزز الرواكي جماليات فضائه التخييلي بشخصية واقعية, 
تنتمي لعالم الجمال الفني» وقد أجمع اليمنيون على حبها بغض النظر عن 
انتمائهم الديني. 


186 





إشكائية لقاء الأنا والآخر اليهودى... 


كما استطاع الروائي»؛ عبر تفاصيل سرديةء أغنت روايته «اليهودي 
الحالي» أن يؤسّس للمرجعية التاريخيةء بكل نبضها الواقمي. لذلك 
عايش المتلقي تنوعا في المشاعر والأفكار. حتى بدت إشكالية العلاقة 
بين «الأنا» و«الآخر» وكأنها تتوس بين المودة والعداء؛ من هنا حين يشوب 
العلاقة بين المسلمين واليهود بعض التوترء وينحرف الحوار بينهماء 
يأتي الجمال ولغة التسامح: التي تشيعها تلاوة آيات من القرآن الكريم: 
فيزيل مشاعر العداوة بين المختلفينء وقد استطاع الروائي أن يدهش 
المتلقيء ويخالف أفق توقعهء حين يجهل الفاعلية في إزالة التوتر من 
نصيب اليهودي «سالم» الذي يتلو آيات من سورة المائدةء تتحدث عن 
معاناة موسى من قومهء فيقول المسلم أبو قاسم: «ما شاء الله .. بارك 
الله فيك, وحفظ صوتك». 

يسجل للروائي حضور التناص القرآني بصفته الجمالية في المحتوى 
الذي يعترف بدين الآخرء وفي الإيقاع المؤثرء فيبدو عاملا مؤثرا في خلق 
أجواء التسامح بين «الأنا» والآخر. مما يوّحد المسلمين واليهود في إطار 
الإنسانية. فلا يعلي شأن الذات على حساب الآخرء إذ أكد هذا التناص 
معاناة النبيين: محمد وموسى (عليهما السلام) والخذلان الذي واجههما 
من قوميهماء حين قاما بتبليغ رسالة الله إلى الأرض. 

وقد عايش المتلقي في الرواية شخصية الفنان المتمردة على المكان 
المغلق (الغيتو اليهودي) الذي يمرّْز عزلة الآخرء ويخلق هوة بينه وبين 
الذات» فيهدّم جسور اللقاء بينهماء نيس في المكانء بل أيضا في الروح» 
وبذلك تؤدي العزلة المكانية إلى غرية جماليةء لهذا نجد المغني «حاييم» 
يرفض تغيير مسكنه المجاور للمسجد» والسكن في حارة اليهود» «تولها 
بصوت المؤدْنء (فهو) لا ينام إلا بعد أن يسمعه يردد تسابيح قبل صلاة 
الفجر» 36). فهو لا يريد أن يلتحق ب «الغيتو» كي لا يخسر إحساس 
الجمالء الذي يبثه فيه سماع صوت جميلء حتى لو كان صوت مؤذن. 
يخالفه الدين! 

وبذلك يصبح الجمال عامل توحيد بين البشرء إذ بفضله تنتعش 
أحاسيس الإنسانء فتخفق بمشاعر الحب والتسامح: وعلى نقيض ما يشاع 


187 





إشكائية الأنا والآخر 


اليوم من دور الدين السلبيء ووقوفه عائقا أمام تواصل البشر بعضهم مع 
بعضء نجد المؤلف يمنحه نكهة خاصة:؛ تجعله عامل جذب للآخر؛ فقد 
أسهم الصوت الجميل في تقبل لغة التسبيح الدينيء التي تشكل معه عامل 
توحيد للذائقة الفنيةء التي هي بوابة الروح! وبذلك يحس المتلقي أن مقولة 
هذه الرواية هي تأكيد أن رسالة الفن واحدة, تقوم على هدم جدران 
الكراهية بين البشرء وعلى فتح النوافذ على أجمل المعاني والقيم؛ وبذلك 
ينقن الجمال العالم» على حد قول «دوستويفسكي». 


188 





«الأناء في مرآة الفرنسي إثر 
الحرب الأهلية اللبنانية 
في رواية غادة السمان 
«سهرة تنكرية للموتى» 


إذا كانت دمشق مهبط روح غادة 
السمانء فإن بيروت مهبط إبداعهاء حيث 
ازداد تفتّح وعيها على الحياة والفن؛ لهذا 
حضرت هذه المدينة في معظم رواياتهاء 
على الرغم من أنها اضطرت إلى تركها 
والهرب من جحيم الحرب الأهلية (1975) 
إلى باريسء لتستقر فيها إلى اليوم. 

ونظرا إلى معايشة الكاتبة لفضاءين 
ينتميان إلى عالمين مختلفين (بيروت/ باريس) 
فقد استطاعت رصد إشكالية «الأنا» و«الآخر» 
في إبداعها. وخاصة في رواية «سهرة تنكرية 
للموتى» حيث برز الآخر الفرنسي عبر 


ا 

«حين يسيطر الخوف والكراهية 
على الإنسانء أيا كان؛ فإنه 
نتيجة لذلك یشوه كل جميل 
يملكه الآخر المختلف عنهء ويغلق 
الباب دون الحقيقة» 





المؤلفة 


169 





إشكالية الأنا والآخر 


شخصية «ماري روز». فقد تم تسليط الضوء على تفاصيل حياتها اليومية 
والثقافية. واحتلت همومها الشخصية ومغامراتها مساحة سردية مهمة, تكاد 
تعادل المساحة التي احتلتها هموم «الأنا» التي أسقطت فيها الكاتبة معاناتها على 
الشخصية اللبنانية» لذلك أتاحت الرواية للمتلقي أن يعايش «الأنا» في فضاء 
غربتها (باريس) وهي تواجه الآخر (الفرنسي) في عقر داره. 

ومما يسجل للكاتبة أنها أبعدت هذه المواجهة عن اللغة المتشنجة 
الحاقدة: كما أبعدتها عن متاهات النرجسية: وقد استطاعت أن تنقل 
الآخر الفرنسي إلى الفضاء العربي (بيروت) ليواجه حقائق مسكوتا عنهاء 
فبيّنت تأرجحه بين أحكام مسبقة وأوهام مستقاة من ألف ليلة وليلة. ومن 
وسائل الإعلامء وبين التجربة المعيشةء لتطرح على المتلقي أسئلةء عبر 
أصوات متعددة لشخصياتها الروائيةء تراوده حول إشكالية العلاقة بين 
«الأنا» العريية و«الآخر» الفرنسي. 


جماليات المنوان وهم «الأناء 

اختارت الكاتبة عنوان «سهرة تنكرية للموتى» لتعلن عطب «الأنا» 
وموتها العابث إثر الحرب الأهلية اللبنانيةء لهذا غيبت أي ضمير أو اسم 
يشير إليهاء إذ بدت هذه «الأنا» مهددة بالضياع: لهذا استعاضت عنها 
الكاتبة بلفظة «الموتى» التي جاءت في صيغة جمع الكثرة؛ لتوحي بكثرة 
هذا النموذج؛ الذي ظهر في بيروت بعد الحرب» لهذا لم تمنحه حياة 
طبيعية: بل جعلته يعيش حياة مزيفة في سهرة تنكرية. 

حاولت «غادة السمان» أن تجمع في روايتها شفخصيات متناقضة 
بعضها ينتمي مخلصا إلى الوطن؛ وبعضها ينتمي إلى «الموتى» لكونه يتاجر 
بوطنه وبعذابات أبنائه. فينتهك قيم الحياة الأصيلة, التي يحتاج إليها لبنان 
لينهض من عثرته؛ وبذلك تفضح عالم «الأموات» الذين تنكروا لحقيقتهم 
الإنسانية خلف أقنعة احتفالية: فدمّروا ذواتهم؛ مثلما دمّروا الوطن: لذلك 
بدت حياتهم أشبه بحفلة تنكريةء أنهتها الكاتبة في بيروت» حين عادوا 
إليها عابثين بهاء في حين أبقت على حياة أولئك الذين رفضوا المشاركة 
في هذا العبث والتنكر لمدينتهم» فأبقتهم فيهاء كي يسهموا في إنقاذها. 


190 





«الأضا» فى مرآة الفرنسسى إشير الهرب... 


دالأناء في مرآة الغرب 

بدت شخصية «ماريا» متماهية مع صوت المؤلفة (غادة السمان), إذ 
أسقطت عليها تجربتها في فضاء غريب (باريس) مثلما أسقطت عليها 
مهنتها (الكتابة الروائية)ء لكن ميزة المؤلفة أنها لم تجعل هذه الشخصيةء 
التي تمثلها. تحتكر الفضاء السرديء ولم تسقط في النرجسية؛ إذ أفسحت 
المجال لتعدد وجهات نظر أصدقاء مارياء الذين نجحوا في غريتهم: كأسرة 
«فرحة» و«سلیمی»» كما أتاحت للمتلقي فرصة معايشة وجهات نظر أولتك 
«الموتى» الذين فشلوا فيها (عبد الكريمء ناجي» وليد)» وقد تم جمع هذه 
الشخصيات ذات الاتجاهات المتنوعةء وبنيت الجسور بينها في فضاء 
يوحي بالقلق وعدم الاستقرارء هو المطار الفرنسي. 

وقد هاجرت جميع شخصيات الرواية, أثناء الحرب اللبنانيةء إلى 
فرنساء كما فعلت الكاتبةء حيث اضطرت إلى الانتقال إلى بيئة أخرى 
غريية: تمنحها الأمنء لكنها لن تمنحها حس الانتماء والوقوف على أرض 
صلبة؛ فبدأت تعيش معاناة من نوع جديد (الوقوف في الصباح الباكر 
للحصول على الإقامةء العمل لساعات طويلةء حالة الكآبة التي انتابت 
بعض الشخصيات بسبب لوعة الحنين إلى الوطن). 

سلطت الكاتبة الضوء على الحياة الباردة والآلية التي يعيشها الإنسان 
العربي في فضاء غريب عنهء ولعل أكثر مشاهد الغرية تأثيرا في النفس 
تصوير معاناة الطفل في المدرسة: التي هي نجسيد لمجتمع «الآخر». يقبل 
«الأنا» لكنه يشعره بغريثه عنه: أحياناء فقد يقذفه بلغةء تسخر حتئ من 
والداي يسمياني «فواز» وهو اسم لا ينم بالفرنسية عن جنسية أو دين؛ كي 
السماء عنه أذى الذين يهتاجون لكلمة في اسمه» (). 

نعايش هنا توتراً في العلاقة بين «الأنا» و«الآخر». وقد تبدّى لدى 
أطفال المدارس الذين يخالفون أفق توفع المتلقي» إذ يظن براءتهمء وعدم 
انتباههم لمن يختلف عنهم بالاسم. لكنه يكتشف أنهم مرآة لأهلهم: لهذا 


191 





إشكالية الأنا والآخر 


يعاني الطفل العربي في الغربة من رفض الأطفال الفرنسيين له وسخريتهم 
منهء مما يعني أننا أمام مظاهر لكراهية مبطنةء حتى تحول الاسم الذي 
يختزل الشخصية وهويتها إلى مصدر سخرية وانتقاص ل «الأنا». 

تحاول الكاتبة؛ هناء أن تلفت نظر المتلقي إلى أن «الآخر» يرفض العربي 
أيا كان دينهء لهذا يسخر من المسيحي (عازار) مثلما يسخر من المسلم. 

لكن يسجل للكاتبة موضوعيتها في رسم صورة الآخرء فهذه المعاناة لم 
تشمل جميع الأطفال العرب. خاصة حين لا يحملون أسماء تدل على هويتهم 
العريية: لذلك نجد «فواز» يحمد المقاديرء التي جعلته يحمل اسما محایداء 
مما يتيح له فرصة العيش مع الآخر من دون أذىء ولعل هذه المعاناة تكاد تبلغ 
أقصى مدى حين يحاول الطفل التكتم على أصله دفعا للمشاكل؛ فيعيش 
ازدواجية الكبارء غريبا عن براءة الأطفال؛ فيغادر عفويتهم: لينطوي على 
ذاتهء ليبدو في صورة «قنفذ مذعور يخفي خوفه بإتقان كأولاد المهاجرين 
جميعاء ويشهر أشواك جسده في وجه عالم يراه متوحشا سينقض عليه». 

لا تجد الكاتبة معادلا فنيا للطفل الذي يجسّد «الأنا» في تقوقعها 
على ذاتها سوى صورة حيوان صغيرء يبحث في داخله عن وسائل تحمیه؛ 
في بيئة تصفع الضعيف وتحترم القويء بغض النظر عن انتمائه الديني 
والعرقي. لهذا لم يجد «فواز» أمامه, وهو يتجه نحو الشبابء وسيلة للدفاع 
عن الذات. إلا بتقويتها والعمل على تميزهاء وذلك بسلوك طريق العلم 
والتفوق في العمل ورأى في عزلة «الأنا» وتقوقعها خيارا جباناء لا يليق به, 
لكن هذا التحدي في مواجهة قهر الغريةء والعمل على إيجاد جسور تشده 
إلى فضاتها لا يعني انقطاع الشخصية العريية عن جذورهاء ومكونات 
هويتهاء فقد أصر والدا «فواز» على ربطه بهاء وعملا على إتقانه للغته 
العريبية: إذ وجدا فيها وطناء يخقف وقع الغربة على النقسء وبذلك تبدو 
هذه اللغة وسيلة دفاع عن الشخصية العربية: إذ بفضلها تحافظ على 
هويتهاء وتحرص على استمراريتها تدى الجيل الجديد. 

تبدو الكاتبة بعيدة عن إطلاق صفات سابيةء تختزل بها الآخر 
ومجتمعه؛ صحيح أن بعض الكبار والصغار عانوا وطأة الغريةء وكان عليهم 
أن يحسبوا حساب كل خطوة. في مجتمعات «نصف عدوانية أو لامبالية». 


192 





«الأنا» في مرآة الفرنسي إشر الهرب... 


لهذا بدت اللغة حذرة: ذات دلالات موضوعية: إذ لم تعمّم العداوة عليهء 
وإنما جعلته نصف عدواتيء قد يكون أقرب إلى عدم المبالاة تجاه الآخر, 
نظرا لطبيعة حياته التي تتشرنق حول الذات» ولهذا تبدو المشاعر السلبيةء 
التي يعانيها العربي في فرنسا., بل كل غريب (الخوف, القلقء توقع الشر 
والعدوان...)ء نتاج نسق فكري واجتماعي» يدور حول «الأنا» من دون 
الاهتمام بالآخر القريب الذي يشاركه الانتماء لفضاء الوطن أو البعيد 
الذي ينتمي لفضاء آخر. 

إذن لا تحل أزمة «الأنا» العربية بالانتماء لفضاء «الآخر»»؛ إذ ليست مشكلته 
تكمن في الانتساب إلى هذا الفضاء الخارجي فقطء بل في الانتماء الداخلي 
إليه. أي في خلق مشاعر مفعمة بالسكينة والرضاء وفي الإحساس بالوقوف 
على أرض صلبة. وقد استطاعت الكاتبة أن تجسّد هذا الصراع النفسي بين 
هذين الانتماءينء فحين يحصل المهاجر (ناجي) على الجنسية الفرنسية؛ لن 
يشعر بالأمن في أعماقه. الذي يتخيله المتلقيء لأن غريته الروحيةء تنص 
عليه فرحة الانتماء لفضاء جديد إذ ينتابه شعور «ابن الحرام في اللقاءات 
العائلية الحميمة؛ إنه منهم؛ وليس منهم, ينظرون إليه شذرا وإذا لاطفوه 
فترفعا منهمء واستعراضا لإنسانيتهم على شاشة اختلافه». 

لهذا يفاجأ المتلقي بأن الحصول على الجنسية لن يسهم في حل الأزمة 
الداخلية التي تنتاب «الأنا» العربية في الغريةء إذ ثمة إحساس بالنقص 
يسيطر على الغريب» يعزّزه إحساس بتفوق الآخر الفرنسي.ء لذلك لم 
تجد الكاتبة صفة تبرز إحساسه بالدونية والقهر في مواجهة الآخر سوى 
صفة «ابن الحرام» التي تسلخ الشخصية عن سياقها الاجتماعيء وأمانها 
النفسيء وبذلك توضح هذه الصفة مدى المعاناة التي تعتري الإنسانء 
حين يعايش مجتمعا غريباء مما يدفعه إلى العيش منزويا عن أي علاقة 
إنسانية: وإذا أفلح في مد جسور علاقة مع الآخر فإنها ستكون علاقة 
شاذة (اللواط)ء وقد أدّى استسلام الشخصية لهذه المشاعر السلبية إلى 
انحراف حياتها وفشلها في أي عمل تقوم بهء في حين نجد الشخصية 
الناجحة (فواز) أكثر تأقلما مع الغربة؛ ربما بسبب تفوقها العلمي والمهنيء 
مما سيل أمامها طريق الاندماج في مجتمع يعلي من شأن العلم والعملء 


193 





إشكالية الأنا والآخر 


حتى بدت في الظاهر أكثر انتماء تفضاء الآخر (باريس) لذلك يسهل 
وقوعها في فخ تقليد الآخرء إذ تقيم علاقات عاطفية سريعة وآلية لا 
تعرف معنى الروحء أي العمق الإنساني. 

تتعمّد الكاتية تقديم الغربة بصفتها فضاء لعلاقات إنسانية مشوّهة, 
تنأى عن معنى الحب أو الصداقة الحقيقيةء ومن هنا وجدنا «دانا» تدعو 
صديقتها القرنسية «ماري روز» لزيارة بيروت» من باب المصلحة؛ كي ترد 
دعوتهاء فتقضي معها الإجازة في «موناكو» حيث البيت الصيفي لوالدها 
البارونء إذ تحلم اللبنانية بالزواج من كونت فرنسي أو بارون. لتحقق 
طموحها في الانتماء للمجتمع الفرنسيء الذي هو. في نظرهاء انتماء 
طبقي (فتنتسب لطبقة الارستقراطية) الأمر الذي يتيح لها تجاوز محنة 
الصراع بين هويتين (عربية وفرنسية) فتحل أزمة «الأنا» وقلق انتمائها 
لعالمين نقيضين. فتحسم أمرها بالانتماء إلى «الآخر» عن طريق الزواج. 

إن معايشة«الأنا» للآخر في فضائه الخاصء في هذه الروايةء تتيح 
للمتلقي الاطلاع على مساوئ المجتمع الغربي: ومحاسنه؛: فقد وجدنا «فواز» 
معجبا بما يسود حياتهم من نظامء وبات «لا يرتاح للتجاوزات اللبنانية (ضي 
المطار) في المناس بات التي يلتقي فيها أبناء الجالية بصدفة أو بلا صدفة, 
وحين جاء النادل وزجرهم... ثم صمت حين أسرته ابتسامة الفرنسية الجميلة 
الجالسة معهم الدكتورة «ماري روز» وهي تقول معتذرة عنهم: «إنهم لبنانيون 
في طريقهم إلى بلدهم» كان ذلك يكفي لتفسير عريدة الفوضى والقهقهات 
المحببة, كأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم. سكت النادلء فالزبائن اللبنانيون 
هم الأكثر سخاء من حيث الإكراميات» ولم يسمع بأن لبنانيا واحدا تسوّل أيام 
الحرب في فرنساء كما فعل سواهم» ©. 

يجسد «فواز» صسوت جيل جديد من«الأنا» تربى في فضاء الآخرء 
لهذا رأت الكاتبة أن تسقط على لسانه نقدا ذاتيا للعرب» الذين ينشرون 
الفوضى أينما حلواء لكنها سرعان ما تبدي تعاطفها على لسان الآخر 
الفرنسي (ماري روز) فتسقط صوتها على صوت الراوي النادل؛ فتصف 
قهقهات رفاق الرحلة اللبنانيينء ب«المحببة» بل تمنحهم رخصة (كأنه يحق 
لهم ما لا يحقّ لغيرهم) إذ تجعلهم يحتلون مكانة في قلب النادل الغريب. 


194 





«اقأغا» في مرآة الفرنسي إشر الهرب. .. 


وبذلك تمحو الكاتبة أثر الصورة السلبية التي رسمها «فواز» لهم (الفوضى. 
الصخب. عدم مراعاة الآخرين) حين أوردت على لسان «الآخر النادل» 
صفتين إيجابيتين"لهم (الكرم وعزة النفس) لترسخا في ذهن المتلقي. 

نعتقد أن وصف اللبنانيين بالكرم يمكن أن يصدر عن نادل مطعم, 
نظرا لطبيعة عمله التي تتيح له معايش تهم وملاحظة كرمهم من خلال 
منحه المال (البقتشيش). أما الصفة الثانية (عزة النفس وعدم التسؤل؛ 
إذ لم يجد لبنانيا شحاذاً مهما كانت ظروفه المادية صعبة) فتحتاج إلى 
معايشة يومية ومعرفة حميمة, لذلك يمكننا القول إن لغة الكاتبة ورؤيتها 
المتحمسة ل «الأنا» قد أسقطتها على لغة النادل الغريب. 


«الأناء المعاصرة وقهرالغرية 

برزت «الأنا» اللبنانية في رواية «سهرة تنكرية للموتى» عبر شخصيات 
عاشت في الغرية, وعانت الفشلء وجيت النجاح والتأقلم؛ وقد بدت 
أكثر الشخصيات قربا من «أنا» الكاتبة «ماريا» التي شاركتها قهر الغرية, 
وعزاء الكتابة الرواثيةء وبذلك أسقطت «غادة السمان» صوتها على معاناة 
بطلتهاء مما مكن المتلقي؛ من أن يعايش أقسى ما يعانيه الإنسانء حين 
ينتقل من مكان ألفه إلى مكان غريب عنه. حيث تقهره مشاعر الخوف 
والقلق؛ ويحاصره إحساس بعداء الآخرء فلا يجد وسيلة للدفاع عن النفس 
سوى إساءة الظن بهء حتى إنه لا يهتم بالبحث عن حقيقة موقفهء فيجنح 
إلى محاكمته على الظاهرء ويؤول عدم مبالاته تأويلا سلبياء مع أنه في 
ذلك يعامل الغريبء كما يعامل مواطنه. 

أتاخت لنا الكاتبة عبر ش خصية «ماريا» معايشة الجروح التي يخلفها 
البعد عن الوطن, وتظهر أعراضها في كآبة دائمة ووحشة تنفص الحياة, 
وتوترٌ النفسء وبذلك يحس المتلقي» وكأنه يسمع صوت المؤلفةء يصرخ متألما 
من قهر الغربة في باريس؛ فتتماهى مع صوت «ماريا» التي تس تتجد بكتبها 
وأبطالهاء ؛ لعلهم ينقذونها من بؤس هذا القهرء ويشكلون تعويضاً نفسياً 
يحقق لها توازتاًء يقيم أود كيانها «خذوني إلى قلوبكم فقد جرحتني الغرية, 
ورشت المطارات ملح الوحشة على جراحيء وأنا صامتة متماسكة, لا أنزف 


195 





إشكالية الأنا واكآخر 


إلا على الورقء خذوني إلى قلوبكم ودللوني... عبثا أقص قفصي الصدري. 
أزرع لي قلبا مستوردا يمستأصل جذوري من بلد أحببته حتى الثمالة اسمه 
لبنان. وهجرت وطني مسقط قلبي لأعيشه بكل معانيه: الحرية والتعايش بين 
الأديان والعدالة الاجتماعية التي تنشدها بطلات قصصي وأبطالها». 

يعايش المتلقيء هناء حب الكاتبة للبنان. لهذا اختارت بصورة لاشعورية 
بيروت فضاء لروايتهاء كي تجد تعويضا عن غربتهاء فتعيش مع شخصياتها 
في فضاء أحبّته. لكن الحرب الأهلية حرمتها منهء ولهذا استطاعت أن 
تسقط حنينها على ألسنة أبطالهاء وبذلك حاولت أن تستعيد مدينتها فنياء 
مادامت لا تستطيع استعادتها واقعيا. 

يلاحظ المتأمل أنها دفعت شخصياتها الشريفة إلى مغادرة بيروت 
مثلها في أثناء الحرب الأهليةء بحثا عن الحرية والأمن» أما شخصياتها 
النصّابة التي تنتمي للموتى. فقد هج رت وطنها من أجل الحصول على 
المالء لذلك حاصرتها بالفشلء حتى وجدنا «ناجي» يعترف بأنه أخطأ حين 
رحل» ليبحث عن «كنوز علي باباء في «الفرية» فالكنز يقع بالتأكيد في 
مغارة قريتهء وبذلك أخطأ الطريقء هنا يتدخل وعي الكاتبة؛ فتتال هذه 
الشخصية عقابهاء إذ تنهي حياتها وأحلامها في حادث سيارة. 

نعايش في هذه الرواية المعاناة الداخلية لكل من يفشل في الغريةء 
فيعيش صراعا حادا بين اليقاء فيهاء والعودة إلى الوطن:؛ يلدغه الفشل 
ونظرات أقاريه الهازئة. لأنه حم صورة المغترب التقليدية: وخيّب آمال 
أهله بالتباهي بثروته. لذلك لم يجرؤ كل من «ناجي وعبدالكريم» على 
مواجهة الأهل بعد عودتهما إلى الوطن برفقة الإفلاس» مع أن «ناجي» 
تمنى لو يعود إلى قريته ليعترف ب «أننا نفتش عن الشيء الصح في المكان 
الخطأ...» لكنه سيتخيل أن السخرية ستكون في استقباله؛ ولن يصغي 
إليه أحد ويعذر فش له سوى قلب أمه الحنون: الذي يقبل عليه على الرغم . 
من فقره وعودته خالي الوفاض. 

يلاحظ المتلقي أن معظم الشخصيات التي رحلت إلى «باريس» من أجل 
المال عانت الفشلء وانتهبها القلقء حتى حين عادت إلى الوطن (لبنان) لم 
تكن عودتها بدافع الشوق والانتماء بل لتجد مخرجا لها من بؤس حياتها في 


196 





«؟كأنا» في مرآة الفرنسى إشر الهرب. .. 
الغربة, لذلك تلجأ إلى النصب على أبناء وطنهاء هنا يتدخل صوت الكاتبة 
وإرادتها في فرض حياة القيم والمبادئ على شخصياتهاء لهذا تعاقب هذه 
الشخصيات بالقتلء كي تحمي فضاء الوطن (لبنان) الذي هو معادل فني 
ل «الأنا»: لهذا رأت أن تنقذه من دمار الفاش لين الذين باعوا أنفس هم مثل 
«فاوست» لشيطان المالء وأسهموا في تشويه وطنهم» وقهر أبنائه. 


«الآخرالفرنسي» في الشرق 

سلطت الرواية الضوء على شخصية «ماري روز» التي تنتمي لفضاء 
الآخر (الفرنسي) وهي تنطلق في رحلتها الأولى إلى الشرق؛ فتبدو قلقة 
متوترة, تتنازعها رؤيتان له: الأولى رومانسية والثانية واقعية. فعاشت 
في الأولى سحرالشرق. الذي جذب الكثير من الغرييين, خاصة الأدباء 
والفنانين (لامارتين» فلوبيرءدو لاکرواء ماتيس...) وقد ولج معظمهم 
الشرق من بوابة كتاب «ألف ليلة وليلة» فأخذ بتلك الصورة الساحرة التي 
سمت له. لهذا لن يستغرب المتلقي أن ترسخ في مخيلة الأجيال الفربية 
إلى اليوم, وقد كانت «ماري روز» أحد هؤلاء المأخوذين» حين تقول «لبنان 
بوابة الشرق الغامض...أتأرجح بين شوقي إلى سحر بيروت» سحر الشرق 
والحب والقمر والدفء والمرآة السحرية التي أرى فيها من يحب قلبي حين 
الكواكب والنجوم من جهةء وبين هلعي من بيروت» (. 

تفصح الجملة الأخيرة عن مشاعر نقيضة للسحر الذي تحلم به «ماري 
روز» فهي تنتمي إلى جيل لا يمكن أن يفرق في الرومانسية: فقد وصلتها عبر 
الإعلام أنباء الحرب اللبنانيةء لذلك تنتهبها أوهام متناقضة؛ تنص أحلامها 
بعالم سحريء لذلك تعيش مشاعر متباينة بين الانبهار والخوف معا. 

تبدو لنا الطبيبة الفرنسية امرأة الأحلام. لذلك تقف على طرفي 
نقيض مع صديقتها العربية «دانا» المؤرّقة بالواقع: أي بزوج يعرز انتسابها 
لمجتمع الآخر الفرنسيء في حين تحلم «ماري روز» برجل يطير بها إلى 
ليلة وليلة»: خاتم علاء الدين؛ البساط السحري الذي تطير به بعيدا عن 


197 





إشكالية الأنا وال خر 


عيادتها حيث تقضي معظم أوقاتها المملة الكالحة... آما الهدية الثالثة 
فهي المرآة السحرية التي تستطيع أن ترى فيها الحقيقة: الوجه الحقيقي 
للناس حولها لا أقنعتهم». 

إذا كانت الهديتان «الخاتم والبساط» مستمدّتين من القصص الخيالية 
لألف ليلة وليلة: فإن الهدية الثالثة «المرآة التي تكشف حقيقة الناس» 
مستمدة من ابتكار مخيلة الكاتبة: التي تجسّد أحد أحلام «غادة السمان» 
التي تختزل حلم الإنسان في معرفة أعماق البشرء وتلمس الوجه الحقيقي 
المختبئ وراء قتاع الزيف والتنكر. وقد تكرت هذه المرآة في مجموعتها 
القصصية دلا بحر في بيروت» التي كتبت قبل الرواية عام 1963 أي 
بحوالي أربعين سنةء لذلك شكلت هذه المرآة المتخيلة هاجسا إبداعياء 
رافقها سنين طويلةء فهي تعكس رغبة الكاتبة في إزالة الأقنعة عن وجوه 
الناسء عبر الإبداع. لتكشف حقيقتهم: من هنا لن تستغرب أن تى قط 
رغبتها هذه على لسان الشخصية الفرنسية. 

يشكل الشرق عامل جذب للمرأة الغربيةء ليس فقط لكونه فضاء 
الخيال ومبعث الأحلام» بل لكونه منقذا لها من رتابة حياتها اليومية, 
ولعل أحد جوانب السحر في عالم «ألف ليلة وليلة» أنها تستطيع مد 
الإنسان بأدوات خياليةء تعزز لديه الشعور بالمغامرة واكتشاف عوالم 
جديدةء تستطيع أن تمدّه بالأمل في لحظات الشدة, فتعزز وعي الإنسان 
ليواجه عقبات الحياة, لهذا بدت «ماري روز» حريصة على هذا الكتاب 
بما يجسشده من روعة الخيال وجمال الشخصية الطموحة والفاعلة عبر 
الحلم والعمل» من هنا لن نستغرب رغبتها في فضح الإعلام الغربي: الذي 
يشوه «ألف ليلة وليلة» ويختزله «في راقصة هز اليطن» وبذلك أدى عشق 
الآخر للفضاء العربي إلى عشق ثقافته وحرصه على الدفاع عنه. 


الرؤية الواقعية 

احتلت الصورة الرومانسية للشرق مخيلة الغرييين في الماضي؛ بسبب 
صعوبة التواصل بينه وبين الغرب. لكن اليوم مع تقدم وسائل الإعلام 
وانتشارها الواسع تغيرت هذه الصورة وبدأت هموم الشرق ترسم ملامحها 


198 





«الأضا» فى مرآ الفر نجي !شر الهرب.. . 


أحلامه؛ وتبعدها عن مخيلتهء لتشذه إلى التفكير الواقعي» بما يضطرم من 
مخاطر تغمر الشرق وأوهام تشوهه! 
تأكدت من زوال مظاهر الحرب والتساح. لكن ذلك لم يمنع الرعب والدم 
من احتلال ذاكرتهاء فملأت الكوابيس مخيلتهاء حتى بات السفر إلى لبنان 
يعني الضياع في «الأزقة الفقيرة العدوانية الموحلة, المليئة بكلاب تعوي 
نبتة الصبار «إلى أفعى حقيقية ذات أشواك صباريةء وفتحت شدقيهاء 
وخرج منها لسان مزروع بالأشواك, وهاجمتني. وهي تصدر فحيحا مرعياء. 
وقد تسمرت في مكاني» ثم هريت منها إلى الشارع... شارع بيتي الباريسي 
تبدل وتحؤّل إلى زقاق ضيّق موحل موحش. وثمة كلاب تعوي وتطاردني... 
أرى جرذا له حجم رجل يجلس على مقعد وهو يتأملني ويدخن...» 4, 
يلخص هذا الحلم الصورة المرعبة التسي اختزنها لاوعي المرأة الغربية 
(ماري روز) للفضاء الشرفيء نتيجة هيمنة أطكار مسبقةء شكلها سوء التفاهم 
بين الشرق والفرب» وتجلّت عبر ميراث الخوف الذي يحوّل النبتة الشوكية 
التي تسحر النظر عادة بألوان زهورها وأشكالهاء إلى أفعى تمسك بخناقها؛ 
وتفحٌ السمّ في وجههاء وبذلك تركز المخيلة المرعوبة على الشوك» بما يعنيه 
بالشارع الباريسي الجميل زقاقا ضيقا موحلا في الشرق؛ وبذلك تشوّه الأوهام 
القضاء المكاني بتضاريسه وكائناته الحيةء لذلك تقارن مخيلتها الملتهبة بالخوف 
بين الحيوانات الأليفة (الكلاب) في باريس وبينها في بيروت» حيث تتخلى عن 
ألفتها لتلحق ب «ماري روز» وتوصد أمامها أبواب ملاذها الآمن في «باريس». 
وهمكذدا ما إن فكرت الفرنسية في السفر إلى «لبنان» حتى غزتها 
الكوابيس» فحل محل مدينتهاء التي تعد مدينة الأنوارء ذلك الحي الضيق؛ 
الذي ينتمي إلى زمن قديم موحل وموحش. يعتلي عرشه ما يرمز للبشاعة 
والقذارة «جرذ» جعله خيالها المرعوب مفزعا (له حجم إنسان: ويقوم 
بتصرفاته من جلوس وتدخين وتأمل). 


199 





إشكالية الأنا والآخر 


وبذلك تبدو «بيروت» مدينة ذات وجهينء الوجه الأول: ينتمي للماضي. 
فيجسّد الموت والرعب والحرب. والرهائنء والوجه الآخر ينتمي للحاضرء 
فيجسّد وجهاً للحياة المتجددة ومرآة للحقيقةء لهذا بدأت تفهم ذاتها 
بشكل أفضل بعد معايشتها روح بيروت» التي تحرض شهوة الحياة في 
اللحظة الحاضرة بعيدا عن قلق الماضي والمستقبلء كما تحرّض شهوة 
المغامرة. وتسهعف المرء في اكتشاف ذاته وتفهم الآخرء فتوقظ في داخله 
حبٌ العطاءء ليصبح مستعدا لمد يد العون إلى كل محتاج. 

ومما عرز حضور هذه الرؤية الواقمية:, أن الكاتبة حرصت على تقديم 
صورة موضوعية للمدينة؛ فتتقّلت ببطلتها بين فضاء بيروت المترفة وأزقتها 
الفقيرةء وإن كانت قد اعتنت كثيرا برسم تفاصيل الفضاء الأول؛ نظرا 
لمعايشة «ماري روز» لأسرة صديقتها الفنية «دانا» فقد نزلت في ضيافتهاء 
وبدت علاقة المرأة الغربية مع الطبقة المترفة في غاية التفاهم والانسجام 
ريما لأن هذه الطبقة متفرّبة تتبنّى قيم الآخر. فقد لاحظنا أن المرأة العربية 
الغنية تعيش حياتها كالمرأة الغربية بعيدا عن القيود الاجتماعية والدينيةء في 
حين بدت علاقة هذه المرأة الفرنسية بالطبقة الفقيرةء التي لم تتسلخ عن 
تقاليد بيثتهاء مشوبة بالتوتر, لهذا ما إن تقترب سيارة الأجرة؛ التي تستقلها 
من الحي الفقيرء حتى تهاجمها الكوابيس وصور الرعب المختبئة في لاوعيهاء 
والتي اختفت» حين كانت تعيش في الحي الراقي. 

صحيح أن الكاتبة اعتتت برسم الفضاء المترف لييروت؛ فمنحته كثيرا 
من اللقطات المشهدية (النساء المترفات. الرجال المتأنقين الذين يتنقلون 
بين الفنادق الفخمة والبيوت المزخرفة والمكاتب المدهشة: ويركبون أفخم 
أنواع السيارات واليخوت...) لكن مشهد لقاء الفرنسية (ماري روز) بفقراء 
المدينة (سائق التاكسي وأهله) كان أكثر تأثيرا في النفسء باعتقادناء فقد 
رسمته الكاتبة بكثير من الشفافية والعمق الإنسانيء فبدا مفعما بروح 
الشرق الأصيلء على الرغم من قصر اللقطة المشهدية مقارنة بمشاهد 
تحتفي بالأغنياء وعلى الرغم من أنه من طفى على بداية مشهد اللقاء 
التوتر وسوء التفاهم بس بب الأفكار المسبقة التي رسمتها مخيلة المرأة 
الغربية. خاصة بعد أن غيّر السائق خط سيره إثر مكالمة هاتفية مفاجثة. 


200 





«الأضا» في مرآة الفر نسى إشر الهرب. .. 


وعلى الرغم من أنه سألها: هل تريدين الهبوط من السيارة؟ لكن لشدة 
رعيها لم تستوعب سؤاله» لهذا يفاج المتلقي بردة فعلهاء إذ تصمت 
منساقة لأوهامها ومصغية لصوت أعماقها بأن السائق يكذب» ويخطط 
لخطفهاء فانعقد لسانها هلعاء واختفى صوتهاء مما أفسح المجال لصوت 
الراويةء كي يسلّط الأضواء على تلك اللحظة المتأزمة «كالمنومة استسلمت 
لما يدورء كأن كوابيسها أهلتها لانصياع فضولي» وقبل أن تعترض أو ترفض 
أو تصمت هلعا أو تصرخ مستنجدة أو تطلب منه إنزالها من السيارة؛ بدّل 
وجهة سيره بانعطافة مرعبة... وانعقد لسانها». 

يبدو لنا رعبها مبالغاً فيه وغير مستساغ فنياء فقد سألها السائق 
بالإنجليزية إن كانت تودٌ ترك السميارة: ولم يكن هناك حاجز لغوي. يزز 
سوء التفاهم» كما لم نجد السائق متهورا يحرف خط سيره من دون أن 
يخبر زبونته؛ لكن الفرنسيةء فيما يبدو لا تريد أن تسمع سوى صوت 
هواجسهاء وتبحث عما يؤكد حدسهاء الذي رافقها منذ بداية الرحلةء بأن 
ثمة خطرا ما يترصّدهاء فهي ابنة ثقافة يقلقها الآخر المختلف. خاصة 
الممسلم: وهي ضحية إعلام غربي يشوّهه. لذلك وجدناها وأثناء جلوسها 
في السيارة وحيدة ترتد ذاكرتها إلى الماضي؛ فتس تحضر كل ما يوقظ 
المشاعر السلبية ضد المسلم؛ فتسترجع ذاكرتها فيلما بعنوان «لن أرحل 
دون ابنتي» يروي معاناة امرأة غربية مع زوجها الشرقي» بعد أن رحلت 
وابنتها معه إلى بلاده (إيران) فسامها مر العذاب. وبذلك تعرز الذاكرة 
المرعوبة حضور الصورة المشوّهة للمسلم عبر تناص سينمائيء أبدعته 
مخيلة الفربيين. فأسهمت في تعميم صورته السلبية لدى المتلقي الغربي. 

إذن لا نستطيع أن نقول: إن الرؤية الواقعية للأنا من قبل الآخر 
كانت موضوعيةء إذ لم تستطع الفرنسية أن تتخلص من موروث ثقاضي: 
يعزز المخاوف من أهل الشرقء لهذا انتابتها مشاعر متناقضة بين الحب 
والطمأنينة والكراهية والخوف, ولن نستغرب شعورها بالرعب حين 
سمعت اللغة العربية ينطق بها السائق, فقد أحسّتها «نشيد الشر» وبذلك 
طغت على وصفها المشاعر السلبيةء وأثرت على نظرتها للعرب. فعمّمت 
الفرنسية رؤيتها ل «الأنا» وحشرت كل ناطق بالعربية ضمن شريعة الغاب. 


201 





إشكالية الأنا والآخر 

يحس المتلقي بتناقض هذه الشخصية: إذ شتان بين إحساسها 
المتوتر والهلع حين سمعت العربية من سائق سيارة الأجرة في حي 
فقيرء وبين إحساسها بالسكينة والفرح حين سمعت اللغة نفسها بلسان 
عشيقها الشاعر (وسيم) فتحولت من نشيد الشر إلى «تراتيل ساحرة» 
لكن ما يبرّر هذا التناقض الفضاء المكاني الذي أحاط بهاء فدالمكان 
المترف» القريب من عالمهاء استطاع أن يبث فيها إيحاءات إيجابية للفةء 
في حين بت «الزقاق الفقير» إيحاءات سلبيةء ويذلك يحل التفسير 
الطبقي مثل هذا التناقضء إذ يبدو الانتماء إلى طبقة المترفين يردم 
الهوة بين «الأنا» و«الآخر». إذ تتبنى «الطبقة الشرقية المترفة» قيما 
غرييةء توخدها بالآخر. 

هنا يبدو الآخر ضحية جهله ب «الأنا» الفقيرة» ومن البديهي أن يكون 
المرء ابن أوهامه وثوابتهء التي تتشكل لديه عبر الثقافة ووسائل الإعلام 
والتربية. من هنا يكمن الخلل في أعماق «الأنا» و«الآخر» معاء إذ حين 
يسيطر الخوف والكراهية على الإنسان: أيا كان فإنه نتيجة لذلك يشوّه 
كل جميل يملكه الآخر المختلف عنهء ويغلق الباب دون الحقيقة: فيتم 
الاستسلام للوهم: كي يرفع من شان ذاته على حساب الغيرء الذي لا 
يشاركه الانتماء الثقافي والطبقي. لكن رواية «سهرة تنكرية للموتى» 
سرعان ما تكد أهمية المعايشة اليومية؛ التي تسهم في وضوح صورة 
الآخرء وإزالة سوء التفاهم. 

لم تكتف الكاتبة في رسم هذا المشهد باستحضرر الموروث الثقافي 
الغربي» الذي يلهب خوف المرأة الفرنسية من «الأنا» التي أصبحت آخر, 
هناء بل حاولت أن تعززه بتفاصيل واقعية. تملأ مشهد الشرق «الفقير» 
فيتحول إلى زقاق فقير» موحل» قذرء وهي فجأة وجدت نفسها جزءا 
منهء فتزداد رعباء وتتشوّش رؤيتهاء ويلتهب خيالهاء وما وعته ذاكرتها من 
مشاهد مؤرّقة, وما رأته عينها من تفاصيل بشعةء وهنا تدخل وعي الكاتبة 
في رسم المشهد؛ إذ عيبت عنه الشمس (أبرز مكامن السحر الشرفي) 
لتجري أحداثه «خلف غيوم سودداء كثيفة تجدّدت وزمجرت. وبدأت 
أحمالها الغامضة تنفجر مطرا من السواد». 


202 





«اكأشا» في مرآة الفر نسي إشر الحراب... 
وقد حاولت «غادة السمان» أن تختزل الطبيعة عبر صفات مروعة, 
يسيطر عليها الظلام (الغيوم سوداء) والأصوات المرعبة (مزمجرةء غاضبة) 
حتى تحولت الدلاثة الإيجابية ل «المطر» من خير ووعد بالجمال إلى دلالة 
سلبيةء إذ أصبح «مطرا أسود ينشر الموت»» وبذلك أفقدت مشاعر الخوف 
المرأة الغربية كل ما هو جميلء يبهج النفسء وأحاط بها كل ما يثير الرعب» 
خاصة أنها تقيم في فضاء مغلق ومتنقّل؛ لا يوحي بالأمانء «السيارة» التي 
نقلتها إلى عوالم نقيضة, لم تتعرف إليها من قبلء فانتقلت بها من عوالم 
الترف البيروتي إلى عوالم البؤس والفقرء لهذا لن يستغرب المتلقي أن 
تستيقظ الكوابيس في أعماق «ماري روز» ويسمع صوتها متسائلا: «أهذه 
الدروب الموحشة البائسة هي أيضا بيروت؟! هل يعقل ذلك؟! هل آنا في 
مجاهيل دنيا الإسلام...؟ هل آنا في قلب الزلزال حيث الحياة بلا قيمة 
إنسانيةء ناهيك عن المرأة؟ أهذه هي بيروت الحقيقية ...۵5 (5). 
يتيح هذا المشهد للمتلقيء عبر التساؤل الاستنكاري:؛ معايشة بعض 
ملامح الصورة المشوهة: التي رس متها مخيلة الآخر للدين الإسلامي 
(الدروب الموحشة البائسةء مجاهيل دنيا الإسلامء قلب الزلزال...). وبذلك 
نفته «ماري روز» عن الأحياء المترفةء وحشرته في دروب موحشة فقيرة 
تفضي بها إلى المجهول المرعب. المحكوم بالمقولات الجاهزة: فيتمٌ اختزال 
الإسلام في قيم تنتهك حقوق الإنسان: وخاصة المرأة: مما يعرز الفكرة 
الممسبقة المفلوطة؛ التي كوّنها الغرب عنه. فتجعله قرين التخلف والفقر 
وعدم المبالاة بالحياة الإنسانية. 1 
وكي تزيل الكاتبة أوهام بطلتها الغربية وأفكارها المسبقةء قرّبتها 
من حياة مجهولة لديهاء فأمعنت في رسم تفاصيل مشهدية موحيةء كي 
تشسركها في الحدث؛ وتجعلها فاعلة في حياة أبناء هذا الحي الفقير؛ 
حيث سلطت الضوء في البداية على لحظة قلقها ورعبها وتفكيرها في 
الهرب» ثم لحظة تجاوزها لهذا كله. خاصة حين توقفت السيارة أمام بيت 
فقير. وسألها السائق: «هل تريدين الدخول معي؟» أجابت «لا» وظلت 
صامتة:؛ وهو ينتظر منها اعتراضاء ثم ركض إلى بيته معتذرا «آسف يا 
سيدتي»ء ويبدو أن بقاءها وحيدة في السيارة ألهب مخاوفهاء فقد أحست 


203 





إشكالية الأنا والآخر 


بأنها «في مدينة الشر والرعب» فبدأت تتخيل عشرات المفترسين الذين 
سيغتصبونهاء وقد تعمدت «غادة السمان» رسم هذا المشهد بمؤثرات 
صوتية تهويلية (أصوات عويل ونواح وصراخ) مزجتها بمؤثرات بصرية 
(أعلام سوداء. صور متجهمة للتحينء جرذ كبير يتسلق جداراء مسحب من 
البعوض والحشرات). حتى الفعل العادي الذي يقوم به طفل (يأخذ حذاء 
من أمام باب بيته) تراه بعين خيالها المضطرب فعلا مشينا هو السرقة. 

إن هذه التهيؤات والأوهام قد ضاعفت توتر الشخصية الغربية ورعبهاء 
وأيقظت كوابيسهاء التي اختزنها لا وعيها قبل سفرها إلى الشرق: فقامت 
بردة فعل أخرجتها من السيارةء عندئذ صفعتها مظاهر الفقرء الذي يفص 
به الحي؛ فانمسح الواقع من أمام ناظريهاء لتستسام لما نسجه خيالها 
المرعوب؛ الذي أمعن في تشويه صورة المسلم وعالمه. حتى تحول بائع اللحم 
إلى بائع جثث معلقة بخطافات مكشوقة للذباب» فيسيطر عليها نوع من 
الهلوسة. مما يضاعف هلعها (حتى إنها تتخيل نفسها معلقة على خطاف. 
وتتحول لعبة الطفل إلى مسدس حقيقيء أما صوت المداعبة الذي يطلقه 
مراهق» فتحسبه صوت رصاص. وحين يحيط بها مجموعة من المراهقين؛ 
يسألونها: هل ضيعت الطريق؟ تتخيل أنهم يريدون اغتصابها). 

وقد حاولت الكاتبة ألا تغرق في نسج مشهد الرعب المبني على سوء 
التفاهم: وسوء الظن بالآخرء فلج أت إلى تبديد الصمت, الذي يفرخ 
هلوسات مرعبة. وأفسحت لمجال للغة الحوارء كي تمد جسور التفاهم 
«بين الأنا والآخر» مما يتيح لها معايشة الصورة الواقعيةء لهذا يلحق بها 
السائق؛ وهي تولي هاربةء ليسألها «لاذا هربت يا سيدتي؟ اعذريني على 
ما حدث. ولكن القابلة اتصلت لإخباري أن ولادة زوجتي متعسرة: وسألتك 
إن كنت تريدين الهبوط من السيارة وكررت السؤال ولم تجيبي» سامحيتي 
إذا كنت قد أخفتك...». 

يُطمئن السائق؛ الذي يتقن «الإنجليزية» المرأة الغربية بلغة بالغة 
التهذيب» تشع إحساسسا بالآخرء يطلب منها أن تسامحه» إن كان قد أثار 
مخاوفهاء وقد شرح لها ظروفه التي تبدو قاهرةء لكن المرأة الفرنسية لا 
تريد أن تصفي إلا لمخاوفها ورغبتها في الهرب. فيلحق بها قائلا: «من 


204 





«؟لأنا» في مرآة الفر نسي إشر الهرب. . . 


حقك التفتيش عن تاكسي آخرء لكنك نسيت حقيبة نقودك في سيارتي» 
تعالي.. لا تخافي... هل تظنيننا وحوشا يا سيدتي؟! بدلا من التفتيش عن 
طبيب لزوجتي أو نقلها إلى المستشفىء قلقنا عليك, وركضنا خلفك خوفا 
مسن أن تصابي بمكروهء تركت زوجتي في حالة يرشى لها للتفتيش عنك, 
لماذا هربت؟». 

تجسّد لنا الكاتبة شخصية السائق في ثوب أقرب إلى المثاليةء فهو 
إنسان مسلم ملتزم بدينه؛ يمتلك حساً بالمسؤولية تجاه الآخر الغريب. 
حتى يصل الأمر به إلى حمايته من مخاوفهء وقد بدت الفرنسية على 
نقيضه تسيء الظن به»ء وتراه في صورة وحشية:؛ تدفعها للهرب» لكن 
الحركة التي يقوم بهاء تبدو مفصلية (يلحق بها ليرد لها حقيبتهاء التي 
تركتها في لحظة خوف داخل سيارته) عندئذ تبدأ الصورة السلبية 
بالتلاشي في مخيلة الفرنسيةء وتخطو خطوتها الأولى في فهم الآخر, 
حين تبدأ بقهم ذاتها أولاء فنسمع حوارها الداخلي: «هل يعقل أن يكون 
هذا «الوحش البشري» الذي طالما شاهدت أمثاله من خاطفي الرهائن 
في السينما وعلى شاشة التلفزيون وفي كوابيسء على هذه الدرجة من 
الحس بالمسؤولية؟!). 

إن صيغة التساؤل تفصح عن ترددها في مغادرة الصورة النمطية 
المشوهة؛ التي رسمتها للسائق العربي؛ فقد أحست بخروجه عنهاء خاصة 
أنها أحست أن ملامح هذه الصورة: تنتمي إلى عالم افتراضي (السينماء 
الفضائيات,. الوهم) يناقضه الواقع؛ الذي لامسته. حين فوجئت بحرص 
السائق على بث الطمأنينة في قلبهاء إذ وضّح لها سبب أصوات العويل 
المنبعثة من خلف الأعلام السوداء: إنهم يبكون الممرض المتطوع طالب 
الطب (حسين) الذي استشهد البارحة بالرصاص الإسرائيليء ثم يسألها 
«لعلك سمعت عن الحادثةة)» 

يستدعي هذا السؤال لديها رغبة في محاسبة الذات؛ فقد اكتشفت 
أنها أغلقت عينيها عن رؤية هذا الفضاء الفقير في بيروت» حيث يدفع 
أهله دمهم ثمنا لاستمراره في الحياةء فتلوم نفسها لأنها اكتفت برؤية وجه 
واحد لبیروت» حيث لم تسمع فيها «غير موسيقى بیتهوفن وشوبان وموزار 


205 





إشكالية الأنا والآشر 


على يخت صديقها (يحيى) الثريء رجل الأعمال الشاب اللبناني؛ ولم 
تكن أصلا تدري أن ثمة أرضا لبنانية احتلتها إسرائيل «المسالمة المسكينة» 
وكانت تظن ما يدعوه البعض بالمقاومة مجرد إرهابيين» 6). 

إن استجابة «ماري روز» لأوهامها أدت بها إلى النفور من الآخر المسلم, 
واختزاله في صورة متخيلة. رس متها «الميديا» الغربيةء تجعله أقرب إلى 
«وحشء إرهابي» لكن معايشتها له في حياته اليومية قرّبتها من «الإنسان» 
الكامن فيهء ودفعتها للمقارنة بين الصورة الحقيقية للمسلم والصورة 
الوهمية لهء كما قارنت جهلها بقضاياه في مقابل معرقتها بوجهة نظر 
أعدائه وتبثيها لها. وقد تعمّدت الكاتبة أن تحيط فضاء هذا المشهد 
بتناقضات صوتية (أزيز الرصاص الذي يزيد الإنسان قلقا وخوفاء في 
مقابل صوت الموسيقى العالمية. التي تزيد الإنسان رهافة ورومانسية), 
مما أفلح في إيقاظ وعيها وحسها الإنساني» فارتاحت إلى معايشة هؤلاء 
الذين ينتمون لبيروت الفقيرةء وتلمست بنفس ها معاملتهم الراقيةء لهذا 
بدأت مرحلة محاسبة الذات» فقد استسلمت لجهلها بالآخر وبقضاياه 
وشوّهت صورته في ذهنها اعتمادا على أوهامهاء وعلى ما يبه الإعلام 
الغربي: ف «عادت إلى حقيقتها طبيبة تسيل إنسانية, لا تريد غير احترام 
الآخر وإنقاذ روح أخرى مختلفة أو غير مختلفة لا طرق». 

إن انفتاح «الأنا» على الآخر يؤدي إلى انفتاحه نحوها. كما يؤدي 
تعصبها إلى تعصبه» لهذا قابلت المرأة الغربية انقتاح الشرقي (السائق 
) الذي تجلى في إحساسه بالمسؤولية تجاهها وخوفه عليهاء بأن هبت 
لنجدتهء فقامت بعمل يتناسب مع مهنتها (طبيبة نسائية) مما ساعدها 
على إنقاذ زوجته (آمال) التي أنجبت على يديها توأمينء فاتفق جميع 
الأقارب حتى الأطفال على تسمية البنت باسم الطبيبة الفرنسية ماري روز 
(أي مريم زهرة) عرفانا بالجميل» وبذلك يتحول الاسم إلى رمز يؤسس 
للتواصل الدائم بين الأنا والآخرء مثلما بدا اسم الولد «حسين» استمرارا 
لاسم جارهم الشهيد. مما يعني تواصلا مع قيم المجتمع الأصيلة. 

وبذلك تنسج الكاتبة عبر علاقة «ماري روز» و«السائق» صورة جديدة للعلاقة 
مع الآخرء ترتكز على الحوار والمعايشة اليوميةء التي تقرّب بين الشرق والغرب, 


206 





«الأضا» في مرآة الفرضسي إشر الهرب... 


فبدت المرأة الفرنسية سعيدة بالتعرّف على هذا الوجه الأصيل لبيروت. على 
الرغم من فقره. فقد اكتشفت عمقه الإنساني وروعتهء بهرتها مشاعر الحب 
العفوية التي أحاطها بها الناس؛ ورغبتهم في رذ جميلهاء حين ساعدت على 
ولادة التوأمين. ف «هذه تخلع قرطين من ذهب لعلهما كل ما تملك وتريد 
وهبهما لها بيدين أدماهما الكدح» وثانية تحاول عبثا إخراج خاتمها الوحيد... 
وجدة التوأمين تمنحها من يدها إسورة هي بالتأكيد كل ما تبقى لها». 

نجحت الكاتبة في تقديم «الأنا» الشرقية في صورة مدهشة:؛ فهي 
عزيزة النفس» تحاول» على الرغم من فقرهاء رد الجميل بأثمن ما تملك 
ويبرز أمامنا الترابط الأسري بأروع صورةء فقد أراد جميع أقرياء «آمال» 
تقديم كل ما يملكون للطبيبة «ماري روز» التي أنقذت حياة ابنتهم لذلك 
أحست بأنها أقرب إلى هذا العالم الفقير. الذي يتبض إنسانية وحبا 
وبساطةء صحيح أنها أحست بمشاعر الفرح مع «وسيم ويحيى» «لكنها 
ظلت تشعر بوحش تها...هتنا تشعر بمتعة استثنائية تتصاعد بلا هبوط» 
لعلها متعة العطاء والامتزاج بالآخرين». 

أدركت أن علاقتها الإنسانية مع الأغنياء آنية. في حين أحست بأن 
علاقتها مع الفقراء مصدر أمان أبديء إذ باتت تتعلّم من هؤلاء البسطاء, 
وبدأت تدرك خطأهاء حين عمّمت نظرتها عنهم: وبنت أحكامها على أفكار 
مسبقةء فنجدها تقول إثر حوارها مع السائق «ما كل الناس بأوغاد؛ وهو 
ما عليّ أن أتعلمه...». 

وبذلك بدا حوار «الأنا» مع الآخر المختلف موسّعاً لأفق الإنسان؛ ومعلماً 
له أشياء جديدةء فتزداد «الأنا» مثلما يزداد الآخر فهما للحياة: ووعيا 
لغناهاء كما أن المعايشة اليومية لأناس مختلفي الثقافة, تنقذ المرء من 
وحشته. وتضفي حيوية على أيامه. لهذا بدأت ترى الطبيبة «ماري روز» 
حياتها بطريقة جديدة: وأدركت أن معنى وجودهاء لن يكون إلا بالعطاء 
لهذا قفزت إلى رأسها فكرة «أطباء بلا حدود». 

وهكذا أدى الحوار مع الآخر«المسلم» ومعايشته في تفاصيل حياته 
إلى فتح عينيها على حقيقة أعمافهاء كما فتح عينيها على حقيقة العالم 
الشرقيء فاستطاعت أن تكتشف حقيقة مدينة «بيروت» التي غابت عن 





207 





إشكائية الأنا وال شر 


ذهنها «ثمة بيروت سرية نابضة متربصة مثل لغم أو قنبلة موقوتة, لا يمكن 
تفكيكها إلا بالحب والتفهم الإنسانيء ثمة موزاييك بيروتي معقد لم يتح 
لي الوقت لمعرفته؛ لكنني صرت أعي وجوده المعقد الدينامي؛ ولن أنسى 
يوما وجه آمال الشابة الجميلة القوية؛ وهي تنجب» ولا تعرف الشكوى من 
الألمء ولا وجوه نساء يسلن محبة وإنسانية وعطاء رغم فقرهنء ويغمرنني 
بهداياهن» 000 

تتعمّد الكاتبة أن تكش ف للمتلقي حقيقة بيروت السرية؛ وما تعيشه 
من أزمات. حين تدمج شخصية الآخر الفرنسي ببيروت الفقراءء الذين 
يعيشون في حالة إهمال وقهرء لذلك تشبّههم بلغم على وشك الانفجار 
لشدة معاناتهم. 

لعل هذا التشبيه ذا الدلالة السلبية يؤدي إلى نفور المتلقيء مثما 
ينفر من اس تخدام كلمة توحي بالآلية (التفكيك) لكن الوضع يتغير حين 
يأخذ الكلمة بالمعنى الفلسفي العميق الذي يعني (التحليل من أجل كشف 
الممسكوت عنه ثم إعادة التركيب من أجل فهم أفضل). كما أن السياق 
الإيجابي الذي وجدت فيه هذه الكلمة هو (الحب والتفهم الإنساني) يزيل 
أي لبس حولهاء وربما كان وراء اختيار هذا التشبيه (اللغم) شدة خوف 
الكاتبة على مدينتها المفضلة (بيروت) وقلقها على الأغلبية العظمى من 
سكانهاء وبذلك تجسّدء عبر هذه اللغة. الحالة الصعبة: التي تعانيها هذه 
المدينة:؛ التي هي أحوج ما تكون إلى التفكير العلمي (التفكيك) ومشاعر 
الحب» كي يتمّ إنقاذها من ألغامها . 

منحت الكاتبة شخصيات بيروت السريةء على الرغم من المساحة 
السردية الضيقة المخصصة لهاء مجموعة من الصفات الإيجابية (الجمالء 
القوةء الصبر, المحبةء الإنسانية: عزة النفس)» وقد ركزت اهتمامها على 
تصوير نسائها الفقيرات» بطريقة متحمسة, إذ لم تلحق بهن أي صفة 
سلبية: بل منحت المرأة (زوجة السائق) اسما شديد الإيحاء (آمال) فهي 
ملاذ حياة جديدة: تتمحور حول «الأمل» لهذا جعلته في صيغة الجمع؛ 
ليس لكونها تلد الحياة؛ بل لكونها تهب لها معنى: بما تحمله من قيم أصيلة 
(الكرامةء الحرية, المقاومة) لا يمكن أن يستطيع المرء العيش من دونها. 


208 





«! كأخا» فى مرآ ة الفر نسي إشر الهراب. . . 


للوهلة الأولى يحس المتلقي بأن وراء تخصيص المرأة بهذه الصفات 
الإيجابية تمركزا حول الذات الأنثوية لدى الكاتبةء لكننا حين نتأمل مجمل 
الرواية. نلاحظ أنها منحت هذه الصفات لسسكان بيروت السرية جميعاء 
فهم بشر يسيلون إنسانية ظلمهم الإعلام وظلمتهم السياسات. وهذا 
خير دليل على استسلام الكاتبة للرؤية الانفعاليةء التي تنبئْ بشدة حبها 
وإعجابها بهذه القئةء التي وقع على كاهلها عبء المقاومة وتحرير الجنوب 
اللبنانيء وتوحي للمتلقي برغبتها في تقديم الصورة الحقيقية المشرقة 
للمقاومةء التي ظلمها الإعلام الغربي» حين وضهها في خانة الإرهاب. 

لم تلتزم الكاتبة الحياد في اختيار اسم الشخصية الفقيرة؛ كما فعلت 
مع الشخصيات الغنية (فوازء دأنا...) فقد اختارت أسماء ذات دلالات 
إسلامية (السائق عليء الشهيد حسين) توحي بانتماء هذه الشخصيات 
إلى المقاومة الإسلامية في لبنان. 

تعمدت الكاتبة أن تجري حواراء بصورة غير مباشرة: بين الغرب 
ومن يقاوم الاحتلال الصهيوني في لبنان» متجنبة قدر الإمكان المباشرة 
والخطابية في لغة الحوارء كي تقضي على الصورة المشوهة: التي رسمها ' 
لهم الغرب. وتفسح المجال لبناء جسور فهم بين وجهات النظر المختلفةء 
لذلك تعترف «ماري روز» بمتعة الحوار مع أشخاص يفكرون على نحو آخرء 
وتبدو آسفة لعدم تعرّفها على أسرة السائق منذ بداية الرحلة. فقد خلّصها 
الحوار من كابوسها بصفتها رهينة فرنسية في عرين أحقاد الكونت «دو 
ساد» ويالتالي خلّصها من أوهام نسجتها مخيلةء تستعلي على الآخر. 
وتنفيه. لكونه ينتمي لثقافة مختلفةء وبذلك تنتقد ذاتهاء والأفكار السادية 
التي تريّت عليهاء أي تلك الأفكار التي ترى مركزية «الأنا» الأوروبية 
وهامشية الآخر الشرقي. 

أسقطت الكاتبة حبها للبنان على لسان الفرنسية: إذ إن إقامة قصيرة 
فيه لا تتيح لهاء باعتقادناء فرصة اكتشاف خصوصيته ومكمن جمالهء 
حيث يتجلى التنوع والتعايش» وما يتمتع به الشعب اللبناني من حيوية وحب 
للحياة «حرب تنتهي آم تبدأء لكنهم يضحكونء ويرقصون. ويتصالحون؛ 
وینسون» ولا ينسون». 


209 





إشكائية الأنا والآخر 


لم تنظر المرأة الغربية إلى لبنان بعين الحب, التي تقتل الرؤية الموضوعية, 
فلم تر جمال «بيروت» من دون كدرء لهذا استطاعت أن تربط تشوه المدينة 
بتشوه أهلهاء فتساءلت قلقة: «هل لقتل الأشجار صلة بقتل التعايش بين 
الأديان والطوائف». فقد آلمها اغتيالهم للجمال؛ وقتلهم الأشجار مصدر 
الخير والبهاء. حتى باتت عاصمتهم رقعة صماء من الإسمنت,. وقد أبرزت 
هذا التشوه. الذي ترك بصمته. بعد الحرب الأهلية, على روح الإنسان 
وعلاقاته» فأشاع الفساد والخراب في المدينة؛ لذلك قامت بفضح أولئك 
الذين يدمرونهاء مثلما جسّدت الغصّة التي ملأت قلوب أبناتها ومحبيها 
من الغرياء (من بينهم ماري روز). 

هنا يمكننا أن نقول: إن الكاتبة لم تستطع أن تفصل بطلتها الفرنسية 
عنهاء لهذا أسقطت على لسانها حبها لبيروت. وخوفها عليهاء بل رأيناها 
تبین أسباب تشوههاء وكأنها تعرفها منذ زمن طويلء مع أن إقامتها لم 
تتعد أياما فيهاء لكن هيمنة الكاتبة على الشخصية الغربيةء جعاتها تنطق 
بأفكارهاء وتشعر بأحاسيسهاء فتتحسر على مدينة كانت جميلة: عايشت 
«غادة السمان» أيام خضرتهاء في حين عايشت «ماري روز» أيام قحطها . 

المقارنة بين الفضاءين العربي والفرنسي 

انتقلت شخصيات رواية «سهرة تنكرية للموتى» بين فضاءين ينتميان 
إلى عالمين مختلفين «بيروت وباريس» وإن لاحظنا أن «بيروت» شكلت 
الفضاء المكاني الأبرز للرواية. كما شكلت الفضاء الروحي المهيمن على 
أعماق معظم شخصيات الرواية حتى الشخصية الفرنسية؛ لهذا تتساءل: 
«ما الذي فعلته بيروت بكاثي؟ وبي؟ ما الذي تفعله تلك المدينة الأسطورية 
بكل من يلامسها أو يحل بها أو حتى يغادرها بعدما لثم شفتيها... يعجز 
عن نسيانها». 

تجسد لنا الكاتبة بيروت في صورة امرأة استشائيةء قادرة على الحب 
والعطاء؛ مهما كانت الظروفء مثلما هي قادرة على امتلاك بصمة خاصة, 
تعيش في وجدان كل من يعاشرهاء سواء أكان تسري فيه دماؤها أم كان 
غريبا عنهاء كشخصية «ماري روز» التي وجدت فيها ملاذا لأحلامهاء في 
حين وجدت الكاتبة «ماريا» فيها منبعا لإلهامهاء فأي زيارة لها لا بد أن 


210 





«الأنا» في مرآة الفر نسي اشر الهرب... 


تكون وحيا بكتابة رواية جديدةء مما يؤكد لنا تماهي صوت المؤلفة مع هذه 
الشخصية: في المقابل افتقدنا الوصف الساحر لمدينة باريس» الذي لمسناه 
لدى كثير من مبدعي العالمء فهي «مدينة البرد القارسء الطعام المثلج, 
العمل الطويل...» يشبهها «عبدالكريم» بزوجته «برناديت» التي تعشق 
الثراء. ثم يسرع وعي الكاتبة المحب ل «باريس» إلى نفي هذه التهمة عنهاء 
على لسان الشخصية نفسهاء لتجعل عشق المال مرض كل المدن «ولكن 
أليست المدن كلها كذلكة. 

تنجو «غادة السمان» بهذا التساؤل من تهمة التعصب للشرق» أي ل 
«الأنا»» إذ تجعل المدن ذات سمات واحدة. سواء منها العربية آم الفرنسية, 
تعشق الأغنياءء وتدمّر الفقراء»لكن الكاتبة تبدو معنية بتسليط الضوء 
على تلك الهوة التي تنفصل «باريس» عن «بيروت» في مجال العلاقات 
الإنسانيةء فتكون المقارتة بينهما في صالح المدينة القريبة من روحهاء إذ 
يبدو الإنسان العربي لايزال أسير الأخلاق الأصيلة للقبيلة؛ بكل ما تعنيه 
من قيم الإيثار والمحبة والتضحية بالذات من أجل الآخرين» لذلك يستغرب 
«فواز» القادم من «باريس» كيف يترك أقاربه أعمالهم وهواياتهم من أجل 
التفرّغ للقريب العائد إلى الوطن؛ وبذلك استطاعت مشاعر الحبء التي 
أحاطوه بهاء وتضحياتهم» أن توقظ الانتماء الفافي في أعماقه لمدينته الأم 
«بيروت». 

ومما يلفت نظر المتلقي اتساع صدر هذه المدينة للعلاقات الحميمية, 
التي تتجاوز الأقارب؛ لتشمل الجيران أيضاء فقد أنعشت «ماريا» حرارة 
مشاعر جارتها اللبنانية «نهاد» التي بدت متلهفة للقائها وتقديم خدمات لها 
(الإقامة في بيتهاء مساعدتها في تنظيف منزلهاء إرسال الطعام المحبب 
لديها) فتتحول رابطة الجوار إلى رابطة أقوى من الرابطة الدمويةء مما 
دفعها للمقارنة بين جيرانها العرب وجيرانها الفرنسيين «أعيش منذ عقود 
في ذلك المبتى الباريسي؛ وأتبادل التحيات في المصعد مع الجارات: وأجهل 
أسماءهن حتى اليوم. يا لدفء القلب في بيروت: كيف عشت طويلا هكذاء 
بعيدا عما ألفته5 أم أنني ألفت ما أنا فيه. وصرت أعشق عزلتي هناك بكل 
مزاياها ومساوئهاء (۴. 


211 





إشكالية الأنا والآخر 


تأتي المقارنة بين مدينتي «باريس وبيروت» لصالح الشرق؛ فقد 
سكنت «ماريا» في فضاء ٿائي «غربي وشرقي» مما أتاح لها معايشة 
حية لكليهماء برزت ملامحها عبر علاقات إنسانية نسجتها بين «ماريا» 
المتحمسة لمدينتها «بيروت» وجارتها اللبنانية. فيعيش المتلقي أجمل ما في 
الحياة (التعاطف والإحساس بالأخوة الإنسانية) ويلمس عطاء لا حدود 
له. ويذلك تنسج لنا المؤلفة ملامح علاقة إنسانية مدهشة في عمقهاء في 
حين نفت مخيلتها «الآخر الفرنسي» عن فضاته الخاص (باريس) لتسلط 
الضوء على معايشته للفضاء الشرقي عن طريق «ماري روز» كأنها تريد 
أن تستدعي نفورا لدى المتلقي الشرقي من حياة الغريةء لهذا نسجتها 
عير خيوط باهتة باردة من الشكليات الجوفاء(!) تدفع «ماريا» لمحاسبة 
ذاتهاء فقد تركت حرارة قلب بيروت» وغاصت في برودة العزلة في باريس 
لكنها سرعان ما تنظر إلى فضاء الآخر نظرة موضوعيةء فتتذكر الكاتبة. 
التي أسقطت صوتها على لسان بطلتهاء أن لهذه العزلة مزايا أيضاء فهي 
ضرورة حياتية للكاتب, تمنحه الوقت اللازم للقراءة والإبداع فالحياة 
خارج السياق الاجتماعي تنقذه من روتين يستهلك حياتهء وينغص عمله. 

انعكس حب الكاتبة لفضاء المدينة:؛ التي تمثل الأنا (بيروت) في فعل 
صريح يعلن انتماء شخصياتها إليها في خاتمة الروايةء حيث يستقر معظم 
أبطالها فيهاء فمثلا حسمت «سليمى» قلق انتمائها لصالح الا ستقرار في 
مسقط روحهاء بعد أن استيقظت مشاعرها فيهاء إذ لم تجد في «باريس» 
سوى الروتين والموت» لذلك تتساءل: «لماذا في بيروت بالذات؟ ريما لأننا 
نشعر في باريس أن كل شيء على مايرام حتى نتوهم بآننا نعيش إلى الأبدء 
أما في بيروت فنشعر أننا سنموت غداء وعلينا أن نحيا» 

يعايش المتلقي: هناء حساسية الإنسان في التعامل مع الفضاء المكانيء 
الذي لن يكون بمعزل عن عقارب الزمنء إذ شتان بين حياة في فضاء 
هادئ مستقر (باريس) يوحي بثبات الزمن ورتابته. وفضاء قلق (بيروت) 
يهدد حياة الإنسان في كل لحظةء مما يدفعه للإحساس بأهمية اللحظة 
الحاضرةء وأن عليه أن يعيشها مستمتعا بهاء إذ لا يعرف في أي وقت 
تغادره الحياةء وبذلك يكتشف المتلقي أن سرّ حيوية «بيروت» في محنتهاء 


212 





«الأضا» في مر آة الفر نسي إشر الهرب ... 


فقد عاشت سنوات من الرعب والحروب (الحرب الأهلية:, العدوان 
الإسرائيليء المقاومة) لذلك يلهث المرء وراء لحظات السعادةء التي يهددها 
المسوت كل يوم»“في حين يعيش أيامه في «باريس» برتابةء لن يعكر صفوها 
موت مفاجى. 

وقد اكتشفت «ماري روز» أن سر حيوية اللبنانيين:؛ الذين تجعلهم 
مختلفين عن الفرنسيينء أنهم «مازالوا يطيعون القلب» والعمل لا يأتي قبل 
كل شيء: وذلك جميل». 

هنا نتساءل: هل سيادة العاطفة أمر يستحق الثناء في بلادنا المتخلفة؟ 
أليس إهمال الإصغاء للعقل أحد أسياب تخلفنا؟ لكن الكاتبة حذرة في 
تقديم هذه الفكرةء فقد تبنتها «ماري روز» الفرنسية, التي تعاني من قهر 
الحياة الآلية في غرب يقدّس العمل ويهمل العاطفة:. حتى يكاد يضيّع 
إنسانيته؛ كما أن الكاتبة لم تغفل قيمة العمل في حياة الشرقي, لكنها لم 
تمنحها الأولوية. كما يفعل الغربي. 

تبسدو «بيروت» فضاء مهيمنا على «الأنا» والآخر معاً فلم تؤثر على 
أبناتها الذين ترعرعوا في أحضانها فحسب (ماريا مثلا) بل على أولئك 
الذين نشأوا بعيدا عنها في باريس (داناء فواز) فقد تغيّرت حياة «دانا» منذ 
وطأت أرض «بيروت» وبدأت تكتشف ذاتهاء وتبحث عن أسباب ضياعهاء 
واكتشفت أنها لم تعد تعرف ذاتها ولا حتى أقرب الناس إليهاء إذ إن تلك 
المدينة «تمرّي المرء مثل أشعة «إكس» وتيرز الهيكل العظمي لروح المرء 
وخباياها». فهي تسبر أعماق الإنسانء حتى لكأنها مرآة تكشف الحقيقة. 
وتفضح الزيفء لذلك من يحاول الانفصال عنها والالتحاق بمجتمع الآخر 
الغربي سيفشل. كما حصل ل «فواز» الذي نشأ في باريس بعيدا عنهاء لكن 
زيارة قصيرة تعيده إليهاء ليعاني قلق الانتماء «لم أعد شرقياء لكنني لم 
أصبح غرييا بعد» كما كنت أزعم لنفسي». 

لعل سر جاذبية «بيروت» أنها مدينة المتناقضات» يلمس المرء فيها 
الدفء الإنساني والحياةء كما يلمس الموت والفوضى وعدم المبالاة. فيجتمع 
فيها الجمال بالقبح: ولابد لمن جرب الحياة في الغرب» أن تنغص حياته 
فيها مشاهد الفوضى والاستهانة بالقانون, وقد عايشنا أحد هذه المشاهد 


213 





إشكائية الأنا والآخر 


حين صت أقرباء «فواز» سياراتهم في مواقف ليست لهم فدبٌ شجار في 
مرآب السيارات: حتى إن أحد الغاضبين كان على وشك أن يشهر سلاحه 
فهرب «فواز» وهو يسمع أحدهم؛ يصرخ في وجه الآخر«ألا تمرف من أنا؟» 
مبينا أنه أحد هؤلاء الذين يحق لهم تجاوز القانون؛ فهو مسؤول أو قريب 
لمسؤولء لذلك يعلن أنه أكبر من القانون: ويؤسّس لفوضى تدمّر الإنسان 
والفضاءء وبذلك يعايش المتلقي وجها آخر ل «بيروت» شوهته الفوضى إلى 
درجة يصاب المرء فيها بالهلع. خاصة لمن عاش النظام في الغرب. حيث 
القانون سيد الجميع؛ إذلا تحل الخلافات إلا باعتذار المخطئ؛ أما في 
«بيروت» فيكون الحل بإشهار السلاح والتهديد والوعيد. 

وهكذا استطاعت غادة السمان في «سهرة تنكرية للموتى» أن تنقل 
«الأنا» إلى فضاء الآخر (باريس) ثم عادت ونقلتهما معا إلى فضاء «بيروت» 
لنعايش هذه «الأنا» في لحظة تغيير تواجه فيها التشوّهء الذي أحدثته 
الحرب في حياتهاء كما أحدثته في فضاء المدينةء فعاشت التصحّرء لهذا 
بدت الكاتبة خائفة من انتقاله إلى روح الناس. 

كما استطاعت أن تتقل الآخر إلى فضاء «الأنا» في «بيروت» فترى 
جوانب جماله» إذ وجدت فيه الفرنسية «ماري روما ينقصها من دفء 
إنساني» وبذلك أصبح ملاذا روحيا لهاء على الرغم من أنها أبعدته عن الرؤية 
الرومائسية: وحاولت الاقتراب من واقعه»ء كما استطاعت هذه الشخصية أن 
تتلمّس ما یشوه جمالهء فأبدت خوفها من أن ينعكس هذا التشوّه على أبتائه. 
مما يؤدي إلى ضياع قيمهم: التي منحتهم بصمة حضارية خاصة. 

وبذلك بدت الكاتبة «غادة السمان» مؤرقة بهموم «الأنا » حتى حين 
قدّمت الآخر. فجعلته يعايش همومها ومأزقها الحضاريء لهذا لا نستطيع 
أن نقبل قول الروائي الناقد «نبيل سليمان» بأن «المرء يفتقد مساهمة 
الكاتبة العربية» بما هي أنثى. في هذا الحقلء الذي احتكره الكاتب العربي 
طويلاء حقل المناجزة الروائية لأسئلة الحضارة والثقافطة» (9. 


214 





إشكالية 2 الأنا ( ورالآخر ( 
المستعمرفي رواية واسيني 
الأعرج «کتاب الأمير 0 


تقدّم رواية واسيني الأعرج «كتاب 
الأمير»«الأنا» عبر شخصية تاريخية هي 
«الأمير عبدالقادر الجزائري» في لحظة 
مواجهة الآخر (المستعمر الفرنسي))» لكن 
حين يقرأ المتلقي هذه الرواية. يجد نفسه 
يتساءل: هل يحق للروائي تجاهل كل ما 
يشكل خصوصية الشخصية؟ هل يحق له 
انتزاعها من سياقها التاريخي والثقافي» 
كي يرس مها وفق صورة تسعى إلى إرضاء 
رغباتهء فيخضعها لأفكاره وزمنه؟ ترى هل 
يحق له رسم الشخصية التاريخية في صورة 
تبدو للمتلقي غريبة عن فضائها الخاص؛ 
أي عن كل ما يمنحها تميّزا وهوية؟ 


”7 
«كيف تكون الشخصية 
من دون أن نعزلها عن عصرناء 
فتبدو مستقلة من دون أن تعاني 

غربة عن همومنا؟» 





المؤلفة 


215 





إشقالية الأذا والآخر 


هل إلغاء الصراع الفكري بين «الأنا» و«الآخر» المستعمر ضي الرواية 
التاريخية يمنحها مصداقية؟ ل اذا اختفى الحوار مع الآخر المخالف 
للأمير؟ لماذا سلط الروائي الضوء على أصدقاء عبدالقادر الجزائري 
من الفرنسيين؟ لم بدا لنا الحوار لقاء انتفت فيه حدّة الصراع بين 
الأمير والمستعمرء على الرغم من أنه استمرٌ خمسة عشر عاما؟ 

هل تكفي منتخبات من الوثيقة التاريخية وفق رؤية مسبّقة وقليل 
من التخييل لتجسيد شخصية كانت مؤثرة في زمنها ومازالت5 أليس 
التحدي الأكبر أمام الروائي هو: كيف يتمكن من تقديم روح الشخصية 
التاريخية ونبضها وأحلامها وأفكارها الخاصةء التي تستقل بها عنه؟ 
ولكن هل يستطيع أن يجسد مثل هذه الشخصية المستقلة من دون أن 
ينطقها بلغة خاصة بهاء أي بلغة تتناسب وسياقها الثقافي والتاريخي؟ 
ألا تقاس مقدرة الروائي بتقديم شخصيات تخالف رؤاه» فيمنحها 
حرية التعبير واستقلالية الفكر بمعزل عنه؟ 

ماذا يعني تستر الرواية التاريخية على تصرفات الآخر المستعمر 
الوحشية؟ لماذا سعى الروائي إلى تجنب تقديم العالم الداخلي 
للشخصية التاريخية في أغلب الأحيانة لماذا حرص على اطلاع 
المتلقي على الأفكار والمشاعر التي تنتمي إلى وجهة نظر واحدةء أي 
تلك التي تعتلج في أعماق الآخر الصديق لا العدو؟ 

كيف تكون الشخصية التاريخية ابنة زمانها وأفكارها من 
دون أن تعزلها عن عصرناء فتبدو مستقلة من دون أن تعاني غربة 
عن همومنا؟ة 

لا بد أن يتساءل المتلقي مستغريا: لماذا سيطر صوت واحد للآخر 
(مسالم ومتسامح وخير. ..) وأغفل الصوت المعتدي الذي صر 
على البقاء في الجزائر مائة وثلاثين سنة, ولم يخرج منها إلا 
بالثورة والدم؟! 

سستحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذه التساؤلات. فتلقي 
الضوء على مكونات الرواية الجماليةء وأثرها في تقديم إشكالية 
«الأنا» و«الآخر». 


216 





إشكالية «الأنا» وداقاً خر» المستعصر. .. 


جماليات عنوان «كتاب الأمير بين «الأناء ورالآخر, 

يلفت نظرنا في العنوان كلمة «كتاب» فهي تحيل إلى المرجعية التراثيةء 
التي تجعل هذه الكلمة جزءا من العنوانء مثل «كتاب البخلاء» للجاحظ 
وربما استخدم الروائي هذه الكلمة في العنوانء كي يوحي بأن ثمة مرجعية 
موضوعيةء ذات صلة بالوثيقة التاريخيةء تحاول الرواية اعتمادها من دون 
أن تهمل جماليات الرواية: إذ أفسحت المجال لصوت الأنا والآخر في التعبير 
بحرية عما يجول في الأعماق: لكن سرعان ما يستبعد المتلقي هذا التأويل 
بعد أن يلاحظ أنه تم اختزال «الأنا» والاكتفاء بكلمة «الأمير» فالكاتب 
يعوّل على لقب الشهرة ل عبدالقادر الجزائري لكن المتلقي اليوم» سواء 
العربي أم الغربي» بات يجهله خصوصا بعد أن ابتعد عن الفترة التاريخية 
التي ساد فيه هذا اللقب» لهذا نلمح في حذف الاسم رغبة الروائيء ريماء 
اللاشعورية في عدم تحديد «الأنا» وتجسيدها عبر خصوصية الاسم 
الذي يوحي بهويتها المستقلة وبإنجازاتها في مواجهة الآخر المستعمرء إذ 
يصمح لقب «الأمير» على الأنا والآخرء وبذلك لا يختزل العنوان المقولة 
الأساسية للروايةء كما أنه قد يحيل الذاكرة إلى كتاب «الأمير» لميكافيلي 
من دون أن تكون هناك صلة دلالية بين الرواية وهذا الكتاب. 


الآخرالمضمر 

نقصد بمصطلح «الآخر المضمر» المتلقي القابع في لاوعي المؤلف في 
أثناء الكتابة» أي المتلقي الذي ينتمي إلى الآخرء الذي يملك القوة والهيمنة, 
مثلما يملك الجوائز والمكافآت ووسائل الإعلام وإمكانات الترجمة؛ لهذا بدا 
لنا واسيني الأعرج معنيا بمجاملته؛ فركز على صوت واحد للآخر الفرنسي 
«المسالم والمتسامح» لعله يمحو ذكريات حرب أليمة استمرت أكثر من مائة 
عام» ويؤسس لعلاقة ودية بيننا وبين الغربيء بتنا اليوم أحوج ما نكون إليها . 

ثمة غاية نبيلة يلمسها المتلقي في الروايةء وهي الرغبة في المصالحة 
بين «الأنا» والآخر الممستعمرء وقد ساعدت شخصية الأمير «عبدالقادر 
الجزائري» الروائي» بما تمتّعت به من صفات أصيلة قوامها الروح 
الصوفية:, التي تميّزت بالتسامح والانفتاح على الإنسان. أيا كان» حتى 


217 





إشكالية الأنا واكآخر 


وجدنا الراهب يصفه بأنه كان في كل معاركه مهموما ب«مصلحة الإنسان». 
لذلك بات قدوة للآخر الفرنسيء لهذا لاحظ المتلقي كيف أن الطبيب 
والمترجم بواسوني الذي عمل مترجما لدى الأمير أثناء إقامته في فرنساء 
يقرر ملازمته» حين فك أسره؛ على الرغم من انتهاء مهمتهء فنسمعه يقول: 
«يوم صممت على مرافقتك أنا وعائلتي لم يكن في ذهني إلا شيء واحد. 
هو أن أبقى وفيا لمثل أعلى في الحياةء أنتم تمثلونه أحس ن تمثيلء لا أريد 
من الحرب التي خضناها أن تجعل الحياة باردة في أعينناء (21. 

ثمة رغبة لدى الروائي في فتح صفحة جديدة مع الآخر بعيدا عن 
ميراث الكراهية: التي تس تدعيها الحرب» فعمل على تخفيف العداء بيننا 
وبين المستعمرء وهذا من حقّهء إذ لا يمكن لأحد أن يلومه على ذلك مادام 
يحاول أن يرسم ملامح ماض لا دورا في إثارة حقد «الأنا» على الآخر؛ 
خصوصا بعد زوال ظاهرة الأستعمارء لهذا أراد أن يجعل من ش خصية 
الأمير التاريخية أمثولة تصلح للآخرء مثلما تصلح «الأنا» المسلمة! في 
زمن مضى وزمن حاضر. 

لكن ما نأخذه على الروائي المبالغة في استخدام اللغة المستسلمة: التي 
يرسم بها صورة مناضل ضد الاستعمارء حتى وجدناه يلغي حق الجزائريين 
في الحريةء ويساوي بين الضحية والجلاد. فمثلا حين قال لويس نابليون 
للأميرٍ وهو يهديه سيفا قبل مغادرته الأراضي الفرنسية: «أنا أعرف أنك 
لن تستله في وجه فرنسا». 

فرردٌ الأمير: «لم أعد ممن يلتجئون إلى الأسلحةء سأدعو في صلواتي 
لسموكم ولبلادكم العظيمة خيرا وهداية؛ أما ما يحدث هناك في تلك الأرض 
الطيبةء فالله وحده يعرف سر عواقب الأشياء. أتمنى خيرا فقط للكل» (2. 

هنا يتساءل المتلقي: أيمكن لمن قاتل الاستعمار خمسة عشر عاما أن 
يتحدث بمثل هذه اللغة المستسلمة؟ صحيح أن الأمير لم يعد يستطيع القتال 
بالسلاح»ء لكن ألا يؤمن بحق بلده في الدفاع عن النفس» أيمكن أن يسكت 
في مثل هذه المناسبة عن الدفاع عن حق شعبه في الحرية: أو على الأقل 
أن ينتهزها فرصة ليتحدث عن الظلم الذي يتعرض له ثم أليس من حق 
الشخصية المناضلة أن تتحدث بينها وبين نفسهاء إن لم تستطع الحديث 


216 





إشكالية «الأنا» ودالا خر» المستعصر. .. 


علنا عمًا يقهرهاء بعد أن انتصرت قوة المستعمرء فتبين وجهة نظرها في 
السلام والحرب» وفي الظلم والعدل؟ المؤسف أن مثل هذا الحديث قد ألفيء 
فأصاب الشخصية التاريخية بنوع من الهشاشة: إذ يلاحظ المتلقي أن المؤلف 
أراد لها أن تجسّد دورا واحدا يعجب الآخرء لذلك حاول أن يقلص صوت 
الأمير «المجاهد» ويبهت ملامح صراعه مع ال ممستعمر وينأى ببطله عن اللغة 
الصدامية وبخاصة الدينية التي تشكل دافعا يحمّسه للمواجهةء ويكسب 
صوته خصوصية: وكي ينسجم المؤلف مع هذه الرؤية المهادنة للشخصية كان 
بإمكانه ألا يسلط الضوء السردي على فترة جهاد الأمير في الجزائر بل على 
فترة تصوفه في الشام؛ حيث نفاه المستعمر. 

أعتقد أن لزمن كتابة هذه الرواية (بعد أحداث الحادي عشر من 
سسبتمبر 2001) أثرا في رسم ملامح شخصية الأميرء والتركيز على 
الجانب المسالم والمنفتح لديه؛ إذ عاش المؤلف أصداء هذه الأحداث في 
آثناء الكتابة: فقد شرّه الآخر صورة العرب والمسلمين: وألصقت بهم تهمة 
الإرهاب. فكان على المثقف العربي أن يعلن أن لدى أهله وجها آخر غير 
العدوان: فهم كغيرهم من الأمم ينقسمون إلى طائفتين: الأولى منفتحة 
على الإنسان تقرس الحياة أيا كانت. وهي بذلك تتبع الآية الكريمة «من 
قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاء ومن 
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاء (3). أما الطائفة الثانية فظلامية منغلقة 
على فكرة العداء للآخر والرغبة في التخلص منه. 

لهذا لن نستغرب أن يُسقط واسيني الأعرج على الشخصية الروائية 
(الأمير) أفكارا راودته في تلك الفترة حتى وجدناه يعاتب نائبه على قتله 
الأسرى بلغة ثثبض بهم الحاضرء تكاد تكون للمؤلف: «ها قد عدنا لإسلام 
لا يعرف إلا الحرق والتدمير والقتل والإبادة والغنيمة: كما ألصقت هذه 
الصورة بناء لقد أمضيت كل ستوات الحرب أثبت للآخرين أننا نحارب» 
ولكن لنا مروءة ورجولة: لقد دفعنا أعداءنا لتقليدنا ...» 4#). 

ترى هل هذه لغة الأمير عبدالقادر الجزائري؟ هل يمكن لفقيه في 
الدين مثله أن يلصق بالإسلام الحرق والتدمير والقتل والإبادة والغنيمة؟ 
لو ألصق هذه الصفات السلبية بالمسلمين لعذرناه. فقد تم تشويه تعاليم 


219 





إشكالية الأضا والآخر 


الإسلام السمحة؛ وماتزال» على أيدي كثير من أبنائه؛ ومما يثبت أن هذه 
هي لغة المؤلف لا الشخصية الروائية اس تخدامه جملة تردّدت كثيرا إثر 
أحداث سبتمبر 2001 (كما ألصقت هذه الصورة بنا). 

وبذلك طفت لغة المؤلف على الشخصية:؛ فأهملت اللغة الخاصة 
بالأميرء أي تلك اللغة التي تتناسب مع السياق التاريخي والثقافي؛ الذي 
نشأت فيهء فهي ش خصية متدينةء تتبع تعاليم دينها في الجهاد وفي 
التعامل مع الأسرى. في حين وجدنا المؤلف يعنى بلغة الراهب. حتى ليبدو 
لنا مطلعا على الدين الإسلاميء فيحاور الأمير على أساسه»ء «في أي 
شيء... يفيدك في حربك على الذين احتلوا أرضك قتل هؤلاء الأبرياء؟ 
وأعرف أن دينك يمنعك من قتل النفس إلا بالحق.» (5. 

أعتقد أن لغة المرجعية الدينية أحد أهم العواملء التي تمنح خصوصية 
لشخصية الأميرء خصوصا أنه فقيه ومتصوفء لكن المؤلف حاول تجنبها قدر 
الإمكانء فحرم بذلك الشخصية مما يشكل هويتهاء مثلما حرمها أحد دوافع 
جهادها ضد المحتلء فبدت لنا شبيهة بمؤلفهاء الذي يعيش تحت وطأة المعنى 
السلبي للجهاد؛ الذي شس له الغرب خاصة إثر أحداث الحادي عشر من 
سبتمبرء فصار قرينا للإرهاب» لهذا أقصى لغة الأمير عن مرجعيتها الدينية. 
فبدت دنيوية لا تستند إلى موروثها الثقافي؛ الذي ش كل وجدانهاء وحاول 
أن يجنب بطله (الأمير) استخدام مفردة الجهاد. مع أن السياقين التاريخي 
والثقافي؛ يوحيان لنا بأن الشخصية عاشت هذا المفهوم بأقصى أبعاده؛ فمثلا 
يبن المؤلف أسباب قتاله الأعداء حتى اللحظة الأخيرة «كي لا أحمل ينا على 
ظهري تجاه شعبي» ولا يشتمني من يأتي بعدي» (. 

وبذلك يبين سبب استمراره في مواجهة الأعداء بعيدا عن مفهوم الجهادء 
الذي كان أحد دوافعه إلى فتالهم., باعتقادناء في حين بدا أمير واسيني 
الأعرج مهموما بتخليص ضميره من اللوم الشعبي في الحاضر والمستقبل. 

وحين يضطره السياق إلى استخدام هذه اللفظةء يلاحظ المتأمل كيف 
يبدل المؤلف جهده. ليختار مفردة أخرى تعبّر عن الجهاد. وتساعده في 
الوقت نفسه على التخلص من الدلالة الدينية لهاء لعله لا يريد أن يستفز 
المتلقي المضمر «الغربي» فحاول أن يقصي هذه المفردة المزعجة للآخر 


220 





إشكالية «الأنا» و«الأخر» المستعصر... 


عن لغة الشخصية: مع أن الأمير في أمس الحاجة إليهاء خصوصا حين 
يتوجه إلى جنده كي يقنعهم بضرورة الاستمرار في قتال المستعمر «كان من 
واجبي أن أفي بما قطعته على نفسي أمامكم: حتى لا يتهمني أي مسلم 
بأني تخليت عما وعدت به لنصرة القضية الكبرى...» 7) فاستعاض عن 
مفردة الجهاد بمصطلح أكثر حيادية وابتعادا عن المرجعية الدينية هو 
مصطلح «القضية الكبرى» بل وجدنا المؤلف يسعى إلى تجنب استخدام 
كل اشتقاقات الجهاد. ففي مشهد يريد فيه الأمير أن يبث الحماسة في 
جنده» نجده يخاطبهم ب «المسلمين الصالحين» عوضا عن «المجاهدين»: «إن 
ما أطالب به يمثل ما يلزمكم به شرع النبيء وما يجب تقديمه كمسلمين 
صالحين: وهو بين يدي أمانة مقدسة لنصرة الإيمان والحق» (8. 

ما يلفت النظر هنا استخدامه تعبير «شرع النبي» لا يمكن أن يصدر 
عن متدين فقيه كالأمير عبد القادرء فالشرع ينسب إلى اللهء هنا نجد تأثر 
المؤلف الواضح بلغة الآخر (المستشرق) ونظرته إلى الإسلام. 

وإذا كان لا بد من استخدام مفردة «الجهاد» نجد المؤلف يستبدلها بلفظة 
أكشر حداثة هي «المقاومة» (شاع استخدامها في اللفة العربية بعد نكبة 
فلسطين 1948( وبذلك ينفي المؤلف الشخصية عن لغتها التي تتلاءم مع بناء 
وجدانها وزمانها الذي عاش ته ويستخدم لغة بعيدة عن سياقها التاريخي «لا 
حلء إما قبول المهانة والموت وإما المقاومة؛ قد لا ننتصر في حروبنا القادمةء 
ولكن على الأقل نكون قد أدينا ما أمرنا به رينا...» 9. 

كأن الروائي يخاف استخدام لفظة «الجهاد» التي باتت اليوم تقترن 
بمصطلح «الإرهاب» لدى المتلقي الغربي؛ فيتكرر في الرواية تجنبه لهاء 
ليستخدم «محاربة» وهي مفردة مسلوخة عن سياقها الديني «يجب أن 
يعرف الناس أن محارية الغزاة والكفار ترضي النفس والله» يجب أن 
نجازي من يبذل النفس والنفيس في نصرته للحق» 1. المدهش هنا 
أن الأمير يخاطب الناس المؤمنين بلغة تبتعد عن مرجعيتهم الدينيةء التي 
تريوا عليهاء فصارت تش كل وجدانهم» أي صلب شخصيتهم» وبذلك سلخ 
الشخصية من جماليات لغتهاء أي سلخها مما يبث الحماسة في المسلمين 
الذين يتوجه الأمير إلى تحفيزهم على مواجهة المستعمر. 


221 





إشكالية !كأنا والآخر 


وكي لا نتهم بأننا نظلم المؤلف. يستوجب علينا أن نحتكم إلى المذكرات. 
التي تركها الأمير لنتأمل لغته المنطوقة فعلا؛ لا تخيلاء وحين نعود 
إليها نلاحظ أن اللغة الدينية تشكل ركنا أساسيا من مرجعيته الثقافية 
والوجدانية والتريويةء ومع أن هذه المذكرات كتبت في ديار الأعداء. الذين 
بات أسيرا لديهم. ومن الواجب أن يتخفف منهاء لكنه يعبر صراحة عن 
خصوصيته في مواجهة العدو: «إنني أجاهد عن ديني وعن بلادي...» (11). 

وكي لا نتّهم بأننا أغفلنا اللفة الموضوعية: وتعدّينا على الأمانة العلمية, 
يثعين علينا أن نذكر أن المؤلف لم يستبعد لفظة الجهاد بش كل نهائي من 
قاموس الرواية اللفوي, لكننا وجدناه يستخدم هذه اللفظة في سياق يوحي 
بدلالتها السلبية؛ إذ يتذمر الأمير قائلا: «الكل يصرخ بالجهاد وأنا أعرف 
سلفاء عندما تتكلم المدافع والبارود سينسى الكثير منهم تعهداته...» (02. 

تتحول, هناء الدلالة الإيجابية للجهاد (التي ترتبط بالوهج الديني 
والالتزام الأخلاقي والدفاع عن الحقء لتصل إلى درجة بذل أغلى ما يملكه 
الإنسان) إلى مدلول نقيض «نسيان وعدم وفاء وغدر» يصاحبه الصراخ. 

لولم تتكرر هذه الدلالة في الرواية؛ لما كنا نتوّقف عندهاء لكن اللافت 
للنظر تكرارها في السياق السلبي نفسه للجهاد. فقد وجدنا الراوي يجعل 
هذه المفردة أشبه بمهمة دنيوية ثقيلة يتهرب منها الجزائريونء فتلحق بهذه 
اللفظة دلالة سالبية (التعب وطلب الإعفاء من مهمتها) لأنها ذات أبعاد 
دنيوية لا علاقة لها بالمرجعية الدينية؛ فدالسنة التي قضاها الأمير بعيدا 
عن الدائرة بين القبائل وسكان الجنوب أكدت له ما كان يخشاه. تعب 
الناس ومشقتهم وعدم استعدادهم لخوض الجهاد ... طلبوا منه وترجوه أن 
يعفيهم من مهمة الجهاد» (13), 

تتكرر مفردة «الجهاد» مرتينء فتأتي مصحوبة بجملتين ذواتي أفعال 
تنفر منه وترفضه (عدم الاستعداد للجهاد؛ طلب الإعفاء منه) على الرغم 
من السياق السلبي لهذه اللفظةء هناء من الممكن أن نتفهم تعب الناس» 
خصوصا بعد أن حوصر الأمير وجنده من قبل حاكم المغرب والفرنسيين. 
لكن ما لا يمكن أن نتفهّمه هو الابتعاد عن روح الشخصية والعصر الذي 
تعيش فيه. فيبدو خيار الجهاد مفروضا على الأميرء ولم يختره بملء 


222 





إشكالية «الأضا» ودالآ خر» المستعهر . .. 


إرادته. مع أنه لم ينقطع عن قتال الأعداء خمسة عشر عاماء أليس غريبا 
أن ينطق بلغة مسلوية الإرادة في أثناء حديثه عن هم مصيري وهبه حياته 
وشبابه؟ فيحوٌّل الجهاد إلى منصب دنيوي» سالخا أبعاده الدينية «العرب 
مصممون على الجهادء ولا يمكنني إلا أن أكون بجانب الذين بايعوني في 
هذا امنصب...» 14). 

أليس غريبا أن يبدو لنا الأمير أشبه بمحلل محايد لمعنى الجهاد؟! 
«إن الحرب قاسية وإن الجهاد لا معنى له إذا لم يضمن حدا أدنى من 
غريزة البقاء. ليس للأغراد فقطء لكن للأرض والتراب...» (215. وبذلك بدا 
الجهاد في رأي أمير واسيني الأعرج «لا معنى له» وهو يشترط لحصول 
معناه أن يبقي على «غريزة البقاء» فكأن جهاد عبدالقادر الجزائري 
خمسة عشر عاما انتحار وإذعان لقسوة الحرب وبذلك انتزع المؤلف لغة 
الشخصية من روحهاء وقتل تفرّدهاء فبدت غريبة عن سياقها الديني 
والتاريخي» خصوصا حين أغرقها بسياق دنيوي؛ قد يكون موجوداء لکن 
ليس هو الأساس في الصراع مع المستعمر لهذا نلمس رغبته في نفي 
هذه الشخصية عن مرجعيات أساسيةء شكلت بنيتها الفكرية والروحيةء 
ومنحتها بصمتها في التاريخ والثقافة. 

ومما يؤكد هذا الرأي أن المؤلف» كان يحرص على أن يتجنب أميره 
استخدام أي مفردة ذات دلالة دينية على صلة بمفهوم «الجهاد». لذلك لم 
يس تخدم مفردة «الشهادة» في أثناء سرد الأمير لصديقه الراهب معاناته 
وجنده «ماذا بقي لي سوى ستمائة من الخيالة مصممة على الذهاب معي 
إلى أقصى الدرجات. إلى الموت؟ (16. 

قد يرد علينا بأن الأمير يسرد ما حدث لصديقه الفرنسيء وليس 
مضطرا إلى استخدام مفردة تميّز مرجعيته الدينية أمامهء لكننا لااحظنا 
آنه استخدم مفردة «الموت» عوضا عن «الشهادة» وهو يتحدى عدوه القائد 
«بيجو»: «نحن مستعدون للموت مؤمنين إذا اقتضى الأمر» (17. 

لكن الأكثر غرابة أن يتجنب الأمير استخدام مفردة الشهادة. وهو يخاطب 
جنده فإذا كنا قد نلتمس له العذر» حين يتجنبها في أثناء مخاطبة عدوه؛ 
فإننا لن نستطيع ذلك حين يخاطب جنده قائلا: «قد تكون حرينا خاسرة؛ 


223 





إشكالية الأنا والآخر 


وقد نموت. ونفقد الكثيرين...» فتبدو لفته وهو يحمّس جنده هزيلة منزوعة 
الروح, فيفقد القائد الرابطة التي تجمعه بهم. وتجعل لموتهم معنى. ولذلك 
حين يستخدم لغة منزوعة الروح» ينتزع الروابط المشتركة بينه وبينهم فيضيّع 
اللغة التي توحدهم وتحمّسهم في مواجهة العدو. 

إن ما يلفت النظر هو تجنب الأمير استخدام هذه اللفة الدينية حتى 
بینه وبين نمسه؛ فمثلا بعد أن تعب أتباعه. واقترحوا عليه الاستسلام: نجده 
يحدث ذاته «أنا مشيت في طريق: من سلكه سار فيه حتى منتهاه» (15). مع أن 
السياق يوحي بجملة «سار فيه حتى الشهادة» فهذه المفردة أكثر مواءمة لروح 
الشخصية وفكرها الديني. أي أكثر مواءمة لمكوناتها وخصوصيتها . 

يهيمن المؤلف على لغة الاعتراف, التي تختلج في أعماق الأميرء فلا 
تفلت منه لغة لا شعورية من المعروف أنها تنطلق بعيدا عن القيود التي 
يضعها الآخرون لتفصح عن أعماقها بكل حريةء فلو تأملنا لغة الاسترجاع 
والتذكر لبدت نا محكومة بقبضة المؤلف» مما يجعلها لا تتناسب وسياقها 
الداخلي الذي من المفروض أن يكون منسجما مع المكونات الوجدانية 
للشخصية:؛ فمثلا حين تذكّر الأمير معاناة جنده من هجوم مفاجيٌ فرأى 
«الأدخنة المتصاعدة وصرخات الأطفال والنساء الذين فوجثوا في غفوتهم» 
ورأى بألم كبير الثلاثمائة فارس الذين ارتموا بقوة في أتون النارء وهم 
يعرفون أنهم سیموتون...» (09. 

أقدم المؤلف. وهو يجسد مجزرة وحشية ارتكبها المستعمرء على انتزاع 
الدلالة الوحيدة؛ التي يجد فيها الجزائري عزاءه؛ فألغى لفظة الشهادة, التي 
تتبادر إلى ذهنه. وذكر لفظة الموت في لحظة أحاط به الظلم والظلام: وسّدّت 
أمامه كل المنافن, قد يقول المؤلف بأنه يريد أن يظهر حياديته وموضوعيته 
في تقديم شخصية: أحاطت بها القداسةء وهذا من حقهء لكني لا أعتقد قد أن 
من حقه نزع هذه الشخصية من مرجعياتهاء التي بنت عليها حياتها وأفعالها 
ودوافعها في مواجهة المستعمر بحماسةء ليس من حق المؤلف أن ينتزع لغتها 
الخاصة ويفرض عليها لغة ذات دلالات حديثة. أي ذات مرجعية تنتمي إلى 
الآخرالغرد بي (خصوصا تلك التي شاعت في وصف الأعمال الاستشهادية 
للمقاومة الإسلامية) فينطق المجاهد المسلم بلغة بعيدة عن زمنه وعن روحهء 


224 





إشكالية «الأنا» و«ا 3 هر» الاستهمر. .. 


ويجعله يس تخدم مصطلحا غربيا «عمل انتحاري» ضد المستعمر الفرنسي» 
وقد تكرر هذا المصطلح على لسان الأمير ومعاونيه. مع أنه لا يعقل أن 
يستخدمه مؤمن: فما بالكم بمجاهد عاش حياته مقدسا الشهادةء ورافضا 
الانتحار فمثلا حين ينتاب نائبه «التهامي» اليأس بعد أن اشتدٌ الحصار 
على جيش الأمير من قبل الفرنسيين وملك المفرب. فنجده يتخيل الأمير 
«يحشو سلاحه في لحظة ياس ويذهب وحده» رافضا أي مساعدة باتجاه 
«بوجو» في عمل انتحاري» (20), 

نتساءل: هل يمكن لابن التهامي (الفقيه) أن يستخدم مصطلحا غربياء 
لا يتناسب مع بنية الشخصية المؤمنة. سواء تلك التي تتخيل (التهامي) أو 
تلك التي يقع عليها فعل التخيل (الأمير) مثلما لا يتناسب مع بيئة متدينة 
تجاهد دفاعا عن أرضها وكرامتها؟ إذ من المعروف أن التخييل يستمد 
عناصره من الواقع ومن قيم موروثة عن الأجداد. تشكل وجدان الشخصية؛ 
خصوصا أنها معروفة بالتزامها بمرجعياتها الدينية والاجتماعيةء وعدم 
تمردها عليها. 

لا يكتفي المؤلف بإنطاق «أنا» الشخصية المفردة بهذه اللغة الغريبة عن 
هذه المرجعيات؛ بل نجده يسقطها على «النحن» أي على جماعة المجاهدينء 
التي تمتلك ثقافة إسلامية متميزة. لهذا شاركت الأمير في جهاده وفي خيار 
الرحيل إلى الشرقء» ورفض الإقامة في فرنسا على الرغم من المغريات 
الكثيرةء لذلك لن نستغرب حديث الأمير عنها (مع صديقه الراهب) بصيغة 
الجمع فتتحّد معاناته الخاصة بمعاناتهاء لكن ما يدهش هو إسقاط لغة 
المؤلف على لغة الجماعة مثلما أسقطها على لغة الفرد: «فكرنا يوما في 
الانتحار الجماعي على الرغم من أن الله لا يحب ذلك» (21. 

ينتزع المؤلف الجماعة «الأنا الجمعية» من مرجعيتها الدينيةء التي 
تشكّل صلب حياتهاء فيلفي لغة الإيمان بالله. فكأنه يلغي قيما ترشدها في 
حياتهاء وتز صمودها في وجه أعدائهاء وبذلك يهمل شان قيم يعيش 
عليها المؤمن كالصبر الذي هو قرين الإيمان لدى المسلم» فيهمل ما يقوي 
الإنسان من الداخل ويساعده على مقاومة عقبات الزمان؛ ويبعث فيه 
الأمل بحياة أفضل. 


225 





إشكانية الأنا والآخر 


وبذلك يمكننا القول إن المؤلف لم يستطع التخلص من رؤيته المادية 
للحياةء والإصغاء لمكونات خاصة بشخصيته التاريخية: فهي تعيش وفق 
مكونات نقيضة لهء لذلك كان من الطبيعي إهمال الرؤية الروحيةء الأمر الذي 
استدعى إهمال اللغة المميزة. التي ينطق بها الأمير ورفاقه المجاهدين معه. 

ومما يعزز هذا الرأي أنتا وجدنا المؤلف في أثناء مشهد حواري بين 
الراهب والأمير ينطق هذا الأخير بقكرة. لا يمكن أن تطرأ على ذهن 
متصوف. نشا في بيئة إسلامية؛ إذ من الواضح أنها وجهة نظر المؤلف 
أسقطها على لسان الأمير حين يقول «في كل الأديان شيء من التطرف, 
يدي إلى هلاكها» (22). هل يمكن لمن عاش رسالة الدين السمحة في حريه 
وسلمه أن يقول بتطرف الأديان؟ هل يمكن أن يخلط بين الدين السمح 
والمتدين؛ الذي قد يكون متطرفا أو معتدلا؟ 

حين يتأمل المتلقي مذكرات الأمير يجده بعيدا عسن التعصب معنيا 
بتقارب الأديان. حتى إنه حاور النصارى ليؤسّس تقاربا بينهم وبين المسلمين 
استتادا إلى القرآن الكريمء «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا 
إنا نصارىء ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناء وأنهم لا يستكبرون» (23). 

وعلى نقيض المؤلف الجزائري الذي يشارك الأمير الانتماء إلى «الأنا» 
العربية؛ نجد الفرنسي برونو إيتيين قد انتبه إلى المرجعية الدينية السمحة, 
التي تربّى عليها الأمير. وشكلت انفتاحه «أدرك الأمير في خضم آلامه في 
المنفى أن السياسة تضيّق المدى الكونيء أما القداسة فهي بالعكس تزيده 
سعة ويراحا» (24), 

إثناء هناء لا نصادر حق الروائي في رسم ملامح الشخصية وفق خياله 
وهواجسه الفكرية؛ لكن بشرط ألا يقفل إنطاقها بلغة تتناسب ونسقها 
الثقافي والتاريخيء إذ يجب عليه الاعتناء بهذه اللغة كي لا تبدو غريبة عن 
بنيتها الفكرية والروحية. 

ربما كان واسيني الأعرج قد تخيّل الشخصية وفق رغبة الآخر 
ومرجعيته. فمسخ ملامحها الأساسيةء وفصّلها انطلاقا من رغبته في 
إرضاء المتلقي الغربي العلمانيء الذي غالبا يرفض الدين ويرى فيه أحد 
أسباب الصراع في العالم. 


226 





إشكالية ١١‏ كأنا» و«ا 5 فر )» المستعصر. .. 


ومما يؤكد طغيان هذه المرجعية الغريية على مخيلة الروائيء أنها 
أصبحت مرجعية تخييلية تهيمن عليه فقد شبّه وجه الأمير المتعب الذي 
يعلوه الاصفرار بناوجه كاهن مسيحي» (25). 

ثمة رغبةء قد تكون لاواعيةء لدى الروائي في رسم صورة للأميرء 
ترضي المتلقي المضمر «الغربي» الذي يمسك بمفاصل الحياة الاقتصادية 
والثقافية والسياسية... إلخ؛ فينطق الشخصية بلغة لا تتتناسب مع تاريخها 
النضاليء لذلك لم يستخدم الأمير لغة دينية تحرّض على الجهاد. فتزعج 
الآخر الغربي: مع أنها تتناسب وخصوصية الشخصية التي قاتلت الأعداء 
انطلاقا من مرجعيتها الدينيةء لكن ما يثير الانتباه أن المؤلف أنطق 
الشخصية بهذه اللفة في مواقف حياتية أخرى لا علاقة لها بالجهادء 
«ليتحمل كل واحد مسؤوليته أمام نفسه وأمام الله فلا يكلف الله نفسا 
إلا وسعها» ©26). هنا نتساءل: لماذا حجب اللغة الدينية عن الأمير في أثناء 
مواجهة الأعداء. وأنطقه بها في حياته اليومية؟ 

وكذلك يلاحظ المتلقي أن المؤلف ساط الأضواء على فترة أسر الأمير 
أكثر من فترة جهاده وهذا حقهء لكني لا أدري لم بدا لنا عبدالقادر 
الجزائري رجل حرب مع القبائل العربية؟ ورجل سلم مع الفرنسيين؟ 

هل يمكن أن تكون الشخصية موزعة بين الحرب والسلام بهذه 
الطريقة؟ أين المبادئ الأساسية التي تكوّن ملامح الشخصيةء وبنيتها 
الفكرية والروحية؟ هل يمكن للأمير أن يستقوي أمام الضعيف. ويضعف 
أمام القوي؟ أيمكن أن يحتاج إلى فرض قوته أمام القريب العربيء ولا 
يحتاج إليها أمام الغريب الفرنسي؟ أليس غريبا أن يخاطب نائبه قائلا: 
«من مصلحتنا ألا نكون البادئين في الاعتداء؛ وخرق المعاهدة.... والحرب 
مع الفرنسيين يقود إلى تدمير ما بنيناهء مع محمد الصغير لها معنى آخر. 
نحتاج إلى فرض قوانا وإلا ذهبت أخبارنا مع الريج» (27. 

إن تغيير المبادئ الأساسية؛ التي يعتمدها الأمير. حسب جنسيّة العدو, أمر 
يلفت النظر ويسيء إلى بنية الشخصية ومكوناتها الأخلاقية؛ مما يدفع المتلقي 
إلى التساؤل: هل يمكن أن تكون متناقضة إلى هذا الحد؟ هل يمكن أن تكونء 
وهي فقيهة متصوفة: ملوثة بالسياسةء بعيدة عن قيم الدين ومثله العليا؟ 


227 





إشعالية الأنا والآخر 


إن ما يدهش المتلقي أن المؤلف حين يجد روايتين لحادثة تاريخية 
واحدةء كحادثة انتصار الأمير على «التيجاني» في «عين ماضي» يتبنّى تلك 
التي تسيء إلى بطله؛ وتوحي بتقليده لفرنسا في سياسة الأرض المحروقةء 
فقد أعطى أوامره للفيالق الأولى «فبدآت بحرق كل شيء: المساكن الفارغة 
والحدائق وحقول القمح والتبن والخيام والمطامير» (28). في حين لو عدنا 
إلى الوثائق التاريخيةء لوجدنا رواية أخرى في بعض الكتب (29) تؤكد 
أن الأميرء لم يمارس سياسة الأرض المحروقةء مما يعني انسجامه مع 
ثقافته الإسلامية التي تحرّم على المسلم أن يقتل حيوانا أو يقتلع شجرة. 
فما بالكم بالإنسان. وقد رأينا ما يؤكد ذلك في كتاب الأمير «المقراض 
الحاد ...» يقول: «وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث جيشا أو سرية يقول 
لهم: اغزوا باسم الله ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا صبياء وأوصى أبو بكر 
(رضي الله عنه) معاوية بن أبي سفيان لما أرسله إلى الشام بألا يقتل امرأة 
ولا صبيا ولا هرماء ولا يقطع شجرا مثمرا ولا يخرّين عامراء (60. 

هنا نتساءل: هل يحق للروائي أن ينتقي من الأحداث التاريخية لمصلحة 
رؤية فكرية يتبناهاء وتهيمن عليه؟ أين الاهتمام بالمتلقي: الذي أحس بتناقض 
الشخصية مع مبادئ آمنت بهاء فباتت غريبة عن مرجعيتها الدينية التي تربئت 
عليها وأخلصت لها كل حياتها؟ ربما يريد المؤلف أن يقدم شخصية الأمير 
بعيدا عن القداسة: فيبين أنها ارتكبت بعض الأخطاء. وهذا حقهء ولكن ألا 
يفترض أن يكون الروائيء كما يقول د. فيصل دراج مصححا لبعض معارف 
المؤرخ ‏ بما يمتلكه من حس مرهف ووعي ومعرفة وعمقء ألا يتيح الفن 
الروائي التعمق في وجدان الشخصية والاطلاع على أعماقهاء أي حقيقتها 
الإنسانيةء أين الصراع الداخلي؟ الذي من المؤكد أنها عانته حين أجبرتها 
ظروف الحرب على خيانة بعض القيم الإسلاميةء التي تريّت عليهاء إذ من 
البديهي أن إنسانية الشخصية تبدو في معاناتها الداخلية, وتشتدٌ الحاجة 
إلى التعبير عن أعماقها حين تعيش صراعا داخليا بابتعادها عن عالم المثل» 
واضطرارها بسبب قسوة الحرب إلى سلوك طريق غريب عن طموحاتها 
وقيمهاء طبعا يصح هذا القول إذا تبنينا الرأي القائل باتباع الأمير سياسة 
الأرض المحروقة فيما يتعلق بأعدائه الجزائريين. 


228 





إشكالية «الأنا» ودالآ خر» المستعور. .. 


وهكذا بدا لنا حضور الآخر في صورة متلق مضمرء يهيمن على وعي 
المؤلف وذاكرته ولغتهء بما يمثله هذا المتلقي من مرجعية فكرية وروحية 
وجمالية. حتى إنهش وه ملامح شخصية الأمير وأبعدها عن سياقها 
المضمرء الذي فيما يبدوء كان يحتل لاوعي الكاتب مثلما احتل أرضه 


ومرجعيته الثقافية. 


الآخرامعلن 
الحوار بين الأنا والآخر 

يلاحظ المتلقي أن المؤلف جريص على الحوار بين الأنا والآخر 
الفرنسي» وقد ساعدته شخصية الأمير بأبعادها الإنسانية والثقافية على 
بناء جسور التفاهم. سواء أكان ذلك في السلم أم في الحرب. إذ لم 
تتسم العلاقة بين الأمير والفرنسيين بالعداء المطلق؛ بل تخللتهاء أيام من 
الهدنة وعلاقات سلمية اعتمد خلالها على العقل؛ وكل ما يحقق مصلحة 
الجزائريين: فصدّر لهم اللحوم والقمح» واستورد منهم البارود والكبيريت, 
بل تجاوز العلاقات المادية إلى علاقات إنسانية, ازدهرت بينه وبين بعض 
قادتهم ورجال دينهم ومثقفيهم. 

وقد بدت لنا رغبة المؤلف واضحة في تخفيف حدة الصراع بين «الأنا» 
التي جسّدها الأمير والآآخر, أي المستعمر الفرنسيء لعله يخفف ملامح 
صورته البشعة, التي رسمتها له المخيلة العربيةء لذلك يسمعنا صوث 
«الضابط الفرنسي بيجو» وهو يعلن براءته من هذه الصورة العدوانية؛ التي 
حفظتها ذاكرة الممستعمّرء التي لم تستطع أن تنسى ممارساته الوحشية! 
لهذا بدا لنا واسيني الأعرج معنيا بتنقية الذاكرة العربية منها والتركيز 
على البعد الإنساني لهذا المستعمرء فرسم صورته بصفته رجل سلم لا 
حرب» وبالتالي قلب الأدوار وجعل المستعمر قادرا على إقناع الأمير بوجهة 
نظره كي ينسى أن فرنسا هي المعتدية وأنها هي التي بدأت بنقض عهودهاء 
لهذا يتيح الفرصة للمتلقي كي يصغي إلى صوت مقتع بالحرير لا علاقة له 
بالوحشية؛ التي عرفت عنه خلال فترة استعماره للجزائرء فيقول: إنسانيتي 


229 





إشكالية الأنا والآخر 


تجاه العرب وتجاه جنودي تحتم عليّ أن أقترح عليكم السلم قبل الحرب» 
السياسة تجبرني على فعل ذلك مثلها مثل الإنسانية: لهذا إذا رفضتٌ 
السلم الذي أمنحه لك. ستتحمّل مسؤولية الحرب ونتائجها المدمرة... 
فيوضّح الأمير قائلا: علق كل شيء على ظهري وكأني أنا من اعتدى على 
فرنسا... ثم ينتقد مقترحات «بيجو» بأنها كانت ضعيفة... كانت تسيطر 
عليه عقلية المزارع أكثر من عقلية العسكريء كان يريد ما يشتهي وهذا 
ليس بمعاهدة: المعاهدة طرفان وآخذ وعطاءء هذه هي السياسةء كان يريد 
أن يحسم كل شيء قبل بدء الحرب» كان يحرق الحقول لا حبا في حرقهاء 
وهو المحب للأرض والزراعةء ولكن لحسم المعركة بسرعة...» (62. 
تبرزء هناء محاولة المؤلف في تقديم صورة موضوعية للآخر المعتديء 
على لسان الأميرء لكن سرعان ما تظهر جملة «كانت تسيطر عليه عقلية 
المزارع أكثر من عقلية العسكري» التي يلمس فيها المتلقي محاولة تخفيف 
حدة الصراعء وتجميل صورة الآخر, غير أنه لم يستطع إلا أن يبرز تناقض 
الشخصية المستهمرة. فهي تحرق الحقول؛ مع أنها تحب الأرض والزراعة. 
ولو تأمل المتلقي السياق اللغويء. الذي أحاط بفعل «الحرق» للاحظ أن 
المؤلف يخمّف من وقع الإيحاء التدميري له في وجدان العربيء فقد أحاط 
تصرفات الضابط بمختلف صيغ الحب» فصوت الراوي المتماهي بصوت 
المؤلف يستخدم صيغة النكرة المنفية (لا حبا في حرقها) ليوحي بإطلاق 
رفضه لفكرة الحرقء كما يكرّر لفظة الحب بصيغة اسم الفاعل (وهو المحب 
للزراعة) لتوكيد نزعته السلمية ودوره المؤثر فيهاء فهو يحس بتعب الفلاح 
واستنزاف الأرض لحياتهء لكن إحساسه هذا تلوثه العنصرية:؛ إذ يطال ابن 
جلدته (الفرنسي) لا العربي» غير أن استخدام المؤلف للغة عامةء لا يوحي 
للمتلقي باس تعلاء الفرنسيء وإن فضحت أفعاله. فهو من أجل تحقيق 
نصر سريع وتخفيف خسائر جيشه يسعى إلى تكبيد الجزائريين أقسى 
الخسائرء فيحرق أرضهم ليحرق أملهم في الحياة عليهاء وبذلك انعكس 
حبه للأرض على «الأنا الفرنسية» وتم تمييزها عن «الآخر» المستعمّر. 
إذن على الرغم من محاولة المؤلف التخفيف من النبرة الاستعلائية لدى 
«بيجو» وإبراز وجهه الإنساني المتحضر (محب للزراعة) لكنه لم يستطع أن 


200 





إشكالية «الأنا» ودالآخر» المستعصر. . . 


يترك انطباعا إيجابيا لدى المتلقيء لأن تصرفاته عدوانيةء لم تميز الإنسان 
عن الأرضء وقد لجأ هذا الضابط إلى الآلة العسكرية: كي يؤكد تفوق 
فرنساء وقدرتها على قهر «الأنا العربية» وإحراز حسم سريع في محوها. 


الآخرومحاولة إلغاء «الأناء 

إن المتأمل في سيرة الأميرء الذي يجسد «الأنا» العربية المسلمةء يلاحظ 
اعتزازه بهذه الهوية والخوف على خصوصيته؛ التي تميّزه. وتحفظه من 
الضياع وتشكل حافزا له لمقاومة الآخر المستعمر, لهذا لن نستفرب رغبة 
هذا الآخر في القضاء على هويته. حتى بعد أن سلم سلاحه؛ وعاش 
أسيرا في فرنس ا فكأنه يرغب في تخليصه من أهم مكونات شخصيته؛ 
كي يس تطيع القضاء على ما يمكن أن يثير قلقه في المستقبل؛ لهذا وجدنا 
الكولونيل دوما يقول له مستغربا: «لم تغيّرك فرنسا كثيراء وهي التي كانت 
تحلم بأن تجعل منك مواطنا من ذويها .. » (033, 

يستغرب ال مستعمر؛ هناء كيف حافظ الأمير على هويته على الرغم من 
مدة أسره الطويلة. كما يستغرب إصراره على الرحيل إلى بلد إسلامي؛ 
الأمر الذي ينسجم وإحساسه بخصوصيته. مما يجعله يتأكد أن سنوات 
المعاناة لم تغيّرهء فلم يهنأ له العيش في بلد جميل كفرنسا. لهذا رأى 
أن خير وسيلةء كي يأمن جانبه. هي أن يبقيه أسيرا لديه؛ لا يهمه أن 
ينكث كل عهوده معه» لذلك لم يتوانَ الفرنسي خلال الأسر في تقديم كل 
المغريات» كي يتخلى الأمير عن انتمائه لهويته. فيس هل تدجينه . يقول له 
«بيجو» صراحة: «أتمنى أن تصل إلى قرار تبني فرنسا كوطن لك؛ وتطلب 
من الحكومة أن تمنحك أنت وأهلك قطعة أرض غنية. وس تكون لك حياة 
مساوية لحياة أي مواطن فرنسي محترم» أعرف أن مقترحا مثل هذا قد . 
لا يغريك كثيراء ولكن فكر في مس تقبل أبنائك وحاشيتك, أنت ترى أنهم 
يموتون يوميا مللا وکمدا» 34 . 

نجد. هناء دعوة صريحة إلى الأمير كي ينبذ هويته» التي تعني التصاقه 
بأرضه وبموروثه الثقافي, ليتبنى هوية الآخر الفرنسي» ويستقز في أرضه؛ 
ما يتيح له الحصول على جملة من المغريات؛ لكن ما يدهش المتلقي هو فهم 


231 





إشكالية الأنا والآخر 


الآخر لأعماق الأميرء إذ يصرّح بأن هذه المغريات المادية لا تجد صدى في 
نفسه» فيحاول أن يثير عاطفته وحسه الإنساني تجاه أبنائه وأقرباته الذين 
يعانون حياة الأسر ويلفت نظره إلى أن عدم الاستقرار في فرنسا يسهم 
في ضياع حاضرهم ومستقبلهم! 

لو تأملنا رذ الأمير لدى واسيني الأعرج لوجدناه يركز على مفهوم 
عام لحرية يتوق إليهاء فلم نستطع أن نعايش دلالات هذا المفهوم لديه 
على أرض الواقع بعيدا عن لغة العموميات, وبذلك ابتعد المؤلف عن كل 
ما يشكل هويته. في حين وجدنا الأميرء في إحدى الوثائق التاريخية, يرد 
على الآخرء حين دعاه وحاشيته إلى الاستقرار في فرنساء بلغة تنبع من 
خصوصيته قائلا: «نحن لا نتحدث لغتكم: ولیس لنا عاداتكم ولا قوانينكم 
ولا دينكم؛ حتى إن ثياب نساتنا تثير سخرية نسائكم» ألا تدركون أن هذا 
معناه الموت»  ,©55(‏ . 

نقف هنا على مفهوم الحرية بشكل محسوس. إذ لا يمكن أن ننظر 
إليها بمعزل عن العيش وفق قيم وعادات تربّى عليها الإنسان:. وآمن بهاء 
من هنا كانت غرية الأمير عنها تعادل العبودية والقهر.ء ولهذا بدت لنا هذه 
الوثيقة التاريخية أكثر تجسيدا لروح تجربته من الرواية» إذ عايش المتلقي 
فيها إحساسه بالقهر لضياع هويته حين فقد فضاءه الثقافي والاجتماعي 
(أي اللفة والدين والعادات) لذلك استطاعت أن تتيح له معايشة تفاصيل 
حياتية موحية تؤرّق الأسرى الجزائريين في غربتهم؛ مثلما استطاعت أن 
تتيح له معايشة استعلاء الآخر الفرنسي. الذي تجلى في السخرية من 
عادات الجزائريين ومن ملابسهم» هنا ألا يحق لنا أن نتساءل عن علاقة 
الرواية بالمعيش5؟ أين التفاصيل التي توحي بمعاناة الأمير وحاشيته في 
بيئة مختلفةء عما ألفوه؟ أليست الرواية «فن التفاصيل الموحية» كما يقول 
عبد الرحمن منيف؟ لكن حين يحاول المتلقي أن يتفهّم وجهة نظر المؤلف 
في ذلك يحس كأنه يتجنب كل ما من شأنه تشويه صورة الآخر حرصا 
على رسم ملامح إيجابية لهء لكنه يتسى أن أحد أهم جماليات الرواية أنها 
تقوم على المتناقضات والصراع بين الخير والشر والجمال والقبح... إلخ 
وأن ما يعزز قيمة الرواية التاريخية جمعها بين المصداقية والتخييل: فهي 


232 





إشكالية «الأنا)» ودالآخر» المستعمر. . . 


وثيقة حية لمشاعر الناس وأحلامهم وآلامهم: التي كثيرا ما يعجز التاريخ 
عن تسجيلها. 


الآخرالمتفتح (الراهب) 

إن الرغبة في إلغاء «الأنا» المسلمة أي «هوية الأمير» لم يلمسها المتلقي 
لدى العسكريين الفرنسيين ورجال الدولة فقطء بل لدى رجال الدين أيضاء 
إذ يلاحظ أن فكرة التنصير لدى «الراهب ديبوش» شكلت أحد هواجسه 
المتكررة؛ مما يوحي للمتلقي بمدى أهمية نزع هوية الأمير الإسلامية 
في وجدان الآخرء لذلك نسمعه يكرّر «كنت أريده مسيحياء يخدم رسالة 
المسيح العاليةء وكنت مستعدا لأن.أرحل بصحبته إلى البابا لتعميده ليصير 
واحدا منا...» (36). 

إن هذه الرغبة في انضمام الأمير إلى المسيحية تعني انتزاع الخصوصية 
الروحية والفكرية التي شكلت ذاته؛ أي تفرّده. وقد طرأت فكرة تنصيرهء 
حين لاحظ «ديبوش» أنه إنسان خيرء لذلك رآه جديرا بدين آخر غير 
الإسلامء يحس المتلقي هنا بأن الآخر يخضع لأوهامه عن الإسلام: فهو 
دين الشرٌ والعنف» وعلى الرغم من أن المؤلف قد جهد لرسم صورة مثالية 
للراهب» لكنه بدا لنا لا يحترم دين الآخر المختلف» إذ ليس من حق الأمير 
التمتع بخصوصيته الدينيةء لهذا ألحت على «ديبوش» فكرة تغيير دينه عبر 
أحلامه التي هي تعبير عن رغبة مكبوتةء كما يرى علماء النقس. 

يفاجأً المتلقي برد فعل الأمير الذي رسمه المؤلف أمام عرض التنصير 
الذي تلقاه. إذ لم يكن ندا للآخر في مجال الثقافة الدينيةء مثلما بدا ندا 
له في المجال الحربيء حين قائل الفرنسيين دفاعا عن وطنه وعن ثقافتهء 
التي يشكل الدين أحد أركانهاء وبذلك يحس المتلقي بأن واسيني الأعرج قد 
رسم شخصيته التاريخية في هيئة لا تتناسب وتربيتها الدينيةء إذ لا يمكن 
لمن حفظ القرآن الكريم طفلا 37 أن يطلب من الراهبء الذي أراد تتصيرهء 
وقتا للاطلاع على المسيحيةء إذ من البديهي أن يكون المسلم الملتزم؛ قد 
اطلع على عدة سور في القرآن الكريم تناولت المسيحية بالتفصيلء بل إن 
عنوانها يوحي بهذا التناول: سورة مريم» آل عمران. المائدة... 


233 





إشكالية الأنا والآخر 

وقد يقال: «من حق المؤلف أن يظهر انفتاح «الأنا» الممسلمة على 
الآخر. فيعلن رغبته في قراءة الكتاب المقدس المسيحي. لكن أرى أنهء 
ليس من حقه تشويه صورة الأمير المثقف» التي عرف بها لدى أعدائه 
الفرنسيين قبل العربء إذ كان ينقل مكتبته معه من ساحة حرب إلى 
أخرىء حتى إننا وجدنا الأمير في الأسرء في إحدى الوثائق التاريخية, 
يحدث أصدقاءه الفرئسيين عن شغفه بالكتب «كنت أنوي أن نشی 
مكتبة وامسعة؛ وكانت معظم الكتب التي خصصتها لبدء تكوينها ضفي 
«زمالة» عندما استولى عليها ابن الملك «دوق أدومال» وهكذا كان من 
المؤلم ليء إضافة إلى آلامي الأخرىء أن ألاحق كتائبكم لأستعيد الأوراق 
المنتزعة من كتب» عانيت المشقات في جمعهاء (8. 

يوثق لنا الأميرء هناء معاناته من أجل الحفاظ على هويته وثقافته, 
التي أدرك أن الكتب إحدى أهم وسائل حفظهاء لهذا جعلها جزءا من 
مكونات «الزمالة» مدينتهء التي ابتكرهاء والتي تجمع بين التتقل والقتال. 
وقد لاحظ المتلقي كيف فضحت هذه الوثيقة أفعال المستعمر الهمجية 
بهاء وبيّنت أن جهاد الأمير لم يكن من أجل الأرض ذقطء بل من أجل 
الحفاظ على إرثه الثقافيء وقد اعترف الكاتب برونو إيتيين بهمجية 
الفرنسيينء حين حرقوا مكتبة الجزائر, طبعا واسيني الأعرج ليس معنيا 
بتوثيق هذه الهمجية: ولا يحق لنا أن تلومه, أو نحاصر خياله؛ لكن من 
حق المتلقي أن يعايش الآخر بوجوهه المتعددة. وأصواته المختلفة. حمسب 
ما تقتضيه جماليات الفن الروائيء بعيدا عن عمليات التجميل؛ كما أن من 
حقه أن يطالبه بتقديم خصوصية الشخصية: التي تنبع من تربيتها وإرثها 
الثقافي: فلا تنطق بلغة بعيدة عن وعيها ومستواها المعرفي» لهذا نستغرب 
اللغة المهادنة؛ التي توحي لتا بأن الأمير جاهل بدين الآخر المسيحي: إذ 
يقول للراهب «امنحني من وقتك قليلاء لأتعرف على دينك؛ وإذا اقتنعت 
به سرت نحوه» (039, 

لا يمكنناء هناء إغفال قصد المؤلف في رسم شخصية منفتحة على 
الآخرء لا تمانع في الاطلاع على دينه. والإيمان به شريطة الاقتناع, 
مانؤاخذه عليه: هو إغفال أبرز مكونات شخصية الأمير وهي الثقافة 


2034 





إشكاليية «!كأضا» ودالآخر» المستهور. .. 


الواسعة, الأمر الذي يعني اطلاعها على الكتاب المقدس للآخرء لهذا لن 
يستغرب المتلقي هذه اللغةء التي تنطق بها من دون أن تتتاسب مع تربيتها 
ومرجعيتها الثقائية:؛ خصوصا أن الأمير قاتل الفرنسيين انطلاقا من 
نوازعه الدينية: إذ نسمعه يقول في كتابه «المقراض الحاد لقطع لسان 
الطاعن في دين الإسلام بالباطل والإلحاد» «المقصود بالجهاد دفع الضرر 
عن الأمم والظلم ورفع كلمة الإسلام...» (40). 

يلاحظ المتلقي» هناء أن الأمير اس تخدم منذ الرسالة الأولى للكتاب, 
أي العنوان (المقراض الحاد لقطع لسان...) لغة قاسسية ضد من يريد 
انتهاك هويته. الذي يشكّل الدين إحدى ركائزها. 

كما تجدر الإشارة إلى أن الحماسة للمرجعية الإسلاميةء التي ملأت 
قلب الأميرء لم تدفعه إلى الانفلاق ورفض الآخر المختلف» لهذا لن نستغرب 
انفتاحه الإنساني؛ الذي ظهر في الحرب في الجزائر وضي السلم في الشام 
التي استقر قر فيهاء بعد فك أسره وخروجه من فرنسا > إذ من المعروف دفاعه 
عن النصارى في دمشق في آثاء الفتة الطائفية التي وصلت إليها من 
لبنان في العام 1860. 

وقد أدرك الراهب في الرواية أبعاد شخصية الأمير المنفتحة, لذلك 
تخلى عن فكرة تتصيره. ورأى حقيقة أنه «أقوى من أن يكون رجل دين 
وأحد .. « إذ جسشد بانقتاحه الديني الأديان جميعا . لهذا 1 ستحق أن يصل 
إلى مرتبة الندية مع الآخر الراهب» بعد أن تأكد أنه يشاركه مهامه 
الإنسانية نفسهاء فكلاهما «يخدم الناس والله وإن كان كل منهما يسلك 
طريقه الخاص». 

يلاحظ المتلقي أن المؤلف معني بكل ما يؤسس لعلاقة ودية بيننا وبين 
الآخرء لهذا احتلت الصداقة بين الأمير والراهب مساحة كبيرة في فضائه 
السرديء واستبعد أي صوت نقيض لهذا الراهب» مع أن الأمير عانى في 
أسره من بعض الفرنسيينء فقد أخذ إلى قلعة «لامالق» وحُشر مثل أي 
سارق أو رهينةء ومع ذلك لم نظفر بوجهة نظر هؤلاء الذين عاملوه معاملة 
سيئةء كأن المؤلف يريد أن يمحو أي أثر للكراهيةء التي خلفها القهر 
الاستعماري في النفوس. 


235 





إشكالية الأنا والآخر 


على الرغم من ذلك ما يحمد للمؤلف اختيار شخصيتين (الأمير 
والرامب) تنتميان لديانتين مختلفتين (الإسلام والمسيحية) ومع ذلك 
استطاعا أن يقيما علاقة ود وتفاهم بينهماء رغم الممارسات السلبية 
للمستعمرء وذلك بفضل انفتاح شخصيتيهماء فعايشنا تجسيدا مدهشا 
لقيم الدين أيا كان: وإن كنا قد لاحظنا توترا ساد بداية علاقتهماء حين 
انتقد الأمير الراهب من أجل الأسرى «اعذرني أن أسجل ملاحظتي 
بوصفك خادما لله وصديقا للإنسان: كان من واجيك أن تطلب مني إطلاق 
سراح كل المساجين المسيحيين... وئيس سجينا واحدا ...كان لفعلك أن 
يزداد عظمة لو مس كل السجناء المسلمين الذين ينطفئون في سجونكم. 
أحبٌ لأخيك ما تحب لنفسك» (41, 

يعلو. هناء صوت الأمير؛ فيبدو هاديا للآخر في مجال القيم الإنسانية, 
إذ يوضحله المعنى الحقيقي للحب وللعدالةء لهذا ينتقد الراهب. حين 
لم يشمل بحبه جميع الأسرى الفرنسيين: وإنما ذاك الذي استطاع أهله 
الوصول إليه والتوسط عنده. كما يلفت نظره إلى ضرورة أن ينفتح على 
من يخالفه الدين: فيحس بالأسرى من المسلمين في سجون الفرنسيين. 

كما يلاحظ المتلقي. أن هذه العلاقة بينهما لم تزدهر إلا عندما تخلى 
الراهب عن فكرة تنصير الأمير واحترم خصوصيته الدينيةء أي عندما 
تبنى مرجعية تناقض الثقافة الامبرياليةء التي تقوم على نفي خصوصية 
الآخر وإلغاء هويته والاستعلاء عليه. لذلك استطاع أن يقيم مع الأمير 
علاقة فريدةء قوامها التواصل الروحي والانسجام الفكري» فعايشنا عبر 
هذه العلاقة: التي أنضجتها الأيام والتجارب؛ انفتاح المشاعر الدينية 
الحقيقيةء فلمسنا حقائقها برغم اختلاف مسمياتهاء لهذا أصبحت عامل 
توحيد» دفعت المؤمنين بها إلى المحبة وعمل الخير, يقول الأمير لصديقه: 
«كم أشتهي أن أحدثك عن كل ما يجمعناء بدأث أقرأ كتابكم الإنجيل...». 

وبذلك لم ينغلق الأمير. أو يتردد في الاطلاع على كتاب الآخر المقدس» 
وانفتاحه ليس وليد صداقته مع الراهب؛ وإنما وليد تراث منفتح: فها هو 
ذا يخبر صديقه قائلا: «سادتنا القدماء فعلوا مثل هذا الأمر من دون أن 
يختل إيمانهم». فيجيبه ديبوش: 


26 





إشكالية «اكأضا» ودالآ خر» المستعور. .. 


«لك كل المحبة التي تقرينا من بعضء حتى لو اختلفناء لتستقرٌ روحانا 
داخل الحقيقة الإلهية الكبيرة نفسهاء (42. 

تمنّم الراهب من خلال علاقته بالأمير أن اختلاف الدين: لن يفسد 
التواصل الإنساني» خصوصا حين يتخلى الإنسان عن تعصبه؛ ويحترم 
خصوصية الآخر, وأدرك أنه والأميرء ينتميان إلى حقيقة كونية واحدة, 
إذ جمعهما إيمان بإله واحد» يتعايش الناس في ظلاله بعيدا عن الهويات 
القاتلة المتعصبة. 

إن ما يلاحظه المتلقي في هذه العلاقة حماسة الكاتب لشخصية 
الراهب» صحيع أنه تحدّث عن أخطاء ارتكبتها في حق الجزائريين؛ لكنه 
بدا متعاطفا معهاء إذ حاول أن يخفف وقع هذه الأخطاء على الوجدانء 
لذلك ذكرها المؤلف على لسان شخصية محبة له (معاونه جون) كما وضعها 
في سياق لغويء يخمّف من شناعة الفعلء فدحماسه دفع به إلى تحويل 
المساجد إلى كنائس أو إلى مستشفيات: هذا لم يحبه الكثير من المسلمين؛ 
رأوا فيه رجلا غير محق في عمله... ريما ارتكب الكثير من الأخطاء في 
حق نفسه أولاء ثم في حق غیره» لكنه منذ أن تعرّف على الأمير تغيّر كثيراء 
فهو من ركض طولا وعرضا ليعطي الأمير وحاشيته مكانا يصلون فيه 
ويقيمون آذانهم في أمبواز» (43). 

بذل المؤلف جهده في رسم صورة جذابة للراهب. لهذا خفف وقع 
تصرفاته المستهجنة لدى المتلقي العربي: خصوصا حين حول المساجد 
إلى كنائس» فوضع هذا الفعل في سياق لغويء يمتص النقمةء إذ جمع فيه 
الكنائس والمستشفيات في فضاء واحد» يقدم خدمات إنسانيةء وهو حين 
يذكر أخطاءه» يتعمد أن يصفه على لسان صديقه المحب «بآنه ارتكب الكثير 
من الأخطاء في حق نفسه أولاء ثم في حق الآخرين»» وبذلك يوحي المؤلف 
للمتلقي بعدم تقصّد الراهب للإساءة, لأنه يعامل الآخرينء كما يعامل 
نفسه» وكي يضمن التعاطف معه؛ ونسيان الإساءة للثقافة الإسلاميةء أبرز 
التفيير. الذي حدث له إثر صداقته للأميرء فتبدّلت أفعاله السيئة (القضاء 
على المساجد) إلى نقيضها (البحث لأصدقائه المسلمين عن مكان للصلاة 
في أثناء الأسر). ولا شك في أن هذا الفعل يمحو أثناء التلقي أي أثر 


2037 





إشكالية الأنا والآخر 


سلبي سابق؛ من هنا نجد أهمية العلاقة الإنسانية المنفتحة التي تتجاوز 
الانتماءات الضيقة. حتى إن الأمير دعاه بلقب ذي دلالة دينية جهادية 
«المرابط الكبير». فالراهب يعيش الجهاد الأكبر في المنظور الإسلامي. أي 
جهاد النفسء والتفرّغ لعمل الخيرء من أجل الناس جميعا. 

يلاحظ المتلقي. هنا أن لقب «المرابط» ضن به المؤلف على بطله الأمير, 
ولا ندري السبب؟ أتكون الرغبة الكامنة في أعماقه في نفي كل دلالة دينية 
عن قتال الأمير للآخر المس تهمر؟! لهذا يبدو حضورها أشبه بزلة قلم. إذ 
تكشف الرغبة اللاشعورية لدى المؤلف في تجميل صورة الآخرء وبالتالي 
تقريبه إلى المتلقي؛ كي يح بألفة معه. خصوصا بعد أن استحق لقبا 
مستمدا من الموروث الإسلامي؛ مما يوحي للمتلقي بعظمة صفاته وأفعاله. 

كما يلاحظ أن واسيني الأعرج استمدٌ من التاريخ ملامح هذه العلاقة 
بين الأمير والراهب. لكنه بذل جهده ليجعلها استثنائية. حتى وجدنا الراهب. 
هومن يعلن حقيقة صديقه في أنه «لم يكن هو البادئٌ فقد كان دائما يرد 
عدواناء. لهذا سعى إلى إغنائها بالتفاصيل؛ التي تبرز التواصل الشعوري 
والفكري بينهماء فوجدنا الراهب» يبذل جهده لفك أسر صديقه» وفي المقابل 
جمع الأمير كل ما يستطيع من مالء في أثناء إقامته الجبرية؛ كي يتحرّر 
صديقه من ديونه؛ وقد وجدنا المؤلف يصل بصداقتهما إلى أقصى مدى 
ممكن من المشاركة الوجدانية والتوخد الروحي. حتسى إن الراهب ينتابه 
إحساس بأن مصيرهما بات واحداء فقد نالت منهما ظروف الحياة بالطريقة 
نفسهاء يقول للأمير: أنا «مثلك لم أذهب نحو من أحب في بوردوء ولكني 
سرت إلى منفى آخر». 

إن مثل هذه الصداقة تؤسّس لعلاقة صحية بين البشر وتبرز مقدرة 
الأواصر الإنسانية على مد جسور التفاهم بين «الأنا» والآخرء كما 
استطاعت هذه العلاقة أن تفصح عن رغبة المؤلف في محو الأثر السلبيء 
الذي خلفه الاس تعمار, لهذا أخضى الجانب المظلم منه؛ وركز على علاقة 
منفتحة بين الأمير المسام ورجل الدين المسيحي» مثلما ركز على صورة 
إيجابية للعربي. لعله يعطي أمثولة للمتلقي تفيده في حياته: كما يعطي 
الغريي صورة مغايرة ل ا ألفه عن العرب» وبذلك يتبدى لنا ضغط زمن 
الكتابة بشدة على وجدان المؤلف (إثر أحداث سبتمبر 2001). 


238 





إشكالية «الأنا» وا3 شر ) المستعور. . . 


لكن من الملاحظ أن واسيني الأعرج لم يفلح في 3 تقديم علاقة ندية 
بين «الأنا» والآخر بشكل مقنع. فمثلا على الرغم من عمق التواصل 
الروحي بين الصديقين: لم تبدٌ لغة الحوار بينهما مؤهلة لتجسّد روعة 
هذا التواصلء فمثلا يحدث الأمير الراهب عن ألمه: «اليوم دفنا الفقيد 
الخامس والعشرين على هذه الأرض (فيجيبه إجابة غير مقنعة) ألم تقل 
بأن أرض الله واسعة؟» فكأن هذا الجواب قد صيغ لهم آخر غير الحزن, 
الذي يغمر الأمير على فقد أحد أحبائه. ودفنه في الغريةء إذ يتناسى 
الراهب لوعة الفقدء ويركز على متاعب هذه الغرية. 

يسجل للرواتي اهتمامه بتجسيد الحوار بين الأمير والفرنمسي في 
فضاء الآخر بسبب إقامته الطويلة في فرنسا فلم ينشأ الحوار بين الأمير 
والرامب فقطء بل مع أولئك الذين قاتلهم: أو حرّرهم من الأسرء فأبرز 
لأولئك الذين يعترفون بجميله مدى الظلم: الذي لحق بهء حين اتهم بقتل 
الفرنسيينء الذين أسروا في «سيدي إبراهيم» مع أنه بريء من دمهم» فقد 
كان مسافرا حين فتلواء وقد سألوه: لماذا لم تعاقب المسؤولين عنها؟ يجيبهم: 
وهل عاقبت فرنسا المسؤولين عن «إحراق العزّل في جبال الظاهرة؟ أليس 
الجنرال بوجو مسؤولا حين رفض إبرام اتفاقية تبادل الأسرى؟». 

لا ندري لم لم يتوقف المؤلف عند مشهد ييرز سوء تفاهم بين الأمير 
والفرنسيين في أثناء تبادل الأسرىء من دون أن يُعنى برسم تفاصيله 
بطريقة تود تؤثر في المتلقي؟ فقد اكتفى بأن يجعل الراوي يلمح | إليه بإشارة 
سريعة «كادت العملية ند تنتهي إلى مجزرة بسبب سوء تفاهم صغير لولا 
حكمة ابن علال ومونسينور (ديبوش) الذي تحاور طويلا مع ابن علال 
الذي ظل مشدودا إلى طيبة هذا الأخير (44). 

نلاحظ هنا تعاطف المؤلف مع الآخرء ريما على حساب الذات» فقد 
منحه البطولة في نشر السلام» فقد استطاع أن يحل سوء التفاهم؛ بعد 
أن وصفه بما يوحي بعرضيته وعدم أهميته (صغير) صحيح أنه منح 
الحكمة للطرفين. لكنه ألمح إلى الدور القيادي للآخر (الراهب) الذي 
امتلك الصبر والحنكة لإجراء حوار طويلء كما امتلك طيبة آسرة جذبت 
العربي إليه 


239 





إشكالية الأنا والآخر 


حاول المؤلف أن يجعل شخصية الراهب ديبوش صوتا موازيا لصوت 
الأمير؛ بل لاحظ المتلقي أنه منحه مساحة أكبر في فضائه السرديء إذ 
اهتم بتجسيد صوت أعماقه (عن طريق كتابة الرسائل والحوار الداخلي 
باستخدام ضمير الأنا) أكثر من صوت الأمير, بل خصّص لصوته فضاء 
حساسا في الرواية (الافتتاحية والخاتمة والوقفة الأولى) أي منحه الأثر 
الأول والأخير الذي تتركه الرواية في نفس المتلقي» فهيمن صوته على 
مفاصل حيوية في البنية السرديةء تشكل عامل جذب للمتلقي لمتابعة 
الفضاء الروائي. خصوصا الخاتمةء التي تضم آخر الدلالات: التي أراد 
لها المؤلف أن تترك انطباعا يصاحب المتلقي بعد انتهاء عملية التلقي. 
كأن المؤلف يريد لصوت الآخر (الراهب المتسامع) أن يبقى في الذاكرة 
فلا ينساه أحدء ليرسّخ في الأذهان الصورة الإيجابية لهء لعلها تمحو 
وحشية المستعمر الفرنسيء حتى ليحس المتلقي بأن الرواية مخصصة 
لصوته لا لصوت الأمير. 


الآخرالعسكري 

لم نعايش في الرواية الآخر العسكري في فضائه الحربي» أي بعيدا 
عن الحياة المدنية إلا نادراء لعل المؤلف يرغب في أن يبتعد بمتلقيه عن 
«ساحة المعركة» أي عن فضاء متوتر يعيش فيه الآخر (العسكري الفرنسي) 
كراهية للجزائريين. مما يعزز هذا الشعور أيضا في أعماق «الأنا» وبذلك 
بدت لنا رغبته واضحة في تجميل هذا الآخر سواء أكان راهبا أم ضابطاء 
لهذا عايشنا في فضاء الرواية الجانب الإنساني للمستعمرء فبعد حرق 
القرىء وسلب المواشيء نجد مشهدا يظهر فيه ضابط فرنسيء وهو يعطي 
طفلا جزائريا قطعة خبزء فيرفض على الرغم من جوعهء وحين يسأله 
لماذا؟ يجيبه «ديننا يمنعنا من الأكل من أيديكم...لأنكم لا تتوضأون». 
فيسأله الضابط عن كيفية الوضوءء ويتوضاًء كي يأخذ قطعة الخبز منهء 
لم يقل الطفل ديننا يمنعنا من أكل طعامكم لأنكم تقتلونناء أو تخرجوننا من 
ديارنا؟ لماذا اختار المؤلف الوضوء؟ هل يريد أن يوحي بأن الدين الإسلامي 
يمنع التعامل مع الآخرة! ترى لماذا منع الطفل أن يتحدث بلغة المعيش 


240 





إشكائية «الأنا» و«اكآخر» المستعصر. .. 


والمحسوس. مع أنها أقرب إلى مستوى وعيه اللفوي5 ألا يكون التعبير 
بهذه اللفة أكثر إقناعاة أليس حريًا بالطفل أن يستخدم لغة المعاناةء التي 
تحاصره يوميا (لغة القتل والحرق والتدمير الذي يمارسه المستعمر)؟! 

كأن هناك رغبة لاواعية في أعماق المؤلف في تبرئة الآخرء لهذا يلجأ 
إلى جلد الذات واتهامها برفض المستعمر لأسباب كامنة في أعماقها 
(التربية والعقيدة) من دون أن يكون هناك أي علاقة لممارسات الآخر 
الوحشية في إشاعة جو من الكراهية والرقض. ش 

ومما يؤكد صحة هذا القول أن المجازر التي ارتكبها الاستعمارء لم 
تحظ بمشاهد تصويريةء إذ كان نصيبها السرد السريع؛ أو تقديمها عبر 
خبر في جريدة (مثلا ص245) لعل.السبب في ذلك تخفيف تعاطف المتلقي 
مع معاناة الجزائريين. وما قد تثيره هذه المشاهد من كراهية لوحشية 
المستعمرء فالمؤلف لا يريد أن يشعل هتيل التوتر بيننا وبينه بتسليط الضوء 
على ممارسات أصبحت جزءا من الماضي» لكن حين يتعلق الأمر بتبرئة 
ساحة هذا المستعمر نجده يتأنى في رسم المشهد ليعزز صورته الإيجابية 
في مخيلة المتلقي على الرغم من تاريخه العدواني» لذلك حين نتأمل 
الحوار بين الأمير والآخرء في مرحلة الأسرء نجده يكاد يبتعد عن الأمور 
العسكرية: غير أن خطيئة ارتكبها نائب الأمير بقتل أسرى فرنسيين؛ 
نجدها تكررت عدة مرات في الروايةء وبما أن المأخذ الوحيد للفرنسيين 
على تاريخ الأمير في جهاده؛ هو تلك الحادثة, فقد أرّقت المؤلف مثلما 
أرقت الآخر المستعمرء لذلك بذل جهده في تبرئة الأمير من دم هؤلاء 
الأسرى؛ ليعيد لصورته صفاءها. 


الآخرالمدني 

وقد لاحظنا في مذكرات الأمير تنوّع الحوار بينه وبين الآخرء فقد 
شمل الأمور الدنيوية والدينية. حتى وجدناه يؤلف بعض الكتب» ليوضح 
للفرنسيين تعاليم دينه. فقد أف في حصن «أمبواز» كتابه «المقراض 
الحاد تقطع لسان الطاعن في دين الإسلام بالباطل والإلحاد» الذي يوحي 
للمتلقي بمدى حماسة الأمير للدفاع عن دينهء لكن المؤلف لحاجة في 


241 





إشكانية الأنا والآخر 


نفسه. لم يشر إلى هذا الكتاب ونحن لن نلومه؛ لأنه لا يكتب سيرة ذاتية 
للأمير وإنما يكتب رواية تستند إلى المتخيل ينتقي فيها ما يشاء من وثائق 
ومعطيات, لهذا انتقى ما يراه معززا لعلاقة ودية بالآخر وترك ما ظن أنه 
يسيء إلى تلك العلاقة؛ مع أننا لاحظنا أن هذا التعريف بتعاليم الدين 
الإسلاميء كان بناء على رغبة الآخر الفرنسي المتعطش للمعرفة. وبذلك 
استطاع الأميرء على الرغم من معاناته من الأسرء أن يمد جسور التفاهم 
القائمة على المعرفة ويزيل بعض الأوهام التي أحاطها هذا الآخر بالإسلام 
بسبب الجهل والتعصب والعداءء الذي يكنه له. ومشل هذا الجانب لن 
يحظى باهتمام المؤلف» مع أنه يعزز صورة الأمير المثقفء الذي يمد جسورا 
معرفية بينه وبين الآخر. 

وإذا كانت التعاليم الدينية لم تظفر بلغة مشهديةء فإن بعض مظاهر 
المجتمع الإسلامي قدمت بهذه اللغة. فضي حوار جرى بين الأمير وامرأة 
أحد الضباط (الذين تحرّروا من الأسر على يده) إذ سألته عن تعدد 
الزوجات» أي عن أحد مآخذ الغربيين على الدين الإسلامي» فيجيبها بلغة 
غريية عن فقيه. خاض حريا دفاعا عن أرضه ودينه. وأدّت إلى إزهاق 
أرواح عدد من رجاله. لذلك يأتي تعدد الزوجات حلا اجتماعياء قبل أن 
يكون دينياء مش كلة تزايد أعداد النساء. لكننا لم نجد الأمير معنيا بتلك 
اللغة المنطقيةء بل ينطق شخصيته بلغته الخاصة وبآرائهء التي أمسقطت 
على لسان عبدالقادر الجزائري؛ الذي يقول: «بين المرأة والرجل سحر 
رياني خاص وجاذبية لا تقاوم: الإنسان قد يحب امرأة من أجل عينيهاء 
وأخرى من أجل شفتيهاء وثالثة لجسدها وأخرى لنور علمها... عندما نعثر 
على امرأة تحمل كل الصفات مثلك؛ س نكتفي بواحدة ولن نختار غيرهاء 
ونقبل أن نموت في أحضانها...» (45. 

أعتقد: هناء أن واسيني الأعرج أبعد شخصية الأمير عن فضائها 
اللغوي الخاص وفصل لها لغة غريبة عن وعيهاء هي أقرب إلى وعي 
المؤلفء لهذا يحس المتلقي أن الشسخصية باتت غريبة عن روحها 
وبيئتها الدينية: فافتقدت ما يميزها من سمات خاصة بهاء لذلك 
لم تعش وفق منطق الإبداع الروائي. ممستقلة عن مؤلفهاء تنطق لغة 


242 





إشكالية «الأضا» و«ا 3آ خر » المستعهر .. . 


خاصة بهاء تناسب عصرها وسياقها الثقاضي والاجتماعيء إذ لا يمكن 
لمتدين ومتصوف. لم يعتد الاختلاط مع النساء. أن يتحدث بهذه اللغة 
بصوت عال» خصوصا أنها تعلي شان الجسد في العلاقة بين المرأة 
والرجل (الشفتين: الجسدء الأحضان): كما لا يمكن لفقيه ملتزم أن 
يغازل امرأة متزوجةء فيقول: عندما نعثر على امرأة مثلك سنكتفضي 
بواحدة؛ لهذا ضاعت» هناء ملاميح شخصية الأميسر التي تميّزه عن 
المؤلف وفقدت روحهاء فضاعت حيويتها وما يمكن أن يشكل هويتها 
الجماليةء وبرزت هيمنة واسيني الأعرج على الشخصيةء حتى باتت 
صدى له وصورة عن مبدعها . 

أحاط المؤلف الأمير بشخصيات فرنسية (عسكرية ومدنية) منفتحة 
ومتعاطفة مع محنتهء حين احتجز في فرنساء مما دفعه في المقابل إلى 
الانفتاح على حضارتهاء لكن لا نستطيع أن نقول إن هذا الانفتاح وليد 
معايشته للفرنسيين في بلادهم» إذ بدا عارفا بأخلاقهم حتى وهو يقاتلهم, 
لهذا حين ضاقت السبل بهء وفكر بأن يتوقف عن القتال ويهاجر بكرامته 
إلى الشرق وهو يحمل السلاح. كان واثقا في أن الآخر الفرنسي «قادر على 
الإيفاء بوعده»» لهذا وضع مصيره بين يدي القائد لا موريسيير لأن ثقافته 
«تمنع قتل القائد. بل تحترم شجاعته؛ وتقدر استماتته من أجل المثل التي 
يدافع عتها» (46), 

وقد تبذى هذا الاحترام للأمير مصحوبا بالاهتمام بهء فمثلا حين 
أبرم عقد أمان معهمء جاءه طبيب فرنسي تفص ساقه المجروحةء 
وضع عليها الممساحيق والمراهم» ولفها كي يمنعها من التعقنء ثم خرج 
معتذرا عن الإزعاج. 

كما تعمّد المؤلف تركيز الأضواء على المعاملة الراقيةء التي تلقاها 
الأمير في فرنسا وحجب عن المتلقي أصوات أولئك الذين حاولوا إهانته 
بنقله من مكان إلى آخر (القلعة. قصر هنري الرابعء أميواز) مع أنه 
أشار إلى أحدهم (الضابط أراغو) وزير الحريية الذي اضطهد الأمير 
وتعامل معه بوصفه سجيناء لهذا افتقدنا تعدد الرؤى في رسم صورة 
الآخر (المستعمر) التي تضفي جمالا وحيوية على فضاء الرواية. 


213 





إشكالية الأنا والآخر 


إشكالية الأنا 

قلما نسمع في الرواية صوت الدأنا» التي تجسد أعماق «الأمير» 
ولا أجد تفسيرا لهذا القمع إلا انشغال الروائي بتجسيد «أنا» الآخر, مع 
أن عبدالقادر الجزائري عاش لحظات درامية قاسيةء تستدعي حوارا مع 
الذات. فمثلا في أحلك الظروف, عندما أحرق الفرنسيون مدينة معسكر 
التي تعب في تعزيز دفاعاتهاء واضطر إلى الرحيل عنهاء يعبّر عن خيبته 
وحزنه بجملة واحدة «مجهود سنوات من البناء يذهب مع الريح» 477). بل 
إننا وجدنا المؤلف يختزل جهاد الأمير الطويل (الذي دام أكثر من خمسة 
عشر عاما) بفكرة واحد هي الحفاظ على كرامته «المحارب يا بني هو من 
لا يسلم نفسه بشروط عدوه مهما كانت الظروف...» (48). 

إننا لا نففل قيمة الكرامةء لكن ثمة أمورا كانت تضطرم في أعماق 
الأمير بالإضافة إلى الكرامة. لذلك أصاب إغفال الصراع الداخلي 
الشخصية بعطب كبير في رسم صورتهاء وتجسيد إنسانيتهاء فسطح 
أفكارها وخمّف ألق مشاعرهاء وعلى الرغم من أن المؤلف حاول أن يرقّع 
ذلك ويسد هذا النقصء فقدّم أعماقها عبر الحوار مع أقرب الناس إليهاء 
فنجده يخاطب والده «كنا نظن أننا الأفضل في كل شيء وبدأنا ندرك أن 
الآخرين صنعوا أنفسهم من ضجيجنا الفارغ». 

نلمس هنا لغة أعلى من مستوى شخصية الفتىء إنها لغة المؤلف ينتقد 
بها الذات العربية؛ التي تعيش الفرور بأمجاد الماضيء وتغرق حياتها في 
الخطابة والضجيج: وتنسى العمل. 

صحيح أن الحوار أتاح للمتلقي التعرّف على القليل من الأفكارء التي 
راودت الأميرء لكن يلاحظ أنهاء غالباء ما تكون أفكار المؤلف أسقطها على 
بطلهء فمثلا حين كان أسيرا في فرنسا وجدناه يقارن بين الذات والآخر, 
فيقول ل«السي مصطفى» «كل ما بنيناه عن فرنسا وأوروبا كان في جوهره 
غير صحيح» كنا نظن أنفسنا أننا الوحيدون الذين ينظر الله إلى وجوههم 
يوم القيامة:؛ وأن الجنة حكر لناء وأن الله ملك مسلم؛ وكلما تعلق الأمر 
بالآخرين أنزلنا عليهم السخط والمظالم, العالم يا السي مصطفى تغيّر... 
ونحن على حافة قرن كل شيء فيه تبدّى لنا على حقيقته؛ عندما كان 


244 





إشكالية «الأنا» و«الآخر» المستعمر . 32 


الناس يحفرون الأرض ويستخرجون التربة ويحولونها إلى قطارات بخارية 
وسفن حربية وسيارات وقوانين لتسيير البلادء كنا غارقين في اليقينيات 
التي ظهر لنا فيما بعد ضعفهاء وأننا كنا نعيش عصرا انس حبء وانتهى. 
هل نملك اليوم القدرة لفتح أعيننا على هذه الحقائق وتعليم أبنائنا من 
أخطائنا القاتلةق (49). ش 

إن اعتراف الأمير بأنه؛ ومن معه من المقاتلينء كانوا جاهلين بفرنساء 
أمر غير مقنع» ويبدو المؤلف» هناء متأثرا بكتاب «تحفة الزائر في مآثر 
عبد القادر» لمحمد باشا (50). 

تدهش المتلقي للوهلة الأولى لهجة النقد الذاتيء التي يتحدث بها 
الأميرهناء خصوصا إذا وجدنما لغة هذا النقد تنطق بوعي الأمير 
وظروفه. لكننا حين نتأملها نحس بغربتها عنه» فهي توحي بأن الأمير 
قاتل الآخر بداعي التعصب الديني «الوحيدون الذين ينظر الله إلى 
وجوههم... الجنة حكر لنا»» ثم هل يمكن لمتدين حقا أن يقول هذه 
الجملة «الله ملك مسلم» ألا يتناقض هذا القول مع ذلك المشهد 
الروائي الذي رأينا فيه الأمير في ساحة القتالء يرفض إطلاق سراح 
أسير واحد ويذكر الراهب بضرورة الإحساس بالآخرين بغض النظر 
عن انتمائهم الديني» فالأسير المسيحي كالمسام: كلاهما بحاجة إلى 
الحرية. ثم هل يمكن لمن يمتلك روحا صوفية أن ينطق بهذه الجملة 
التي تجسد الإسلام (عبر الأنا الجمعية) نقيضا للآخر«كلما تعلق الأمر 
بالآخرين أنزلنا عليهم السخط والمظالم» مع أن الأمير من المشهود له 
وقفته في وجه الفتنة الطائفية في دمشق وحمايته للمسيحيين. 

ترى هل يمكن لمؤمن كالأمير أن يرى الإيمان بالله واليقينيات الأخرى 
هي سبب ضعفنا؟ أليست هذه الأفكار ابنة المرجعية الأيديولوجية؛ التي 
يؤمن بها واسيني الأعرج؟ وهي نقيض للمرجعية الدينيةء التي قاتل الأمير 
المستعمر انطلاقا منها؟! 

إذن حين يتأمل المتلقي لفة الأميرء يلاحظ أنها تنطق بلغة مؤلفها 
صراحة «نحن على حافة قرن كل شيء فيه تبدّى لنا على حقيقته» هنا 
نتساءل: من عاش على حافة القرن؟ أليس المؤلف؟! (والدليل أن زمن 


245 





إشكالية الأنا والآخر 


كتابة الرواية في بداية الألفية الثالثة. أي بداية قرن جديد) في حين من 
المفروض أن الأمير قال هذا الكلام (1850) في أثناء أسرهء ولم يكن على 
حافة القرن» بل منتصفه. هنا يمكننا القول بتدخل لغة المؤلف المتأثرة بزمن 
الكتابة. وضغطه على مخيلتهء حتى هيمن على لغة البطل الذي يعيش زمنا 
آخر لم يعرف فيه وسائل النقل الحديثة كالسيارات. 

وكذلك فإن تجريح الذات بهذه اللفة العنيفة والمحبطة, التي نطق بها 
الأمير, أمر لا ينسجم مع شسخصية فاعلة ومجاهدة ومبدعة حتى في 
قتالها الأعداءء إذ ابتكر طريقة الزمالة (المدينة المحارية والمتتقلة على 
الجمال) في الصراع مع الأعداءء. لذلك لا يمكن أن يدعو «إلى اعتبار 
تقليدنا للجيش الفرنسي قوة وليس تبعية وإيمانا وليس كفرا ...». 

هل يمكن أن يدعو الأمير إلى التقليد؟ كنا نتمنى لو استخدم المصدر الفعلي 
«التعلم» بدلا من «التقليد» هل يمكن من قاتل أكثر من خمسة عشر عاماء أن 
يرى نفسه وجنده بمثل هذا الانحطاط؟ أيمكن أن ينطق بهذه اللغة المحبطة 
من استمر في الجهاد أمام جيش دولة عظمى. دأبت على هدم مدن بناها 
من دون يأس أو ضعف؟! حتى إنه جعل دولته كلها على ظهر الجمالء ليضمن 
استمرارها وجهادهاء هنا نتساءل: آين الخطأ القاتل الذي ارتكبه الأمير 
وجنده. كي يدعو إلى تعليم أبنائنا من أخطائنا القاتلة؟! نحن هنا لا ننزه 
الأمير عن الخطأء فهو بشرء لكن صيغة الجمع (أخطائنا) والصفة (القاتلة) 
هي ما تستفز المتلقي في اعتقادناء لعلها أخطاء أجيال؛ أتت بعد الأمير, 
وجدت نفسها تعيش عالة على الآخرين. سواء أكانوا غربيين آم تراثيينء ولم 
تعرف معنى الابتكار والفاعلية في الحياة ومواجهة المعتديء مثلما فعل الأميرء 
لكن المؤلف حمّله ومرحلته التاريخية وزر ضعف تلك الأجيال اللاحقة: التي 
عاصر بعضها واسيني الأعرج؛ مثلما حمّله أفكار عصر لا ينتمي إليه هو 
عصر المؤلف بكل انهزاميته. خصوصا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي (1991) 
وانهيار المثل الأيديولوجي» الذي آمن به. 

إن المبالغة في نقد الذات وابتعادها عن لغة الاعتراف الهادئة أدت 
إلى بروز لغة عنيفةء تصل إلى حد جلد الذات والغفلة عن أخطاء الآخر 
ولصق كل السيئات بدالأنا» إلى درجة تغيب معها الرؤية الموضوعية, 


246 





إشكائية «الأنا» ودالآخر» المستههر . 6 


حتى إننا نجد الأمير, لا يرى ما يفعله الآخر من انتهاكات. فيضطر 
ناكبه التهامي إلى أن يلفت نظره إليها «إنهم يط أون على المعاهدة يا 
سيدي» فيجيبه الأمير: 

- حتى الآن قبائلنا هي التي تخرب كل شيءء الفرنسيون ملتزمون بما 
وعدوا به على العموم... فيضطر التهامي إلى تذكيره ثانية. 

- قسنطينة سقطت بين يدي فالي...ألا ترى يا سيدي أن قوانا متفرقة, 
وأن الاتفاقية لم تعد إلا حبرا على ورق؟...» (51. 

هنا نتساءل: أيمكن أن يكون نائب الأمير أكثر منه إدراكا للموقف؟ هل 
يمكن أن يكون أكثر حساسية لتمادي العدو الفرنسي في انتهاك معاهدته 
من القائد نفسه؟ 

أعتقد قد أن هذه اللغة لا يمكن أن تتناسب وشخصية الأمير: إذ لا يمكن 
أن يكون بهذا المستوى من الغفلةء فلا يرى ما يراه الآخرون من انتهاكات 
يرتكبها العدو. 

لقد انتّزعت الشخصية من سياقها التاريخي والثقافي, مثلما انتزعت 
من سياقها الوجداني» حين حرمت من لغة الأعماقء فلم نجدها تعيش 
انفعالات مضطرمة: وأفكارا غاضبة وبذلك غاب الصراع الذي يورق 
الإنسان في الأزمات؛ فغابت معها إنسانيتها وحيويتهاء مما أساء إلى 
بناء الشخصية من الناحية الوجدانية والفكرية وضيّع خصوصيتهاء التي 
تجعلها تحمل هوية متميزة. تؤثر في المتلقي. 


دالأناء ونضي الخصوصية 

بدت صورة الراهب «الآخر الفرنسي» أكثر إتقانا من تلك الصورةء التي 
تجسد الأمير «الأنا», ولعل خير دليل على اضطراب المؤلف في رسمهاء ما 
يلمسه المتلقي من تناقض في بنية لغتهاء خاصة في أثناء الحوار مع الآخر 
إذ تارة يستخدم اللغة الفصيحة وتارة اللهجة العامية. 
مترجم» لكن من غير المقبول قلق الحوار بين العامية والفصيحةء حين يتم بين 
أفراد الأمسرة الواحدةء إذ يتم حواره مع والده بالفصحى «يا أبي لا تجعلتي 


217 





إشكالية الأنا واكآخر 


أندم على إمارة لم أطلبهاء حروب المسلمين القدماء لم تعد نافعةء الكلام لم 
يعد كافيا...» 52, ثم يستخدم المحكية مع أخيه: «إلى هذا الحد ماقدرتش 
تصبر حتى نكمل الصلاةة خلاص كل شيء لازم يتغير...» (53. 

عايش المتلقي تتازع الفصيحة مع العامية في لغة الشخصية؛ على 
الرغم من أنها تحاور أفراد أسرتها! هنا نتساءل: لم تعددت لغة الحوار؟ ألا 
يوحي ذلك بقلق صورة الأمير في مخيلة المؤلف5 هل يجعله ينتمي إلى اللغة 
الرسمية (الفصيحة) أم إلى اللفة الشعبية (المحكية)؟ قد يجد بعضهم 
العذر (الحالة النفسية) لقلق اللغة في أثاء الحوارء لكن هل يمكن أن نعذر 
المؤلف حين ينطق الأمير بيتا من الشعر الجاهلي» الذي يستشهد به على 
عادة العرب» بعد أن يحوله إلى المحكية. فيقول: «أتأمل هذه الدنيا بنت 
الكلب. صعبةء أتذكر دائما كلام زهير بن أبي سلمى: كان محقاء مسكين 
اللي جاء في طريقها» (54). 

يفتقد المتلقي العربي» هناء لغة تتناسب مع السائد في حياتهء إذ يتم 
عادة الاستشهاد بالشعر من دون تفيير لفته الفصيحة: فإذا كانت هذه 
حال الإنسان العادي فما بالكم بمثقف مثل الأمير (الشاعر) عبد القادر 
الجزائري؟ لهذا يحس المتلقي بغربة الشخصية عن لغتهاء أو بالأحرى عن 
منطق اللغة المناسبة لبنيتها ومستواها الثقافي. 

كما تبدو لغة الأمير غريبة عن مستوى وعيه الديني» فقد جعله 
المؤلف جاهلا أحكام الصلاة في أثناء القتالء فيقول: «في الكثير من 
الحروب قتل أناس كثيرون: وهم يصلون» ولم يستطيعوا توقيف صلاتهم 
للدفاع عن أنفسهم, (55. 

هنا ينطق واسيني الأعرج الأمير بلغة لا تتتناسب وتربيته الدينية 
وثقافته» إذ كان حافظا للقرآن الكريم منذ طفولتهء ولا يمكن أن ينسى 
أن ثمة آيةء تدعو المؤمنين إلى أخذ الحذر في أثناء القتال. لذلك على 
المسلمين أن ينقسموا إلى فريقين (فريق يصلي وآخر يحرس) يقول تعالى: 
«وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة: فلتقم طائفة منهم معك, وليأخذوا 
أسلحتهم.ء فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم» ولتأت طائفة أخرى لم يصلواء 
فليصلوا معك. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم...» 58). 


218 





إشكائية «الأنا» وداكآ خر» المستعهر... 


هنا نتساءل: هل يستوجب على الأمير أن يكون صورة عن مؤلفه (فيجسد 
ثقافته ورؤيته للحياة) إن قهر الشخصية بإلزامها صورة مؤلفها أساء إلى 
خصوصية الشخصية واستقلالها عن مبدعهاء إنه نوع من القمع الفنيء حين 
تحرم الشخصية خصوصيتها الثقافية واللفوية. خصوصا أنها شخصية تملك 
جذورا حية في ذاكرة المتلقي؛ وتكاد تشكل أمثولة في وجدانه. 

لم يشمل القلق اللغوي الشخصية الرئيسية في الرواية؛ وإنما شمل 
لغة الراوي. حين تحدث بلغة تجسد الحالة الصوفية, التي يعيشها الأمير 
«ترك موجات الروح تهدهده وتقوده إلى مشارف الإس كندرية: قبل أن 
تدحرجه نحو أرض الحجان» (57. 

بدت هده اللغة غير مقنعة فنياء إذ يناقض فعل «تدحرج» الذي 
استخدمه الراوي في سرده السياق الصوضي الذي بدأه. فينسى المتلقي 
الهدهدة وموجات الروح» لتعلق بذاكرته صورة إنسان. يتدحرج كالكرة إلى 
الحجازء مما ينفي أي أثر صوفيء نجحت في الإيحاء به الجملة الأولىء 
بل ترسم صورة هزلية لمن يريد الحج إلى مكة. 

كما لا حظنا أن لغة الراويء قد تعزز, أحياناء سوء التفاهم بين «الأنا» 
والآخر؛ مما ينعكس سلبا على عملية التلقي؛ وهذا نقيض ما جهد المؤلف 
في تأسيسه في فضاء «كتاب الأمير». فقد لاحظنا أنه بعد أن أصدر 
نابليون قرار حرية الأمير وسفره إلى بلد إسلاميء يأتي الراوي ويستخدم 
فعلا يستفرٌ المتلقي «بعد جولة كبيرة (قام بها الأمير بصحبة نابليون) اقتيد 
لزيارة القصر نفس ه...» (58). فيحس أن فعل «اقتيد» لا يتناسب والحالة 
الجديدة: التي بدأت تعيشها الشخصية:؛ إذ سليت دلالاته «القهرية» 
حرية الأميرء وأعادته إلى الأسرء أليس من الأفضل استخدام فعل يوحي 
بالمشاركة الندية (اصطحب. رافق...) والابتعاد عن فعل يوحي بالمشاركة 
القسرية والأسر. 

لعل أبرز ما عانته شخصية الأمير افتقادها لغة خاصة بهاء وهيمنة لغة 
المؤلف عليهاء التي قمعته في الحاضر, وجعلته تابعا للمؤلف» بل هيمنت 
على رؤيته للمستقبل «سيأتي زمن لا أحد يعرف ملامحه. أكثر تطرفا 
وأكثر قسوة مما عشناه..» (59). 


249 





إشكالية الأنا والآخر 


يحصس المتلقي أن معاناة المؤلف من التطرف الذي شاع في عصره. 
وعاناه في الجزائر في التسعينيات: دفعه لينطق الأمير بتلك النبوءةء وإن 
كانت تتناقض مع بنية الشخصية الوجدانيةء التي ترتكز على الإيمان؛ 
وتستمدٌ منه روح التفاؤل والقوة. 

لقد افتقدنا في «كتاب الأمير» اللغة الحميمية التي يستطيع الأمير 
بها الإفصاح عن أعماقهء فافتقدنا الحرارة الإنسانيةء لهذا طغت على لغة 
الحوار النبرة العالية. خصوصا مع أصدقاته الفرنسيين» فلم نجده يتحدث 
مع نفسه: أو مع إحدى نسائه (لديه ثلاث زوجات) لم نعرف أيهما أقرب 
إلى قلبهء مع أننا وجدناه في ديوانه يتغزل بإحدى زوجاته؛ ويدعوها «أم 
البنين» 6ء كما أنه قلما يتحدّث مع أولاده» لهذا طفت شخصية المناضل 
الأسير على الوجه الإنساني للشخصية؛ فأحس المتلقي بمسافة بينه وبينهاء 
خصوصا حين لم يسترسل في الحديث عن ضعفه البشري وأشواقه نحو 
من يحب» ريما يعود ذلك إلى إقصاء الأمير عن لغة الاعتراف. التي تتسج 
جوا حميميا بين الشخصية والمتلقي؛ وقد حاول المؤلف أن يمنح هذه اللفة 
للراهب «الآخر» ويضن بها على الأمير. 

لهذا كله يحس المتلقي لرواية «كتاب الأمير» باحتفال واسيني الأعرج 
بالآخر الفرنسي على حساب الذات» مما يعكس مدى انيهاره به. 

أخيرا هل يحق للروائي تجميل صورة الآخر الممستعمرء الذي رفض 
الاعتذار عن جرائمه؟ هل يحق له أن يركز الضوء على جانبه الإنساني, 
حتى إنه يكاد يغفل جانبه العدواني؟ آلا يعني ذلك افتقاد الرؤية المتعددة 
في تقديم الشخصية العربية والفرنسية؟ أي إغفال تعدّد الأصوات في 
الرواية:؛ التي هي إحدى أهم التقنيات التي تمنحها الجمالء والتي تبني 
جسوراء يمكن أن نحل عبرها إشكالية «الأنا» و«الآخر». 


250 





بدت الرواية العربية مع بداية الألفية 
الثااشة. في النماذج السابقة وغيرهاء 
مهمومة بتجسيد إشكالية الأنا والآخر التي 
زادت حدتها إثر أحداث سبتمير 2001. 

ويلاحظ المتأمل أن تلك النماذج 
الروائية أتاحت الفرصة لصوت «الأنا» 
كي يعبر عما يجول في الأعماق من 
مخاوف وإحباطات وآمال. بالإضافة إلى 
ذلك بدأت ظاهرة جديدة تفرض نفسها 
في الرواية العربية. هي الجرأة في نقد 
الذات والآخر معاء من دون أن يؤدي ذلك 
إلى تعزيز الصراع مع الآخر المختلف (في 
الدين أو العرق أو الفكر...). بل حاولت 
بناء جسور التفاهم واللقاء بعيدا عن النفي 
والإقصاءء فرك زت على تقنية الحوار, 
خصوصا بعد أن شاعت في الغرب ظاهرة 
«الإسلام فوبيا» الأمر الذي يعني تشويه 


ا 

«بدأت ظاهرة جديدة تفرض 
نفسها في الرواية العربية, 
وهي الجرأة في نقد الذات 
والآخر معاء من دون أن يؤدي 
ذلك إلى تعزيز الصراع مع 
الآخر المختلف». 





المؤلفة 


251 





إشكالية الأنا والآخر 


«الأنا» على يد الآخر في أخص مكوناتهاء لذلك لمسنا رغبة بعض الروائيين 
المرب في تقديم الثقافة الإسلامية بوجهها المتسامح. كما فعل الروائي 
علي المقري في «اليهودي الحالي» وأهداف سويف في «خارطة حب» كما 
لمسنا تسليط الضوء على روعة حضارة الانفتاح على الآخر المختلف في 
رواية «أرض السواد» لعبد الرحمن منيف في القرن التاسع عشرء وفي 
القرن العشرين «سهرة تنكرية للموتى» لغادة السمان. 

وبدلك تجاوزت الرواية العرييةء التي أصبحت ديوان العرب اليومء 
لغة الهيمنة والاستعلاءء التي تعد مسؤولة عن فرض أحكام مسبقةء 
تشوه صورة «الأنا» مثلما تشوه «الآخر» خصوصا حين حاولت التخلص 
من أحادية اللغةء وبدأت تس تخدم تقنية تعدد الأصوات (اللغات. وجهات 
النظر المختلفة...) التي تفسح المجال لممارسة التعددية في مواجهة «الأنا» 
فتذكر إيجابياتها وسلبياتهاء أي تمارس النقد الذاتي» وبذلك تسهم في 
تعزيز ثقافة الانفتاح حين تستخدم الرؤى المتعددة في تقديم الأنا والآخرء 
فتصبح الرواية إحدى آليات المعرفة الإنسانية. ترصد تفاعلاتها وتزود 
المتلقي بالوعي الذاتي الغيري كما تنعش قيم الجمال في نفسه؛ مما يسهم 
في رسم صورة متوازنة للأنا والآخر, فينمو فكر تعدديء لا يضع من 
يخالفنا الرأي أو العقيدة أو العرق في قالب واحد ينتزع إنسانيته؛ ويمحو 
تنوع أفراده» ليطابق صورة مسبقة عنهء وبذلك يتم التخلص من الإرهاب 
الفكري الذي بات يحاصرنا اليوم. 

وهكذا استطاعت الرواية العربية أن تقرينا من نبض الواقع وحيويتهء 
من دون أن نعيش آليته؛ فتبتعد بنا عن متاهات التنظيرء بفضل امتلاكها 
إمكانات جمالية, تحمل لنا متعة المفامرة في عوالم إنسانية متنوعةء فقد 
اتسع صدرها لرؤى متعددة تفسح المجال لاستجلاء أعماق الأنا العربية 
والآخر معاء فبدت «الأنا» في جميع أحوالها (التابعةء المنبهرة: المتحدية, 
المقاومة...) تواجه الآخر (المعتديء المستعمر, المستوطن...) أو تلتقي به 
لكونه (صديقاء أو زوجاء أو مركز إشعاع إنساني...)؛ وقد تنوعت في هذه 
الدراسة الجنسية التي انتمى إليها الآخر وإن كان قد غلب عليها الأوروبية 
وخاصة الإنجليزية والفرنسية. 


252 





خاتمة 


ومما يسجل لهذه النماذج من الرواية العريية عدم خضوعها للمركزية 
الغربيةء فقد قدمت الآخر (الآسيوي والأفريقي...)ء فقد استطاع الروائي 
الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل في روايته «بعيدا إلى هنا» أن يسلط 
الضوء على صورة الآخر الآسيويء لهذا يعد من أوائل الروائيين العرب, 
الذين أتاحوا الفرصة للهامشي في المجتمع (الخادمة السريلانكية) أن 
تشكل بؤرة مركزية في الفضاء السرديء فأتاح الفرصة للمتلقي» عبر 
انطلاق صوت أعماق آنا «كوماري» في أن يعايش يعدها الإنساني 
ومعاناتها في سياق اجتماعي يقهر أحلامهاء وبذلك ينتقد الروائي «الأنا 
العربية» في تجاوزاتها واستعلائها على الآخر الآسيوي» وقد ساعدته في 
هذه المهمة اللغة الدرامية التي أشاعت في الرواية جوا من التعاطف مع 
الآخر الهامشيء والنفور من القسوة التي اتسمت بها «الأنا» مما يثبت أن 
الإبداع لا يمكن أن ينفصل عن القيم النبيلة. 

أما الروائية المصرية أهداف سويف في «خارطة حب» فقد عادت 
إلى أواخر القرن التاسع عشر, لتبني جسور التفاهم بين «الأنا» والآخر 
«الإنجليزي» لهذا قدمته عبر نمطين «الممتعمر» و«الفنان» ويذلك لم 
نجدها أسيرة مقولات جاهزة شاعت في الرواية العريية حول إشكالية 
«الأنا» والآخرء حيث العربي يغزو الآخر بفحولتهء كما وجدنا في 
رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»»: بل حاولت أن تفسح 
المجال لعلاقة ندية بين «الأنا» والآخر الفنانء عبر زواج ناجح, وبذلك 
لم يعايش المتلقي فهر الأنوثة وجبروت الذكورة بكل إيحاءاتها المجازيةء 
وإن بدت الروائية متحمسة للأناء فقد جعلت الفضاء المصري ملاذا 
آمنا لشخصياتها العريية والغريية؛ لتكشف روعته؛ وانفتاحه الاجتماعي 
والثقافي والديني. 

كما اسستطاعت الروائية أن تتيح الفرصة لانطلاق صوت الآخر «آنا» 
و«إيزابيل» عبر تقنية الرسائل والمذكرات للتعبير عن الأعماق بحريةء كما 
استعانت بالوثيقة التاريخيةء كي تعزز ثقة «الأنا» بذاتهاء فتربطها بإنجازات 
الماضي. وتوحي بقدرتها على تحقيق طموحات المستقبل؛ مادامت تمتلك 
مقومات حضارية أصيلة. 


253 





إشكائية الأنا والآخر 


ويلاحظ المتلقي أن أهداف سويف اس تخدمت الوثيقة التاريخية 
والمذكرات وتقنية الرسائلء من أجل تأسيس علاقة تفاهم بين «الأنا» 
العربية و«الآخر» الإنجليزي» كما سعت إلى تركيز الأضواء على الآخر 
الفنان المحب للشرقء أكثر مما ركزته على الآخر المستعمرء لعلها لا تريد أن 
تسهم روايتها في زيادة التوتر بين «الأنا» والآخرء لكن مما يسجل للكاتبة 
استخدامها لغة النقد ليس للآخر المستممر النقيض ل «الأنا» فقط» بل 
للآخر «الرومانسي» المحب لهاء وذلك لانطلاقه من أوهام وتخيلات تنتزع 
الشرق من وافعيته وهمومه. 

مع الروائية السودانية بثينة خضر مكي في «حجول من شوك» يعايش 
المتلقي معاناة «الأنا» الأفريقية حين تصبح «آخر»» إذ تنتقل إلى العمل في 
بيئة عربيةء تس تعلي عليهاء فنعايش لغة مستبدة ترفض الأخوة الإنسانيةء 
حتى إن كثيرا من المتعصبين يرون في لون البشرة السوداء نفيا للانتماء 
إلى العروبةء لذلك نجد الكاتبة معنية بالرد على هؤلاء. وتدفع بطلتها 
نصرة إلى إيراز وثيقة «نسبها العربي». 

ومما يسجل للروائية قدرتها على تقديم إشكالية «الأنا» والآخر عبر 
لغة رواثية متنوعة (ساخرة: تراثيةء يومية. شعرية). وبذلك حاولت أن 
تمتلك نبرة خاصة بفضل مخيلة تمتح من التفاصيل الحياتية والنفسية 
لتجرية المرأة ومعاناتها الخاصة. 

أما في رواية «ربيع حار» للروائية الفلسطينية سحر خليفة. فيلاحظ 
المتلقي أنها قدمت علاقة متوترة مع الآخرء على الرغم من رغبتها في تجاوز 
الصورة النمطية (الكراهية) التي ترس مها المخيلة العربية للعدو الصهيونيء 
فاختارت بطلا لها (فتى) فلس طينيا في بداية تفتح وعيه؛ يلوذ بموهبته في 
الرسم والأحلام: لذلك لا يرى ضيرا في أن يحب فتاة إسرائيلية تنتمي إلى 
الآخر المستوطن, لكن هذه العلاقة لن تنجح بسبب الظروف التاريخية والقهر 
الذي يعيشه الفتى في المخيم في أثناء الاجتياح الصهيوني للضفة والتربية 
الأنانيةء التي يربى عليها الآخرء إذ تبيح الفتاة «ميرا» لنفسها الاستيلاء على 
ممتلكات الآخرينء لهذا تسرق قطة أحمد وحين يحاول استرجاعها سيتهم 
بالإرهاب ويسجن,» وبذلك ضاعت فرصة بناء علاقة حب مما أفسح المجال 


254 





خاتمة 


لهيمنة مشاعر الكراهيةء فهو لم يستطع أن يتخلص من أوجاع التاريخ (النكبة 
والتشرد والهزائم). كما لم يستطع الآخر النجاة من أفكار استعلائية يربى 
عليهاء ومخاوف أمنية تشكل هاجسه اليومي. 

يسجل للكاتبة محاولتها عدم إغراق الرواية في مستنقع الكراهيةء إذ 
أفسحت المجال لتعدد الرؤى (خوري اللاتين: الذي يعتمد المرجعية الدينية, 
في حين اعتمد دعاة السلام من أجانب ويهود المرجعية العلمانية). لعلها 
تفلح في إخراج صورة الآخر من قالبها العدوانيء أي من نمطيتهاء وتقدم 
الجانب الإنساني الذي تطمره الممارسة العنصرية للعدو الصهيوني. 

أما في ثلاثية رواية «أرض السواد» للروائي السعودي عبدالرحمن 
منيف. فقد عايش المتلقي سؤال'الهوية في مرآة الآخر الغربي؛ فاختار 
لحظة نهوض «الأنا» العربية في القرن التاسع عشرء حيث بدأت تواجه 
الآخر المستعمر مثلما تواجه ظلم المستبدء وقهر الطبيعة؛ لهذا سلط الضوء 
على «الأنا» الجمعيةء فبدت في لحظة تألق تواجه الفيضان: فتوحي 
بقدرتها على مواجهة كل التحديات. 

وقد جمع الروائي بين الوثيقة التاريخية وتفاصيل موحيةء تتعلق 
بالحياة الشعبية» ليقدم رؤى متعددة ل «الأنا» عبر صوت الحاكم داوود باشا 
والقنصل الإنجليزي ريتش الذي لم ير سلبيات الذات العراقية فقط» بل 
تلمس إيجابياتها أيضاء وأعجب بسماتها الحضارية: التي تعترف بالتتوع؛ 
من دون أن تلغي الوحدة. إذ أدهشه تمازج أبناء العراق بكل طوائفهم في 
الأعياد؛ لكن في المقابل وجدنا هذا الآخر مهموما بسرقة الثروة العراقية 
والتراث الحضاري الذي تركه الأجدادء ف «أنا» العربية الضعيفة, لا يحق 
لها امتلاك هذا التراث الغني. 

يسجل للروائي أنه قدم الفضاء العراقي (مدينة بغداد في فصل 
الربيع) عبر رؤى متعددة. تصل حد التناقض بين «الأنا» و«الآخر». إذ 
تتأثر زاوية الرؤية بمدى قرب الشخصية من روح المكانء وبالتالي مدى 
إحساسها بالانتماء إليهء أو غربتها عنه» وإن كان المتلقي قد لاحظ عدم 
استفادة منيف من تقنية تعدد الأصوات في رسم شخصيات تمثل «الأنا» 
كشخصية رجل الدين. 


255 





إشكالية الأنا والآخر 


وإذا كان منيف عاد بفضائه السردي إلى بدايات القرن التاسع عشرء 
فإن الروائي اليمني علي المقري في رواية «اليهودي الحالي» قد عاد إلى 
منتصف القرن السابع عشر لعله يمعن في إبعاد نصه الروائي عن الراهن 
وإشكالاته. خصوصا بعد اغتصاب فلس طينء وبذلك يتم التمييز بين 
الصهيوني المعتدي واليهودي المسالم» لذلك عايش المتلقي في «اليهودي 
الحالي» علاقة حب استتثنائية (بين مسلمة ويهودي) في فضاء يسوده 
التخلف الاجتماعي والسياسي (الاستبداد) ويحاصره التفسير المغلق 
للدين (أي الجهل بروحه السمحة)» فيضيق أفق الإنسان سواء أكان مسلما 
أم يهودياء مما يسهم في تعزيز العلاقة المشوهة بين «الأنا» و«الآخر» فيتم 
اضطهاد «الأنا» و«الآخر» معاء لذلك وحد القهر الاجتماعي بين المرأة 
المسلمة والرجلء. الذي ينتمي إلى الأقلية اليهودية. 

يسجل للكاتب توظيف التناص الديني والفني لبث روح التسامح في 
الروايةء كما أن تقنية العرض المشهدي؛ التي ترتكز على حوارء يتيح للآخر 
التعبير عن ذاتهء مثلما يتيح ل «الأنا». 

كل ذلك يسهم في إزالة الأوهام والأفكار المشوهة, ويؤكد إمكانية 
التواصل بين ثقافتين. تنتميان إلى روح الإنسانء التي أنقذها الجمال 
(الفن) بما يحمله من قيم الخير والعطاء والحب... إلخ. 

أما مع الروائية السورية غادة السمان في رواية «سهرة تنكرية للموتى» 
فإننا نبتعد عن التاريخ: لنعيش هموم الحاضرء إثر الحرب الأهلية اللبنانيةء 
إذ نعايش هموم «الأنا» في علاقتها الإيجابية مع الآخر الغربيء الذي يأتي 
إلى بيروت زائرا لا غازياء على نقيض الصورة النمطية له. لذلك يعايش 
المتلقي الآخر (الفرنسية ماري روز) وهي تبحث في الشرق عما ينقصها 
من دفء إنسانيء لهذا ابتعدت عن الرؤية الرومانسية:؛ التي رسمتها لهء 
وهي بعيدة عتهء لتقترب من وافعه الغني بتنوعه. فتنتقل بين فضاءين 
متناقضين (فضاء الأغنياء وفضاء الفقراء). وبذلك تنجو من أوهامها 
المسبقة:؛ التي حملتها معها من الغرب. في حين بدت «الأنا العربية» في 
لحظة تواجه فيها التشوه. الذي أحدثته الحرب الأهلية في روحها وضي 
مدينتها (بيروت) فدمرت المكان والإنسان معا. 


256 





خاتمة 


نلمس هنا محاولة لمد الجسور بيننا وبين الآخر عبر مشاهد حوارية تبرز 
المأزق الحضاري التى تعيشه «الأنا» إثر الحرب» مثلما يعيشه «الآخره» بعيدا 
عن الصورة النمطية: التي تختزل الشرق في قصص «ألف ليلة وليلة»: ويذلك 
تواجه إشكالية «الأنا» والآخر عن طريق المعايشة اليوميةء والانفتاح» مما يزيل 
سوء التفاهم؛ ويرسم أسسا لعلاقات جديدة بيننا وبين الآخر. 

مع رواية «كتاب الأمير» للروائی الجزائري واسینی الأعرج نعود إلى 
الرواية التاريخية: إذ يعايش الملتقي حضور الآخر المستعمر في صورة 
متلق مضمر يهيمن على وعي المؤلف وذاكرتهء بما يمثله من مرجعية 
فكرية وروحية وجماليةء مثلما يهيمن على الفضساء الروائيء لهذا منح 
المؤلف الراهب الفرنسي ديبوش فضاء سرديا أكبر مما منحه لبطله الأمير 
عبدالقادر الجزائريء إذ انتزع من سيافه التاريخي والثقافي والوجداني؛ 
معايشة الراهب الفرنسي عبر لغة الاعتراف والرسائل» في حين غابت 
لغة الصراع التي تشتد في الأزمات» مع أن الأمير قاتل المستعمر خمسة 
عشرعاماء وعاش لحظات درامية قاسية, لذلك أساء هذا الحرمان 
إلى بناء الشخصية التاريخية. وضيع خصوصيتهاء أي هويتها المتميزة 
التي تؤثر ضي المتلقي. فقد احتفى المؤلف بالآخر الفرنسي على حساب 
شوهت صورة العربي المسلم إثر «سيتمبر 1 أكثر من رسم شخصية 
تاريخية: واجهت المستعمر فترة طويلة من حياتهاء لذلك رسم صورة 
الأمير المتصوف (المنفتح على الآخر) وأهمل المجاهد (المقاتل للمستعمر) 
إرضاء للمتلقي الغربي» ويذتلك هيمن صوت المؤلف على صوت الشخصيةء 
صورته فأصبح مسالا خیراء وأغفل المؤلف «وحشيتة ». لذلك افتقدنا في 
«الأمير» تقنية تعدد الأصوات, التي هي إحدى أهم التقنيات التي تمنح 
الانفتاح على العالم الداخليء الذي يزيل كل الشواثب التي تمزق العلاقات 


257 





إشكالية الأنا والآخر 


الإنسانيةء وتنشر الكراهية؛ لذلك غابت الرؤية الإنسانية وهيمنت الرؤية 
الأيديولوجيةء التي تهتم بحل إشكالية «الأنا» والآخر على حساب الذات 
العربيةء وإغفال خصوصيتهاء التي قد يظنها المؤلف نقيضا للآخر. 

إننا حين نتأمل الروايات الثماني التي تناولتها الدراسةء نجد نصفها يهتم 
بتقديم إشكالية «الأنا» والآخر في إطار واقعيء ينتمي إلى الزمن الحاضر. 
في حين اهتم النصف الآخر بتقديمها في إطار تاريخيء ينتمي إلى القرن 
السابع عشر في رواية «اليهودي الحالي» أو القرن التاسع عشر («أرض 
السواد» «خارطة حب»» «كتاب الأمير») من دون أن يعني ذلك أن الرواية 
التاريخية تشكل هرويا من هم الحاضر إلى الماضي؛ فقد اهتمت معظم هذه 
الرواية بمعالجة إشكالية العلاقة بين «الأنا» والآخر في زمن المستعمرء مما 
ألقى ظلالاء توحي بتوتر العلاقةء الذي مازال مستمرا إلى اليوم. 

كما يمكن أن يسجل للرواية العربية. عبر هذه النماذج المدروسةء رؤيتها 
الموضوعيةء إذ لم تسقظ بالتعميم: بل حاولت أن ترصد الآخر الصديق مثلما 
ترصد الآخر العدوء وإن كانت رواية «خارطة حب» قد تميزت بكونها تجمع 
بين الروايتين التاريخية والواقعية: عبر لعبة الأجيال المتناسلة من القرن 
التاسع عشر إلى القرن العشرينء فقد عايش المتلقي الجدة والأم والحفيدة. 

ويذلك اس تطاعت الرواية العربية أن تنقل إشكالية الأنا والآخر من 
فضائها الفلسفي المجرد والغائم إلى فضاء واقعي» يلوذ بجماليات روائية. 
تعتمد تعدد الأصوات» مثلما تعتمد جماليات العنوان والاسم» والفضاء 
المكاني والزماني. وتحاول رسم شخصية «الأنا» في لحظة مواجهة «الآخر» 
الذي يريد تهميشها أو إلغاء وجودهاء كما تبرز سقطات «الأنا» في التعامل 
مع الآخر الهامشي (الآسيوي والأفريقي). 

وقد أتاحت معظم هذه الروايات للمتلقي» بفضل هذه الرؤى المتعددة, 
أن يدرك أن حياته لن تزدهر في بيئة تهيمن عليها لغة واحدة تعزز العدوان 
والاستعلاءء أي بيئة تعزز عزلة الإنسان عن أخيه في الإنسانية. فتنسى أن 
«الآخر هو أنت» كما يقول باختين. 


هم 


258 





الهوامش 





مقدمة 
(1( د. زكي نجيب محمود «في مفترق الطرق» دار الشروق؛ القاهرة 
بیروت»؛ ط2 3 ص310 . 


)2( علي حرب «الممنوع والممتنع, نقد الذات المفكرة» المركز الثقافي 


)3 أمين معلوف «الهويات القاتلة» ترجمة د . نبيل محسن» دار مورد؛ 
دمشق؛ ط1 09 ص14 . 

)4( دوني كوش «مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية» ترجمة 
د. قاسم مقدادء اتحاد الكتاب العربء دمشق؛ 2003 ص102 - 
3 بتصرف. 

)5( «الممنوع والممتتع» ص1 1 . 

(6) «في مفترق الطرق» ص103 - 104 . 

)7( إدوارد سعيد. برنار لويس «الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام 
الفريية من وجهة نظر أمريكية». دار الجيل؛ بيروت» ط1 .1994« 
ص 6 - 127ء بتصرف. 

)8( تحرير الطاهر لبيب «صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا إليه» 
مركز دراسات الوحدة العربية؛ بيروت. ط1. 1999ء 104 - 106, 
بتصرف. 


9١‏ عبدالله إبراهيم «المركزية الغربية» المركز الثقافي العربي» بيروت:؛ 
الدار البيضاء؛ ط1: 1997 35: بتصرف. 


(10) ثابت مكاوي «إشكالية العقل العربي بين الذات والآخرء والآخر 
الجديد» دار الطليعةء بیروت؛ ط1 005 ص14 ٠.‏ 


(11) إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريائية» ترجمة كمال أبوديبء دار 
الآداب؛ بيروت. ط2. 1998, ص391. 


(12) علي حرب «العالم ومأزقه» المركز الثقافي العربي» بیروت؛ الدار 
البيضاء. ط1. 2002 ص72 . 


(13) «صورة الآخر ناظرا ومنظورا إليه» ص81 . 
(14) د. زكي نجيب محمود «نافذة على فلسفة العصر» كتاب العربي 
السابع والعشرون؛ 15 آبریل؛ 1990ء ص203. 


261 





إشكالية الأنا والآخر 


262 


(15) راجع كتاب محمد كامل الخطيب «تكوين الرواية العريية, اللغة 
ورؤية العالم», منشورات وزارة الثقافة دمشق؛ 1990 5 

(16) د. .حسام الخطيب «روايات تحت المجهر» منشورات اتحاد 
الكتاب, دمشق 1983 ص38 . 


(17) مخائيل باختين «شعرية دوستويفسكي» ترجمة د. جميل نصيف 
التكريتي؛ مراجعة د . حياة شرارة دار توبقال» الدار البيضاء, 
بالاشترا اك مع دار الشؤون الثقافية, بغداد› 6 ص296. 


(18)د . جهاد . عطا ا ي مشكلات السرد الروائي» اتحاد الكتاب 


(19) حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» دار أمواج, بیروت؛ ط4 1992 . 


الفصل الأول 


(1) إسماعيل فهد إسماعيل «بعيدا إلى هنا» دار المدى. دمشق» ط1: 
1 , ص112. 


(2) المصدر السابقء ص117-116. 
(3) المصدر السابق نفسه. ص18. 
(4) نفسه. ص19. 

(5) نفسه. ص27. 


)60 انظر «كراهر اهيات منفلتة» د. نادر كاظم. الدار العربية للعلوم 


(7) «بعيدا إلى هنا» ص20. 

(8) المصدر السابق. ص40. 

(9) المصدر السابق نفسه. ص118. 

(10) «تهج البلاغة» ج3ء شرح محمد عبده» دار المعرفةء بيروت دون 
تاريخ. ص84 . 

(11) «يعيدا إلى هنا» ص101. 


تاشرون. بیروت»؛ ا 2009. 





الهوامشن 
(13) «بعيدا إلى هنا» ص130 ٠.‏ 


(14) إسماعيل فهد إسماعيل «يحدث أمس» إسماعيل فهد إسماعيلء 
دار المدى؛ طا 07 ص90. 


(15) شهادة إسماعيل فهد إسماعيل» الرواية العربية «ممكنات السرد» 
أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر 11 
- 13 ديسمبير 2014 ص 245. 

الفصل الثاني 

)1( أهداف سويف «خارطة حب»» ترجمة فاطمة موسسی؛ مكتية 
الأسرة: القاهرةء 2003ء ص 255 

(2) المصدر السابق» ص 301. 

)3 جورج طرابيشي «شرق وغرب.. رجولة وأنوثة» دراسات في أزمة 


١ 7 


(4) المصدر السابق نفسهء ص 199 . 
(5) نفسه. ص333. 

(6) نفسه. ص412. 

(7) نفسه» ص133 . 

(8) نفسه» ص160 . 

(9) نفسهء 427. 

(10) نفسه. ص204 - 205. 

(11) نفسه» ص378 . 

(12) نفسه» ص420. 

(13) نفسه. ص40 بتصرف. 


)14( عبدالرحمن الرافعي «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال» 
(1892-1882) دار المعارف, القاهرة. ط4 1983 ص139. 


(15) أهداف سويف «خارطة حب» ص41. 
(16) د. مكي شبيكة «تاريخ شعوب وادي النيل في مصر والسودان 


263 





إشكائية الأنا والآخر 


264 


في القرن التاسع عشرهء دار الثقافةء بيروت» من دون تاريخ, 
ص685), بتصرف. 

(17) أهداف سويف «خارطة حب» ص100. 

(18) المصدر السابق» ص39. 

(19) المصدر السابق نفسه. ص196 . 

(20) نفسه. ص223 - 224. 

(21) «خارطة حب»؛ ص210. 

(22) المصدر السابق. ص214. 

(23) المصدر السايق نفسه. ص178-177 . 


(24) أسامة بن منقذ «كتاب الاعتبار» تحقيق د . عبدالكريم الأشتر, 
المكتب الإسلامي: بيروت. ط2 2003. ص224 - 225. 


(25) «خارطة حب» ص229 . 
(27) تييري هنتش «الشرق الخيالي ورؤية الآخر» صورة الشرق فى 


المخيال الغريي» الرؤية السياسية الغربية للشرق المتوسط» ترجمة 
کہ٠‏ مي عبدالكريم محمود؛ دار المدىء دمشق؛ 2006ء ص99. 
(28) «خارطة حب» ص133 . 


(29) سوزان موللر أوكين «النساء في الفكر السياسي الغربي» ترجمة 
إمام عبدالفتاح إمامء المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة. 22002 
ص 281. 

)232 آنا مارى شيمل «الشرق والغرب» ترجمة عبدالسلام حیدر؛ 
المجلس الأعلى للثقافة؛ القاهرة؛ ط1. ص42 و43. 

(33) «الشرق الخيالي ورؤية الآخر» ص82 بتصرف. 

(34) نفسه. ص95, بتصرف. 

(35) د. أنطوان سيف «وعي الذات وصدمة الآخرفى مقولات العقل 
الفلسفي العربي» دار الطليعةء بيروت. ط1. 2001. ص20. 





الفصل الثالث 


)1( د .عون الشريف قاسم «قاموس اللهجة العامية في السودان» الدار 
السودانية للكتب» الخرطوم» ط3. 2002 ص232 . 


(2) بث بثينة خضر مكي «حجول من شوك» دار سدرة؛ الخرطوم» ط1ء 
4 ص90. 


(3) المصدر السابقء ص9. 

(4) المصدر السابق نفسه» ص33. 
(5) نفسه» ص59. 

(6) نفسه» ص34. 

(7) نفسه» ص37. 

(8) نفسه. ص26 - 27. 

(9) نفسه. ص42. 

(10) نفسه» ص36. 


(11) نادر كاظم «تمثيلات الآخر. صورة السود في المتخيل العربي الوسيط» 
المؤسسة العريية للدراسات والنشر؛ بیروت؛ ط1ء 204 ص551. 


(12) «حجول من الشوك». ص89. 
(13) روى هذا الحديث ابن كثير عن معاذ بن جبل. 


)14( الإمام علي ین أبي طالب کرم الله وجهه «نهج البلاغة» (ج3) 
شرح محمد عبده» دار المعرفةء بيروت» من دون تاريخ, ص 


(15) «حجول من شوك»: ص72 . 
(16) المصدر السابق. ص 58. 


الفصل الرابع 
(1) سحر خليفة «ربيع حار» (رحلة الصبروالصيار) دار الآداب. 
بیروت؛ ط1 04 ص14 ٠.‏ 


,2( المصدر السابقء ص38 . 


265 





إشكالية الأنا والآخر 


(4) نفسه. ص180 . 


(6) إريك إيمانويل شميدت «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» ترجمة 
خالد الجبيلي» دار وردء دمشق. ط1ء 2004 . 


(7) «ربيع حار» ص229. 
(8) القرآن الكريم. سورة (آل عمران)» آية 169. 
(9) «ربیع حار» ص319. 

(10) المصدر السابق. ص328 بتصرف. 

(11) المصدر السابق نفسه. ص360 . 

(12) نفسه» ص372 و373. 


الفصل الخامس 


)1( عبدالرحمن منيف «أرض السواد» ج1 المركز الثقاضي العربيء 
بیروت؛ الدار البيضاء طاء 9 ج1: ص291. 


)2( المصدر السابقء ج22 ص81 . 
(3) المصدر السابق نفسه» ج3 ص122 - 123. 
(4) نفسه؛ ج1 ص415. 


(5) عبدالرحمن منيف «الكاتب والمنفى» دار الفكر الجديد؛ بيروت؛: 
ط1 1992. ص287. 


(6) «أرض السواد» ج1 ص517. 
(7) المصدر السابق؛ ج1» ص367 . 

(8) المصدر السابق نفسه» ج2. ص296 - 297. 
(9) نفسه. ص304. 

(10) نفسه؛ ج3 ص126. 

(11) «الكاتب والمنفى» ص396. 

(12) سورة التوبةء آية 103. 

(13) «أرض السواد» ج2. ص192. 


266 





الهوامشض 
(14) المصدر السابق. ج2,. ص192 - 193. 
(16) نفسه. ج2 ص201 - 202. 


(17)هومي .ك .يابا «موقع الثقافة»ت . ثاثردیب» المشروع القومي للترجمة؛ 
المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة. ط1. 2004. ص163؛ بتصرف. 


(18) «أرض السواد» ج1 ص102 . 
(19) المصدر السابق. ج1 ص384. 

(20) المصدر السابق نفسهء ج3 ص201. 
(21) نفسه؛ ج1؛ ص261.. 

(22) نفسه. ج1. ص400. 


(23) سيد ياسين «الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر» 
مكتية مدبولي» القاهرة, ط1. 13 ص95. 


(24) «أرض السواد» ج1 ص377. 
(25) المصدر السابق. ج1 ص721. 
(26) المصدر السابق نفسه» ج3. ص131. 
(27) نفسه» ج1 ص385 . 

(28) نفسه؛ ج1» ص457. 

(29) نفسه؛ ج1. ص51. 


(30) راجع فريال. ج. غزول «أرض السواد صياغة جديدة لتاريخ 
الشعب في العراق» في «عيدالرحمن منيف 2008« وهو كتاب 
تكريمي ألفه مجموعة من الباحثين: صدر عن المؤسسة العريية 
للدراسات والنشرء بيروت. المركز الثقافى العريىء الدار البيضاء 
ط1. 2009. ص170 . 1 1 


الفصل السادس 


(1) علي المقري «اليهودي الحالي» دار الساقيء بيروت. ط2 2011ء 
(ط1 .2009( ص10 . 


(2) المصدر السابق» ص72. 


267 





إشكالية الأنا والآخر 


268 


(3) المصدر السابق نفسه» ص61ء بتصرف. 
(4) نقسه» ص27. 

(5) نفسه. ص 101. 

(6) نقفسه» ص112 . 

(7) نفسه. ص97. 

(8) القرآن الكريم. سورة آل عمران: الآية 64. 


)202( د. كامليا أبو جبل «يهود اليمن»»؛ دار النميرء دمشق» ط1 21999 
ص 158. 


(10) المرجع السابق. ص156. 157. 
(11) «اليهودي الحالي» ص22. 
(12) المصدر السابق. ص71. 

(13) المصدر السابق نفسه. ص52. 
(14) نفسه.23. 

(15) نفسه. ص32 . 

(16) نفسه. ص77 78. 

(17) نفسه. ص82 . 

(18) نفسه. ص11 . 

(19) نفسه. ص13 . 

(20) نقسه. ص15 16. 

(21) نفسه» ص17 . 

(22) تنفسه» ص21. 

(23) نفسه. ص74 . 

(24) القرآن الكريم؛ سورة الحجرات. الآية 13. 


(25) علي حرب «خطاب الهوية. سيرة فكرية» دار الكنوز الأدبية, 
ط1.؛ بيروت. 1996: ص128 . 


(26) «اليهودي الحالي» ص83. 





(27) المصدر السابقء ص102 . 

(28) المصدر السابق نفسه» ص107 . 

(29) تفسه. ص111. 

(30) نفسه. ص24. 

(31) نفسه. ص36. 

(32) نفسه. الصفحة نفسها. 

(33) نفسه. ص37, بتصرف. 

(34) نفسه. ص46. 

)35( عللتمسغط. 56694 7ع هناعه. لطقط http://www‏ 
هو الحاخام سالم بن يوسف الشبزي (1619 - 1720) مواليد مدينة 
تعز. عمل خياطا وكتب الشعر باللغتين العربية والعبريةء ووضع كتاب 
الديوان الذي احتوى على 550 قصيدة, واختلف في إسلامه. 

(36 «اليهودي الحالي» ص35. 


الفصل السابع 
(1) غادة السمان «حفلة تتكرية للموتى». منشورات غادة السمان» ط1ء 
بيروت. 2..3: ص28 . 
(2) المصدر السابق؛ ص42. 
(3) المصدر السابق نفسه. ص 141 . 
(4) نفسه. ص122. 
(5) نفسه. ص88 . 
(6) نفسه. ص11. 
(7) نفسه. ص38. 
(8) نبيل سليمان «وعي الذات والعالم» دار الحوارء اللاذقية. ط1: 
95 ص163. 
الفصل الثامن 


(1)واسيني الأعرج «كتاب الأمير» منشورات الفضاء الحرء الجزائر, 
ط1. 2004. ص532 . 


269 





إشكائية الأنا والآخر 


(2) المصدر السابق» ص515. 

(3) القرآن الكريم › سورة المائدة الآية32. 
(4) «كتاب الأمير» ص358. 

(5) المصدر السابق. ص363. 

(6) المصدر السابق نفسه؛ ص368 . 

(7) نفسه. ص368 . 

(8) نفسه. ص111. 

(9) نفسه. ص156. 

(10) نفسه؛ ص251. 


(11) عبدالقادر الجزائشري «مذكرات الأمير عيدالقادر» تحقيق 
د. متحمد الصغير بناني؛ د محفوظ ساي د . محمد د الصالح 


(12) كتاب الأمير. ٠.264‏ 

(13) المصدر السابق. ص345. 

(14) المصدر السابق نفسه. ص265. 

(15) نفسه. ص196 . 

(16) نفسه. ص370. 

(17) نفسه. ص181. 

(18) نفسه» ص310. 

(19) نفسه. ص391. 

(20) نفسه. ص345. 

(21) نفسه. ص 447. 

(22) نفسه. ص128. 

(23) القرآن الكريمء سورة المائدة الآية 82. 

(24) برونو إيتيين «عبدالقادر الجزائري» ترجمة ميشيل خوريء دار 
عطيةء بيروت. دمشق. ط1. 1997. 


270 





الهوامش 
(25) «كتاب الأمير» ص232. 
(27) المصدر السابق نفسه. ص237. 
(28) نفسه. ص245. 


4 راجع د . أبو القاسم سعد الله «تاريخ خ الجزائر الثقاضي»» ج‎ )29١ 
دار الغرب الإسلامي؛ بيروت, 1998ء ص202.‎ )1954 - 1830( 


(30) عبدالقادر الجزائري «المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في 
دين الإسلام بالباطل والإلحاد» ص137 . 


(31) د. فيصل دراج «الرواية وتأويل التاريخ» المركز الثقافي العربي. 
الدار البيضاء بیروت» ط1ء 2004« ص17 . 


(32) «كتاب الأمير» ص181 - 182. 

(33) المصدر السابق. ص464. 

(34) المصدر السابق نفسه» ص473. 

(35) برونو إيتيين «عبد القادر الجزائري» ملحق الوثائق التاريخيةء 
ص 266. 

(36) نفسه. ص542 . 

(37) راجع كتاب «فكر الأمير عبدالقادر الجزائري» وكتاباه «وشاح 


الكتائب» والمقراض | الحاد » تاليف وتحقيق , الأميرة بديعة 6 الحس ني 


(38) برونو إيتيين «عبدالقادر الجزائري» ملحق الوثائق التاريخيةء 
ص167. 


(39) «کتاب الأمير» ص44. 


(40) عبدالقادر الجزائري «المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في 
دين الإسلام بالباطل والإلحاد» ص137. 


(41) «كتاب الأمير» ص45. 

(42) المصدر السابق» ص 43. 

(43) المصدر السابق نفسه. ص432. 
(44) نفسهء ص51. 


271 





إشكالية الأنا والآخر 


272 


(45) نفسه» ص45. 
(46) نفسه» ص180 . 
(47) نفسه. ص159 . 
(48) نفسه. ص409. 
(49) نفسه» ص520. 


(50) الأميرة بديعة ة الحمسني الجزائري «دراسة لكتاب تحفة ة الزائر 
ومآثر الأمير عبدالقادر» لحمد باشا ٠‏ طبعة خاصة دمشق. 
9 ص56. 


(51) كتاب الأمير ص237. 

(52) المصدر السابق ص83. 

(53) المصدر السابق نفسه. ص82. 

(54) نفسه. ص452. 

(55) نفسه. ص464. 

(56) (سورة النساء الآية 102). 

(57) «كتاب الأمير» ص456. 

(58) المصدر السابق. ص 510. 

(59) المصدر السابق نفسه. ص 443 . 

(60) راجع كتاب «الأمير عبدالقادر الجزائري وأدبه» عبدالرزاق بن 


السبع؛ مؤسسة البابطين للإبداع الشعريء عبر هذا الرابط: 
http://www.albabtainprize.org/Default.aspx?Pageld=91 &bid=8‏ 





المؤلفة في سطور 


د. ماجدة محمد حمود 
٭ من مواليد دمشق 15 نومير 1954. 
* أستاذة في جامعة دمشق - قسم اللغة العربية. 
* حصلت على الماجستير في الأدب العربي الحديث؛ والدكتوراه في 
النقد العربي الحديث. 
* لها عدد من المؤلفات الأدبية والنقدية من بينها: 
1 -«التقد الأدبي الفلسطيني في الشتات» دار كنعان» دمشق؛ 


ط1. 1992. 
2 - «القلق وتمجيد الحياة» بالمشاركةء المؤسسة العربية للدراسات 
والنشر, دبروت؛ ط1 1995 95 


3 - «رواية الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران» 
دار الأهاليء دمشقء ط1ء 1997 . 

4 - «علاقة النقد بالإبداع الأدبي» وزارة الثقافة. دمشق. ط1. 1997 . 

5 - «نقاد فلسطينيون في الشتات» دار كوثاء دمشق. ط1. 1998 . 

6 - «مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن» اتحاد الكتاب العرب» 
دمشق» ط1. 2000. 

7 - «الأدب المقارن: مدخلات نظرية ونصوص ودراسات تطبيقية» 
اشر كةء منشورات جامعة دمشق» ط1ء 2001. 

- «الكواكبي فارس النهضة والأدب» اتحاد الكتاب العرب» 

دمشق. ط1. 2002. 

9 - «الخطاب القصصي النسوي: نماذج من سورية» دار الفكر. 
دمشق. ط1. 2002. 


273 





2/4 


0 -«جماليات المغامرة الروائية لدى غادة السمان» دار الطليعة, 
بيروت. ط1: 2005. 

1 - «جماليات الشخصية الفلسطينية لدى غسان كنفاني» دار 
النميرء دمشق» 2005. 

2 - «رحلة في جماليات رواية أمريكا اللاتينية» اتحاد الكتّاب 
العرب» دمشق. 2007. 

3 - «عبدالرحمن منيف 2008» بالمشاركة؛ المؤسسة العربية 
للدراسات والنشر, المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع. 
بیروت» ط1. 2009. 

4 - «صورة الآخر في التراث العربي». الدار العربية للعلوم 
ناشرون» بيروت» دار الاختلاف الجزائر. 2010. 





هذا الكتاب 

يحاول هذا الكتاب طرح قضية «إشكالية الأنا والآخر» التي تؤرقناء 
مثلما أرقت الرواية العربية. خاصة عقب أحداث سبتمبر 2001. حيث 
ألحقت ب «الأنا» تهمة الإرهاب. 

كما يسعى الكتاب إلى إبراز خطورة الإرهاب الفكريء الذي يؤدي 
إلى «إرهاب» يدمر إنسانية الإنسان: مما يؤدي إلى نفي الآخر المختلف 
(عرقياء دينياء فكريا ...): إذ يبيح هذا القتل المعنوي للآخر تصفية جسده 
في نهاية المطاف. من هنا تبرز أهمية الانفتاح» واحترام الاختلاف. فنحن 
اليوم على مفترق طرق فإما أن نكون أبناء الدمار» حين لا نسمع سوى 
صوتنا. وإما أن نكون أبناء الازدهار حين نعترف بالآخر شريكا لنا في 
العا فنضغى إليه كفا نف لنواتها. ١‏ 

ولتوضيح هذه القضية اختارت الكاتبة ثماني روايات: تنتمي إلى 
عدة بلدان عربية (فلسطين. الكويت» السعودية؛ اليمن. سورية. مصرء 
السودان: والجزائر).: كتبت بين عامي 1999 و2009: في محاولة 
للاجابة عن الأسئلة التالية: 1 

- هل لجأت الرواية العربية إلى بناء جسور للتفاهم بين «الأنا» 
و«الآخر»؟ وكيف5 

- ما مدى حضور لغة العنف في تجسيد إشكالية «الأنا» و«الآخر»ة 

- هل قدم الروائي العربي رؤى متعددة لهذه الإشكالية؟ 

- هل انطلق من نظرة واحدة إقصائية تنزه «الأنا» وتحتقر كل من 





يختلف معها؟ 
- هل أفلح في نقد الذات بشأن التعامل مع الآخر الهامشي (الآسيوي 
والأفريقي)؟ 


- هل اهتم بتقديم لغة خاصة ب «الأنا» أم اهتم بتقليد الآخرة 


ISBN 978 - 99906 - 0 - 384 - 2‏ 
رقم الإيداع (2013/53)